أكد تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2010 حول "حقوق الإنسان " في 159 بلدا في العالم، أن الاعتبارات السياسية لاتزال تتغلب علي قيمة العدالة فيما يتعلق بقضية حقوق الإنسان في العالم، وأن الدول القوية تتلاعب بالقانون، وتحمي حلفاءها من المساءلة، ولا تلتفت إلي معيار العدالة، إلا إذا كان الموقف يتفق مع مصالحها . ويؤكد تقرير منظمة العفو الدولية أن سبعًا من دول مجموعة العشرين، وهي الولاياتالمتحدة، والصين، والهند، وأندونيسيا، وروسيا والسعودية، وتركيا، ترفض الاعتراف بسلطة المحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها أول محكمة دولية دائمة مهمتها ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والإبادة . وعلي الرغم من أن تقرير حقوق الإنسان احتفي بحقيقة تدعو للتفاؤل وهي أنه لم يعد ممكنا في عالم اليوم أن يفلت مرتكبو الجرائم من الإدانة، والمحاسبة، والوقوع تحت طائلة القانون، إلا أن تقرير منظمة العفو الدولية نفسه، صدر في ظل اعتراف مؤسسات دولية بما أطلق عليه "سقوط قضية حقوق الإنسان "، وصمت الدول الكبري عن انتهاكات هذه الحقوق، وتخلي ديمقراطيات العالم عن الدفاع عن المستضعفين في الأرض، والمنتهكة حقوقهم، ويكتفي الجميع الآن بإلقاء الخطب الرنانة في الاحتفال بذكري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . وينعي الكثيرون عن تخلي المجتمع الدولي عن رفع راية الدفاع عن حقوق الإنسان، وفي ذلك يقال إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عند زيارته منذ عدة أشهر للصين، لم يعن بمسألة حقوق الإنسان في الصين، مما أوقف تقليدا أمريكيا في هذا الشأن استمر طوال ثلاثة عقود في الإدارة الأمريكية، علي الرغم من سمة القمع التي يتميز بها عهد هوجنتاو. أما الدول الأوروبية فقد قامت في مطلع عام 2010 بتسليم رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهي من المنظمات الأساسية التي يقع علي عاتقها ترويج حقوق الإنسان في أوراسيا، إلي كازاخستان، وهي الدولة التي تتهمها مجموعات حقوق الإنسان بارتكاب ممارسات تعذيب واعتقالات تتناقض جذريا مع اعتبارات العدالة والقانون . أما استراليا التي طالما انتقدت ممارسات الصين ضد حقوق الانسان، وانتهاكات الأنظمة الأوتوقراطية، فإنها حاليا تتعاون مع هذه الدول، بهدف منع اللاجئين من سيريلانكا ودول أخري من التسلل إلي أراضيها، بل إنها تحتجز عددا من المهاجرين في معسكرات شبيهة بمعتقل "جوانتانامو " الأمريكي في جزيرة كريستماس النائية . وبوجه عام، يتردد أن العالم اليوم تسوده "واقعية جديدة " تسقط قضية حقوق الإنسان من حساباتها . نكسة حقوق الإنسان وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية، فإن عام 2009 شهد بدايات ايجابية مع وعود وقرارات الرئيس أوباما بوضع نهاية لبرامج الاستخبارات الأمريكية للاستجواب والتعذيب، ولكن، مع نهايات العام، استمر معتقل جوانتانامو مفتوحا . زيادة علي ذلك، أكد تقرير أصدرته الأممالمتحدة أن الولاياتالمتحدة تحتفظ بمنشآت، وسجون سرية، تديرها الاستخبارات الأمريكية في 66 دولة في جميع أنحاء العالم ، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. ويقول تقرير الأممالمتحدة إن واشنطن لجأت إلي تأسيس شبكة دولية في عدة دول منها :الهند، وروسيا، وزيمبابوي، وبولندة، ورومانيا، ودول عربية، لنقل السجناء إليها، واستجوابهم، مما يشكل مشكلة خطيرة علي النطاق العالمي، ومما يرقي إلي جريمة ضد الإنسانية. أما عن نوعية انتهاكات الدول لحقوق الانسان كما رصدها تقرير منظمة العفو الدولية فهي متنوعة، علي الوجه التالي: عدم التسامح مع المعارضة والانتقادات السياسية (دول عربية، إيران، منطقة شمال افريقيا)، اتساع نطاق الاعتقال والتضييق علي المدافعين عن حقوق الانسان وقمع الاحتجاجات (الصين في اقليم شينجيانج، وميانمار)، العنف ضد المدنيين (في البرازيل، وجامايكا، وكولومبيا، والمكسيك)، القتل غير المشروع علي أيدي قوات الأمن وانتهاكات حقوق الانسان بما يتصل مع ما يطلق عليه مكافحة الإرهاب(الولاياتالمتحدة)، الافراط في استخدام القوة، وارتكاب اعمال قتل بصورة غير مشروعة (في أفريقيا، في غينيا، ومدغشقر)، التمييز في الحقوق، بما في ذلك حق السكن والتعليم ( دول اوروبية ضد حقوق " الروما ")، تهديد أرواح المهاجرين وطالبي اللجوء (إيطاليا)، اجلاء قسري والوقوع في هوة الفقر (كمبوديا) . مرارة الواقع الدولي يقول الكاتب الأمريكي جوشوا كورلانتزيك " لقد انهار عصر الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، وحلت مكانه حقبة من الواقعية لم نشهد لها مثيلا منذ زمن بعيد، منذ زمن وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، والرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون " . هذه الواقعية الجديدة في التعامل مع قضية حقوق الإنسان تتجسد في سلوكيات الدول التي لاتؤيد، ولاتضغط من اجل إعمال مبدأ " المحاسبة " إلا إذا كانت لها مصلحة سياسية في هذه الخطوة، حيث تفضل الدول مبدأ التضامن الإقليمي، علي ضمان حقوق المنتهكة حقوقهم، ولهذا، فقد وقفت الولاياتالمتحدة، وبعض الدول الأوروبية إلي جانب إسرائيل، رافضة إدانتها، أو إخضاعها لإجراءات المحاسبة الدولية بشأن ما ارتكبته من جرائم الحرب ضد الإنسانية في قطاع غزة، هذا، بالرغم من أن القاضي ريتشارد جولدستون الذي عين لاحقا لإجراء التحقيق أصر علي أن تقوم بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بفحص الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل . غير أن مرارة الواقع الدولي بشأن تردي حالة قضية حقوق الإنسان لاتعكسها فقط حقائق الانتهاكات المتمثلة في القتل والتعذيب والدمار، وإنما تجسدها أيضا نماذج " الحرمان" التي يتعرض لها الملايين في العالم من حقوق، لا عيش بكرامة من دونها، علي اعتبار أن حقوق الانسان كل لا يتجزأ، وبالتالي فإنه يتعين التصدي محليا ووطنيا وعالميا لهذه السلبيات ومنها أزمات الغذاء، والطاقة، والأزمة المالية. ونتيجة التقاعس في حل هذه المشكلات، فإن ملايين البشر يعيشون في حرمان من حقوق الرعاية الصحية، والتعليم، والسكن الملائم، فضلا عن انتشار الفقر ومضاعفاته ( في كل عام، تموت أكثر من مليون امرأة بسبب ضعف الرعاية الصحية أثناء الحمل، كما تؤثر انتهاكات حقوق الإنسان علي معدلات وفيات الامهات الحوامل في سيراليون، وبيرو، وبوركينا فاسو، ونيكاراجوا) . وبناء علي ذلك، فإن مساحة المعاناة في العالم تتناول من يعانون من تحطم آمالهم تحت وطأة القمع، والعنف، والتمييز، والتلاعب بالسلطة، والنفوذ، والنزاعات السياسية . ويؤكد التقرير أن العالم في حاجة إلي " فكر جديد " في مجال حقوق الإنسان، هذا الفكر يتعين أن يتجه إلي تغيير الظروف السيئة التي يعيش فيها الناس وتنطوي علي انتهاكات لحقوقهم، وفي هذا الصدد أشار تقرير منظمة العفو الدولية إلي ظروف السكان في "العشوائيات" ومعاناتهم الحياتية فيها، ولم يعد ممكنا أن تتذرع الدول بقلة الموارد والامكانيات، ذلك أن المسألة تتعلق أساسا بسياسات الدول والحكومات، ونمط التوزيع العادل للموارد، وعدم اهدارها، وتوجيه الاهتمام لاقتلاع الفقر، وإعمال مبدأ " المحاسبة " ضد الفساد، واستغلال النفوذ، ذلك أن الهدف الحقيقي في قضية حقوق الإنسان يرتكز علي مبدأ جوهري هو تحرير الإنسان من الخوف وتحرره من الفقر. المنهج الدولي المشوه يبدو أن قضية حقوق الإنسان ينظر إليها حاليا في العالم علي أنها من قبيل " الترف " . ويؤكد الكاتب جوشوا كورلانتزيك أن هناك علاقة بين منهاجية تعامل المجتمع الدولي مع حقوق الإنسان، وتوازن القوي الاقتصادي الجديد في العالم، بحيث أن دولا مثل الصين، أو كازاخستان الغنية بالنقط، وهي دول تساهم في بناء الاقتصاد العالمي، هي من أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في العالم . بل إن ما يجري حاليا هو محاولة الصين تحديدا الترويج لنموذج يتسم "بالنجاح الاقتصادي " الذي لايقوم من قريب او بعيد علي عناية خاصة بمسألة التحرر السياسي، كما تقوم كل من روسيا والصين،بالترويج لمفهوم جديد لحقوق الإنسان بطرق تؤدي إلي إفراغ المفهوم من مضمونه . هذه المنهاجية الجديدة في تناول قضية حقوق الإنسان، علي المستوي الدولي، يمكن رصد أهم ملامحها علي الوجه التالي : 1- صعوبة تعميم سيادة القانون الدولي، علي المستوي العالمي . من ذلك علي سبيل المثال: أن الشركات الكبري تزداد قوة ونفوذا علي المستوي العالمي، وتتضاعف كل يوم أعداد الضعفاء الذين يسقطون ضحايا ممارساتها، بدون أن تخضع هذه الشركات للمحاسبة من جانب القانون الدولي لحماية المصالح الاقتصادية، بل إن هذه الشركات تقوم بتوظيف القانون الدولي لحماية مصالحها الاقتصادية خاصة ضد سكان الدول النامية. 2- استخفاف الدول بالرأي العام العالمي، وبالقانون الدولي، ومحاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، واقتراف جرائم ضد الإنسانية، فمثلا : تهاونت كل من روسيا وجورجيا في محاسبة المسئولين في سياق النزاع بينهما في 2008، برغم مطالبة الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن، واستمرار 26 ألف شخص عاجزين عن العودة إلي ديارهم . كذلك، تهاونت أندونيسيا طوال 10 سنوات في محاسبة المسئولين عن ضحايا انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت في الاستفتاء علي استقلال تيمور الشرقية،، وأثناء فترة الاحتلال الأندونيسي السابقة للإقليم لمدة 24 سنة . وليس أدل علي استهانة الدول بالرأي العام العالمي، والمحاسبة الدولية من سلوك اسرائيل التي أقدمت علي مذبحة أسطول الحرية، وقتل المتضامنين مع غزة وأهلها، بدون أي اعتبار للرأي العام العالمي، أو العربي، وتوقع اسرائيل أن أحدا من الدول الكبري لن يوجه لها اتهاما رسميا، الأمر الذي حدا بالكاتب روبرت فيسك المتخصص في شئون الشرق الوسط لوصف قادة الغرب بأنهم "أجبن" من أن يساعدوا علي إنقاذ الأرواح، وسخر روبرت فيسك من بيانات الشجب والإدانة من القادة والسياسيين في العالم، وبيانات الأمين العام للأمم المتحدة، والبيت الأبيض، والزعماء الغربيين . 3- إن العالم اليوم يفتقر إلي زعامات قوية وكارزمية، كان من الممكن أن تدفع بقضية حقوق الإنسان قدما للأمام وهو ما كان يحدث في الماضي من زعامات علي غرار الرئيس ويلسون، وزعامات أفريقية وآسيوية، وأوروبية، وفي الحالة التي قام فيها الرئيس السابق جورج بوش بالدعوة لنشر الديمقراطية في العالم، فإنه أفقد الدعوة مصداقيتها بسبب اقتراف جرائم وانتهاكات حقوق الانسان في العراق وأفغانستان، وبدلا من أن تعترف الإدارة الأمريكية بالخطأ، فإنها لاذت بالصمت عن انتهاكات حقوق الانسان في الصين، ودول أخري في العالم . ويقول جوشوا كورلانتزيك إن الرئيس الوحيد الذي كان يمكنه القيام بدور عالمي في إنعاش قضية حقوق الانسان هو باراك اوباما، غير ان الرئيس الأمريكي فضل أن يتبع منهاجية تقوم علي خفض التكاليف والمخاطر التي تواجهها امريكا في العالم بتخفيض التزاماتها، علي حد تعبير المؤرخ والتر راسل ميد. 4- الاتجاه العام في الديمقراطيات الغربية إلي توجيه الاهتمام الرئيسي لشئونها الداخلية، واستبعاد الاهتمام بالشأن العالمي . وفي استطلاع للرأي في الولاياتالمتحدة، جاء أن 49 % من الأمريكيين يفضلون أن تعني أمريكا بشئونها الخاصة، وتترك الدول الأخري لتحل مشاكلها بنفسها، وهو ما يعني عودة التيار الانعزالي بين صفوف الأمريكيين . وفي المرحلة الراهنة، في ظل ظروف الأزمة المالية والاقتصادية في العالم، يتوقع ان يزداد تدهور اهتمام الشعوب بقضية حقوق الانسان، حيث تكافح العديد من الدول ظاهرة الهجرة، وتسعي لتقليل أعداد الأجانب علي أراضيها . 5- هناك علاقة بين نوعية الاهتمام بقضية حقوق الإنسان في العالم، وما يمكن أن نطلق عليه " النظرية الجديدة للديمقراطية " في دول مثل الصين، وروسيا . فهذه الدول تعطي مفهوما مختلفا لحقوق الإنسان يفصل بين الحقوق الاقتصادية، والحقوق السياسية، ويجري بلورة نوع من الديمقراطية " المنضبطة "والتي تقوم علي " سلطوية مغلقة، مغلفة بطبقة رقيقة من الحريات الاجتماعية "، كما تقوم أيضا علي نوع من "رشوة " الطبقة المتوسطة التي من المفترض أنها المدافع الرئيسي عن الحقوق السياسية والاجتماعية، فيجري مدها بعدة مميزات، ومساعدات مادية، وفتح باب عضويتها في الحزب الحاكم، بهدف الحصول علي أعلي مستوي ممكن من الرضا السياسي، في ظل النظام القائم، وبدون أي تغيير حقيقي في نمط الحريات والحقوق الممنوحة، وبما يتعارض جذريا مع الديمقراطية التي تقوم علي احترام حقوق الانسان وحرياته.