رغم الخرس الذي أصاب "اليسار الإسرائيلي"، وضياع الفروق بين اليسار واليمين، وبين المعتدلين والمتطرفين في إسرائيل، ظهرت مؤخرا جماعة جديدة بين المستوطنين اليهود تدعو إلي مبادرة لحل قضية الصراع العربي الإسرائيلي بطريقة بسيطة، تتلخص في اقامة دولة واحدة ثنائية القومية يعيش فيها الفلسطينيون واليهود جنبا إلي جنب. وتدعو هذه الجماعة التي تطلق علي نفسها اسم "يروشلايم" او "القدس" إلي فتح حوار مع الفلسطينيين، يبدأ بصبغة دينية في الأساس ليتطور إلي حوار سياسي بعد ذلك. ويقود هذه الجماعة كل من "شموليك كلاين" من مستوطنة "نافيه دانيال"، و"ناحوم باتشنيك" من مستوطنة "سدي بوعز" التي يحب أن يصفها دوما بانها مستوطنة "غير شرعية"، بالإضافة إلي شاعر يدعي اليعاز كوهين. ويؤمن هؤلاء بين إجراء حوار بين هذين النقيضين، أي المستوطنين والفلسطينيين، يمكن أن يؤدي إلي تحقيق سلام واقعي، لا يمكن تحقيقه بالتهديد الدولي وقرارات الأمم المتحدة! وليس بالصدفة أن يكون أغلب المشاركين في هذه الجماعة من المستوطنين صغار السن، أبناء الجيل الثاني الذي ولد أو علي الأقل نشأ في المستوطنات، وهو الجيل الذي تقول عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية يري "الدولة" تهرب منه من ناحية، عبر إنشاء جدار العزل العنصري وإخلاء المستوطنات وتجميد البناء في الاستيطان، ويدرك من ناحية أخري ان جيرانهم الفلسطينيين لن يهربوا إلي أي مكان آخر، فهم متمسكون بأرضهم! المطر أولا وفي قرية فلسطينية تقع بين مدينتي الخليل وبيت لحم، اجتمع منذ شهر، عشرات المستوطنين والفلسطينيين، في قاعة مدرسة محلية، للحديث معا عن أداء صلوات مشتركة للاستسقاء، من أجل الدعاء إلي الله لإنزال المطر، الذي سقط من تلقاء نفسه دون الحاجة إلي صلواتهم، ولكنهم مع ذلك واصلوا اجتماعهم، لأنهم في الحقيقة جاءوا للحديث عن أنفسهم. تحدث الجانبان باللغة العبرية، وجلسوا مختلطين ببعضهم البعض، حتي بات من الصعب التفريق بين الفلسطيني والمستوطن - علي حد تعبير الصحيفة الإسرائيلية - وسادت أجواء أخوية غريبة، ربما لأن الفلسطينيين المشاركين في هذا الاجتماع، يعملون بالأساس في المستوطنات، فيعمل أحدهم في المجلس المحلي لإحدي المستوطنات، بينما يعمل الثاني عامل نظافة، والثالث من قدامي الموظفين في مستوطنة مجاورة. واعتاد الحاخام مناحم برومان، الذي يعد الأب الروحي للجماعة، القول إن بعض المستوطنات قد تتحول لتكون من أبرز مظاهر السلام. ولا يتردد في القول "أنا أشعر بالخجل" حينما تحدث المضيفون الفلسطينيون عن الطريق المتواضع الذي مهدوه في وسط قريتهم، وحرثته إدارة الاحتلال، وعن رفض الإحتلال الإسرائيلي منحهم تصريحا لبناء مأذنة فوق المسجد الصغير بالقرية. والحاخام مناحيم فرومان، هو حاخام مستوطنه تاقوع، ويشارك منذ سنوات في مبادرات للحوار بين الأديان، ولم يتردد في إجراء العديد من الاتصالات مع حركة "حماس"، بل ومع حركة "الجهاد الاسلامي" أيضا! لا يخفي أعضاء هذه الجماعة من المستوطنين خوفهم من اتهامهم بالخيانة بين أقرانهم من بقية المستوطنين، المعروفين بتطرفهم، خاصة أن الأمر قد يصل إلي حد إهدار دمائهم، كما حدث مع واحدة من أعضاء الجماعة حاولت نشر تقرير عن لقاءات الجماعة مع الفلسطينيين في جريدة محلية، ولذلك طلب الأعضاء من صحيفة هآرتس عدم نشر اسم القرية الفلسطينية التي تجري فيها هذه اللقاءات وأسماء المشاركين الفلسطينيين. لا تيار ولا يوجد تيار سياسي واحد يجمع عشرات المستوطنين الذين انضموا إلي هذه الجماعة، ويفضلون تأجيل الحديث عن حل سياسي إلي مرحلة لاحقة، ولكنهم يكادون يتفقون علي حل "الدولة ثنائية القومية" التي يدعو اليها اليعاز كوهين علنا وبوضوح تام، بل إن إيميلي عمروسي تفضل هذا الحل عن بقية الخيارات المتاحة، وهناك من يوافق علي إقامة دولة فلسطينية يبقي فيها المستوطنون اليهود ليعيشوا كمواطنين متساوون في الحقوق مع الفلسطينيين! وهذه الفكرة طرحها الحاخام فرومان خلال اتصالاته مع حركة حماس! ولا يجد الشاعر اليعاز كوهين افضل من استحضار كلمات النبي زكريا من التوراة في لقائه مع الفلسطينيين: "لا تسيئوا الظن في قلوبكم بأي احد"، ويكتسب الأمر أهمية إضافية عندما يتبين أن مسجد القرية الفلسطينية مقام علي قبر النبي زكريا. لو كان الكاتب المسرحي المصري علي سالم، رائد التطبيع، موجودا في هذا اللقاء لربما ذرف دموعه تأثرا بهذا اللقاء، الذي اختتمه الحاخام فرومان وهو يصيح "الله أكبر.. الله أكبر"، بينما رفع مستوطنون أيديهم للدعاء علي الطريقة الإسلامية ليرددوا كلمات الحاخام مع جيرانهم الفلسطينيين المشاركين في اللقاء! اللقاء الأول عقد اللقاء الأول لأعضاء هذه الجماعة من المستوطنين مع الفلسطينيين قبل 3 أشهر. وعقد اللقاء الثاني بعد ذلك بشهر في فندق "إيفرست" في مدينة بيت جالا الفلسطينية، وشارك فيه عدد قليل من المستوطنين الذين ذهبوا إلي هناك بسياراتهم المتواضعة، بينما كان عدد الفلسطينيين الذين أتوا من مدينة الخليل ضعفهم علي الأقل. وفي فناء الفندق كان هناك ملعب لكرة السلة، ذهب أبناء أحد المستوطنين المشاركين للعب فيه، وسرعان ما انضم إليهم طفل فلسطيني، وبدون لغة مشتركة بين الجانبين نجحوا جميعا في التعاون واللعب معا.. وكان ذلك في نظر المشاركين قمة هذا اللقاء. ناحوم باتشنيك (37 سنة)، هو احد مؤسسي هذه الجماعة، وهو مستوطن ينحدر لأسرة من كبار رجال الدين اليهودي في أوكرانيا، ويقول: "احرص علي تعليم بناتي الصغيرات ألا يقطفوا ثمار شجر التين التي تبعد عن بيتنا بضعة أمتار لأنها ملك للفلسطينيين ولا يجوز السطو عليها!". ويضحك باتشنيك ثم يقول: "أقول لهم ذلك رغم أني أعيش في مستوطنة غير شرعية، وتريد دولة إسرائيل طردي منها، فهناك أمر هدم صادر بحق منزلي، ولكني أشعر أني لا أعيش هنا كمحتل، وأشعر أن هناك مكاناً لكل فلسطيني كي يعيش هنا". وهو يري أن الكراهية والإغتراب ليسا نتاج الاحتلال، "وإنما نتاج الخوف الذي يقضي علينا". بل أن هذا المستوطن اليهودي يقول إنه لو لم يقم ديفيد بن جوريون واليهود الغربيين بإنشاء دولة إسرائيل، وقام بإنشائها بدلا منهم اليهود الشرقيون بعقليتهم التي اكتسبوها من حياتهم في الدول الإسلامية، لكانت إسرائيل اليوم دولة رائعة ثنائية القومية، ولاستطاع الفلسطينيون واليهود الحياة معا في سلام! ويقول باتشنيك إن والديه هاجرا إلي فلسطين دون أن يعلما أن فيها أناسا آخرين، وهو يري أن خطأ الجيل الأول من المستوطنين اليهود ليس الإقامة في الضفة الغربية وغزة، "لأن العودة إلي أرض آبائنا ليس خطأ، لأننا ننتسب إليها تاريخيا، وإنما كان الخطأ الكبير الذي ندفع ثمنا فادحا له الآن هو عدم جرأتنا وعدم قبولنا وعدم قدرتنا علي أن نرفع عيوننا ونقول "يوجد هنا أناس ينبغي أن نعرف كيف سنعيش معهم وكيف سنتقبلهم". أما ما أدي إلي تفتيح عيون باتشنيك علي ضرورة الحياة والتعايش مع الفلسطينيين، فيقول: "إنه موت جيراني في منتصف الإنتفاضة الأولي، "أيتا" و"أفرايم تسور". فقد أخذت كل طاقة هذا القتل إلي خانة الكراهية، ولكنني أذكر أنني كنت أقف فوق سطح منزلهما، أنظر باتجاه رام الله، وقلت لنفسي: "ماذا يحدث هنا؟ وكان هذا سؤالا بسيطا وصعبا في نفس الوقت. فهناك مكان ومتسع للجميع، فلماذا يحدث ذلك؟ لماذا يقتلوننا ونرد عليهم بطائرات الهليكوبتر التي تقصف رام الله؟ عندها وجدت أنه لا توجد مشكلة في اتساع الأرض، وإنما المشكلة تكمن في اتساع القلب، والخوف من أنني إذا اعترفت بالآخر سأعطيه مكاناً، وإذا أعطيته مكانا لن يكون هناك مكان لي!". شاعر أما الشاعر اليهودي المستوطن اليعاز كوهين (37 سنة)، فولد في مستوطنة "بتاح تكفا"، ثم انتقل حيث يعيش الآن في مستوطنة "كفار عتسيون" التي تعد أول مستوطنة تقام في الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967، وأقيمت علي أرض قرية "الخضر" العربية، علي طريق "الخليل- بيت لحم". وقد أصدر كوهين مع زميله شموليك كلاين مجلة باسم "معيد الروح" مخصصة للشعر الديني، وتحدث في أشعاره عن ضرورة الحياة والتعايش مع الفلسطينيين. ويشارك في تنظيمات تدعو إلي اللقاء والتحاور مع الفلسطينيين منذ آواخر التسعينات. ويعتقد كوهين أن ثمة وعي ينمو بين المستوطنين بأن هناك شعب آخر هو الفلسطينيون هنا، بدليل تزايد الإقبال علي جماعته "يروشلايم" خاصة من أبناء الجيل الثاني من المستوطنين. وهو يقول: "انشغل المستوطنون الأوائل بتأسيس البنية التحتية لإقامة الدولة الإسرائيلية، لكنهم لم يحكوا لنا الحكاية كاملة، فالفلسطينيون كانوا هنا دوما كالظل". اختفاء الفلسطينيين وتقول ايميلي عمروسي، أحد الوجوه المعروفة في مجلس مستوطنات الضفة الغربية، وهي متحدثة وأديبة وصحفية، وتبدو كوزيرة خارجية خاصة بالمستوطنات: "هناك كلمات تتطاير في الهواء اثناء اللقاء دون أن ينطق بها أحد، مثل "الإحتلال" و"إرهابي" و"تفجيرات". وتشير إلي اعتقاد المستوطنين أنه سيأتي يوم يختفي فيه الفلسطينيون، معتبرة ذلك نوعا من الفانتازيا، لكنها تؤكد: "الفلسطينيون مشهد يبدو أمامك دوما من النافذة، فنحن نعيش فوق جبل واحد ونشرب من نفس المياه". وتقول عمروسي، وهي ليست عضوة بجماعة "يروشلايم"، إنه بعد اللقاء الأخير مع الفلسطينيين في مدرسة القرية، ذهبوا جميعا إلي مسجد القرية، وسألها مضيفهم الفلسطيني قبل دخولها المسجد عما إذا كانت طاهرة، ففهمت المقصود، وأجابت بالإيجاب، ثم دخلت لأول مرة في حياتها إلي المسجد. ولكن لم توضح عمروسي سبب دعوة الرجل الفلسطيني لليهود كي يدخلوا المسجد! وتقول: "بعد ذلك ذهبنا إلي بيت عمدة القرية (المختار)، حيث استقبلتنا زوجته واهتمت كثيراً بصور أبنائي التي أضعها علي تليفوني المحمول... شعرت أني دخلت مكاناً سأخرج منه مختلفة". وتقول عمروسي إن بناء الجدار العازل هو ما غيرها، وتضيف: "صرت أشعر بمعاناة الفلسطينيين، لأني آراهم عند الحواجز الأمنية، واقول لنفسي: "إن هذا الفلسطيني يقف هنا مرة ثانية تحت الشمس، وقد كان هنا امس، وأول امس، فلماذا لا يسمحون له بالمرور؟!". ولا تستبعد عمروسي أن يكون المستوطنون هم جسر السلام بين اليهود والفلسطينيين، وترفض وصف ذلك بأنه خدعة يمارسها اليمين الإسرائيلي، وتقول: "أستطيع ان أتحدث عن السلام، وأنا أعارض أي انسحاب إقليمي من الأرض، وأعارض كل عملية السلام! فتعالوا نبدأ من تحت، تعالوا نبدأ من مثل هذه اللقاءات. لنري كيف سيكون الوضع بعد 10 او 20 سنة!". وعندما قيل لها إن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يصبروا 20 سنة أخري، وأنهم يريدون العدل والمساواة الآن، قالت عمروسي: "أنا ضد إقامة دولة فلسطينية، وأدرك أنه إذا كانت هناك مساواة في الحقوق سوف تتحول إسرائيل إلي دولة ثنائية القومية. ولكن هناك أمور عاجلة واكثر أهمية من الحقوق السياسية، فينبغي أن تكون الأولوية لحالة المستشفيات والمدارس والنهوض بها لتطويرها!". وتوضح عمروسي أن الدعوة إلي تحويل إسرائيل إلي دولة ثنائية القومية تتزايد بمرور الوقت بين المستوطنين، بما في ذلك المتدينين منهم، والمحافل التوراتية والسياسية. وتضيف: "أن فكرة إقامة دولتين لا تنسجم مع فكرة العودة إلي جبل صهيون. فأنا مذعورة من إقامة دولة فلسطينية. وأفضل بدلاً من ذلك تحويل إسرائيل إلي دولة ثنائية القومية!". ويقول اليعاز كوهين بلا تردد إنه أيضا يؤيد الدولة ثنائية القومية، ولكن الفكرة تبدو عنده أكثر روحانية من عمروسي، ويقول: "لو كنت مكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاستبعدت فكرة انشاء دولتين، وبدأت في ربط وتخييط المجال الجغرافي السياسي المسمي فلسطين وإسرائيل معا وبدأت في انشاء وحدة كونفيدرالية تتضمن حقوقا متساوية للجميع!". ديكور بعد الإجتماع الأخير مع الفلسطينيين قام مستوطنون بإشعال النار في مسجد قرية ياسوف، وقام أعضاء جماعة "يروشلايم" برئاسة الحاخام فرومان، بالخروج إلي القرية واشتروا مصحفاً جديداً، وطلبوا مساعدة الفلسطينيين في إصلاح ما لحق بالمسجد من إضرار، ولكن قوات جيش الإحتلال الإسرائيلي رفضت السماح للمستوطنين بالعبور إلي القرية الفلسطينية. وعلي عكس ما يعتقد البعض تحظي هذه الجماعة بمباركة الكثير من المستوطنين لأنها تحسن صورتهم أمام الرأي العام الداخلي والدولي علي حد سواء. ويوضح باتشنيك الصورة أكثر حين يقول: "سنظل في مستوطناتنا مع دولة إسرائيل أو بدونها، فنحن باقون هنا، والحل كما يقترح البعض أن تكون المستوطنات تحت الحكم الفلسطيني، وأنا واثق أنهم سيحترموننا جداً ويتقبلوننا". ويوضح باتشنيك أكثر حين يقول: "سوف نظل علي هذه الارض في مستوطناتنا للحفاظ علي يهوديتها وليس إسرائيليتها، وهناك كثيرون مثلي".