هناك تجربتان شاهدتهما في معرضين.. وأراهما تنافسيتان بين الكلمة المكتوبة واللوحة المرسومة حول نص أدبي.. الأولي للفنانة الرائعة نازلي مدكور برسمها لبعض من قصص ألف ليلة وليلة لأديب مصر نجيب محفوظ في كتاب الفنان في حجمه الضخم والذي طبعته مؤسسة أمريكية في ألف نسخة فقط منذ سنوات قليلة.. والتجربة الثانية للفنان رضا عبدالرحمن الذي استوحي لوحات معرضه الأخير بمركز الجزيرة للفنون من كتابات حول التأملات القصصية من وحي التاريخ للكاتب الكبير محمد سلماوي بعنوان (عشر برديات مصرية).. وعادة يقال إن الرسام حين يرسم في مقابل نص أدبي يرسم تحت وطأة النص المكتوب ليكون رسمه مُعادلاً بصرياً للنص.. وهذه العلاقة تجعل المصادرة مسبقة علي النص البصري أو اللوحات لأنها تصبح أسيرة وداخل دائرة مغلقة عليها بحدود النص المكتوب الذي يحكم عليها علي قدر قدرتها علي التعبير الموازي عنه وله.. ويأتي البعض ليقول إن هذا يُعد تواصلاً أو تكاملا بين التجربتين المقروءة والمرئية لموضوع واحد.. لكني أراها تصبح فقط تجربة ناجحة وتستحق العرض إن نجح الفنان في تخطي السقوط داخل دائرة الوصف للنص المكتوب وألا يكون صورة من شيء.. لأن الفنان الحقيقي هنا هو منافس لذاته ولصالح عمله وليس لصالح الكاتب حتي ولو بدا الظاهر عكس هذا وإلا أصبحت اللوحة وثيقة سردية أو تفسيرية للنص المكتوب ويصبح الفنان ما هو إلا منفذ بصري توضيحي وصدي لرؤية الآخر وكل فنان يهمه تأكيد ذاته في التجربة وأنها تخصه بنفس قدر الكاتب.. لذلك احترم الفنان الذي يجعل ذاته التعبيرية هي الفاعلة وليس ذات الآخر إن كان فعلاً يقدم إبداعاً حتي لا يضع نفسه ولوحاته دائمًا تحت رحمة النص.. لذلك هو اختيار تنافسي مؤلم من الفنان لالتقاط روح النص وليست عملية معادلية أو صدي تكراري للغتين لهما مفردات مختلفة.. أعود لتجربة الفنان رضا الأخيرة.. التي أقام إبداعها عن إبداع كاتب معاصر كبير عن إبداع قديم مستحضرًا فيه الكاتب محمد سلماوي اهتمامه الرمزي اللاظاهر لصوت الكلمة الحكائية في البردية والتي هي أيضًا من إبداع آخر.. إذن التجربة بالنسبة للرسام هي إبداع عن إبداع عن إبداع.. وقد بدا الفنان رضا مجاهدًا في غالب اللوحات فقد أقام إبداعه علي إبداع الآخر أيضًا.. أي أن الاثنين وهما الكاتب والفنان مرًا بتجربة غاية في الصعوبة ليقدما لإبداع عن إبداع دون أن يفقدا ذاتهما خلال منهجين مختلفي الطرح للمقروء والمرئي.. وتشكيلياً أعتقد أن الفنان رضا عبدالرحمن نجح بشكل رائع في أربع لوحات جذبتني في معرضه الذي ضم أحد عشر لوحة في أن يكون معبرًا معاصرًا بأسلوبه عن روح نص قديم وليس مفسرًا وصفي للبرديات الأربع وهي: «نبوءة عجوز الصحراء».. «التابوت الذي ابتلعه البحر».. «إثنتا عشر سعفة ذهبية».. و«القلادة التي انفرطت».. وأراهم أكثر روعة في المعالجة برؤية معاصرة.. والذي بدا فيهم رضا منافسًا شديدًا لإبداع سلماوي عن إبداع توثيقي قديم وليس مقدماً لرؤية متوازية وصفية للنص.. أما في باقي لوحات المعرض بدا رضا مقدمًا للظاهر مستعينًا بمفردات بصرية من إبداع الفنان المصري القديم محفوظة لم تسبر غور غلالة الظاهر.. فسلك نفس المنهج المصري القديم في توصيفهم للرواية الحكائية بمفرداتها وعناصرها وأوضاعها وعلاقة العناصر ببعضها البعض إلا أنه بمهارة أدخل عناصر وعلامات دقيقة سابحة داخل نطاق الشكل. بينما لوحاته الأربع التي سميتها قبلاً فقد بدا فيها منافسًا مبدعًا تشغله بصمته المعاصرة في التعبير عن القديم المألوف التناول.. فنري في لوحاته الأربع نجاحًا حققه في قدر التقاط العلامات التي تشكلت مستجيبة للعديد من المفاهيم البصرية لكلمات سلماوي وما تحمله الكلمات من مضامين رمزية أفسحت المجال لإبداع فيه تناظر بين الحكمة المروية القديمة والرمزية في النص الحديث استشفه الكاتب الكبير بقراءة معاصرة عن إبداع قديم متخف وراء ظاهر الكلمات في رمزية للإيحاء بقصص تفتح لآفاق جديدة تطل علي أسرار وعلامات الكون التي لا قرار لها والتي عليها التقط الرسام في لوحاته الأربع روحها وليس جسدها لذلك جاءت تلك اللوحات مزودة بحداثة لمعان من نفس الفنان لهذه الرؤية للبردية حديثة التناول والتي رغم اختلاف الزمان والبشر إلا أنها بدت تتهادي نافذة لآفاق رحبة حول حكمة الزمن واتفق هذا واللاظاهر في البردية القديمة كما أدركه سلماوي رمزيًا وهو السر المصري الأكبر المتمثل في استمرارية هذا البلد بعناد داخل الزمان والمكان محافظة بإصرار علي شكل ومضمون وحكمة حضارتها والتي إبداعاتها الأدبية التوثيقية تُعد جزءاً مهماً في الحفاظ علي ذاكرتها القديمة والتي نري هؤلاء الفراعنة وقد نجحوا بذكاء في جعلنا حتي اليوم نتناول معطياتهم الذهنية المبدعة كامتداد لذاكرتهم من خلال الكثير من الأدبيات أو البصريات وآخرها برديات سلماوي العشر ولوحات رضا بين التفسيرية والمعاصرة والتراكمية.. خاصة والنثر السردي للبرديات يقدم صورة بصرية للكلمة المكتوبة يمكن إدراكها بسهولة بينما تقدم رمزاً يحتاج لذهن واع مدرك.. وقد بدا من اللوحات الأربع بجلاء روح مصر الذي هو في ظاهره مشرق بينما هو وجه يكسوه الحزن بشكل واضح.. أما كلمات سلماوي في طرحه للبردية نراها وقد بدت كتعويذة خاصة بتلك الترديدات الطويلة كناقوس يُدق عليه بمطرقة فالكلمات تتتابع صورًا وكأنها لوحة تأثيرية بكل تفصيل منها الجزء يتلو الآخر ندركه جزءًا جزءًا ولا يمكن إدراكها دفعة واحدة إلا من خلال الرسم الذي نحيط به في نظرة واحدة متحللة من الزمن الذي يربطنا بالنص خلال قراءته.. وهنا أيضًا اختلاف في الوسيط بين سلماوي ورضا.. فوسيط سلماوي وهو كقراءة صوتية يعمل كامتداد في الزمن معتمدًا علي كلمات تهتم بالصورة رافضة فكرة التجريد معتمدة علي الصيغ والعبارات الممتدة سردًا لكلمات حكائية تجمعت كلوحة موحية بالواقع وبالبعد عنه في نفس الوقت وأيضًا بالرمزية.. بينما وسيط رضا بدا متهاديًا ضبابيًا في غموض فوق سطح اللوحة أي فوق ساحة المكان دفعة واحدة.. ولتبدو أحيانًا لوحاته الأربع الأكثر روعة في المعرض كأنها مشاهد متعددة لروح واحدة يمكن أن يُدرك من وحيها ما يكشف عن ذلك السحر والسر اللامدرك لديمومة الروح المصرية..