عاش حزب العمل الإسرائيلى فترة نزاع مع الموت فى الانتخابات الأخيرة. وتعقبها حاليا فترة عناية مكثفة فى صفوف الحكومة الحالية. فقد خَشىَ البقاء خارج الحكومة دون أن يكون حتى قائدا للمعارضة. لأول مرة فى تاريخه يتم تهميش حزب العمل فى السلطة وفى المعارضة فى آن. ولن نخوض هنا فى أسباب ذلك، وليست كل الأسباب سياسية، فمنها ما يعود إلى انقراض قواعده الاجتماعية والطبقية وثقافته الطلائعية التأسيسية. ولكن الأهم هو الصيرورة التاريخية شبه التصاعدية منذ العام 1967 والتى يتقدم بموجبها اليمين، ويتطابق خطاب اليمين القومى والدينى. ومنذ عام 1977 عام فقدانه للسلطة وحتى الانتخابات الأخيرة عاد حزب العمل إلى الحكم مرات ثلاث فقط. جرى ذلك دون حصول تغيير فى نزوع المجتمع الإسرائيلى المثابر نحو اليمين. عاد العمل إلى سدة الحكم نتيجة لتحالفات مفارقة وهشة، مثل التحالف مع الهجرة اليهودية من جمهوريات الاتحاد السوفييتى السابقة لفترة قصيرة أوصلت حكومة رابين الثانية إلى السلطة، والتحالف مع تيار معتدل عابر فى قيادة حزب شاس، أو مع اليمين العلمانى الرافض لتحالفات المتدينين، أو مع المنشقين عن الليكود الذين شكلوا حزب كاديما. وخلال ذلك ظلت قوة الحزب فى تراجع، واستمرت قواعده الاجتماعية بالضمور. ولكن فى فترات عودته القصيرة كان الحزب يكرس نمطا فى الحكم هو النمط المهيمن فى هذا الكيان حتى عندما يحكمه اليمين وحده: الحفاظ على ثوابت مثل: أ قدسية الجيش كأداة حرب وكأداة فى عملية بناء الأمة. وتعنى القدسية رفعَه فوق النقاشات الحزبية وفوق النقد والمحاسبة بشكل عام. كما تعنى تملقه لغرض إثبات الوطنية والتوسع شعبيا. ب ثبات العلاقة الأمريكية الإسرائيلية والتمسك بها كركيزة إستراتيجية أولى لإسرائيل على الصعيد الإقليمى والعالمى (وحتى على صعيد نمط الحياة مؤخرا) مغلفة بطبقات من التمويهات الثقافية والحضارية. ج التأكيد على يهودية الدولة. ويعنى التأكيد على يهودية الدولة ما يلى: 1 الحفاظ على أكثرية يهودية. 2 تشجيع الهجرة اليهودية والحفاظ على العلاقة الجوهرية مع ما يسمى ب«يهود الشتات». 3 التوصل إلى نوع من التسوية بين الشريعة اليهودية والقانون المدنى فى قضايا الأحوال الشخصية وقانون المواطنة، أى سؤال: من هو اليهودى؟. 4 رفض حق العودة للفلسطينيين بشكل يجعله غير قابل للتفاوض. 5 التخلص من المناطق المحتلة المكتظة بالسكان لمنع تطور مفهوم الدولة ثنائية القومية بناء على تحول الفلسطينيين إلى طلب المواطنة المتساوية إذا استمروا بالعيش تحت الحكم الإسرائيلى فى حالة من نظام الفصل العنصرى، ال«أبارتهايد»، لفترة طويلة. استمرار المفاوضات يشق العالم العربى إلى معتدلين ومتطرفين، ومحاولة تعزيز القاسم المشترك مع المعتدلين لعزل «المتطرفين».. وينسحب هذا التقسيم على العالم العربى بشكل عام وعلى الفلسطينيين وحتى على المواطنين العرب داخل إسرائيل. مع فروق فى تعريف الاعتدال من حلقة إلى أخرى. ويبدو اليمين فى المعارضة معترضا على هذه السياسة وهذه التقسيمات، إذ يبدو كمن يشكك بالعرب جميعا من منطلق عنصرى، ثم لا يلبث أن ينصاع لهذه التقسيمات بين «عرب أخيار» و«عرب أشرار»، ويمارسها ببراجماتية أكثر من اليسار ذاته. يستمر اليسار الإسرائيلى ومن بعده اليمين فى استخدام العنف العسكرى لغرض منع حتى نشوء أو تطور تهديد عسكرى ضد إسرائيل، ولنقل المعركة إلى «أرض العدو» وعدم فرضها على الداخل... خاصة فى حالة نشوء قوة عربية صاروخية أو غيرها مثل عمليات تسلل فعلية مؤثرة ناهيك عن حرب فعلية على داخل «أرض إسرائيل»، (وهو ما لم يحدث منذ حرب عام 1948). وفيما يتفق اليسار واليمين على هذه النقطة، يكمن الفرق بينهما فى نزعة الأول العسكرية الأكثر وضوحا، وفى توافر مرونة أكبر عنده فى إقرار شن الحرب وذلك للاعتبارات التالية: (أ) الرأى العام المعارض فى زمن حكمه هو رأى عام يمينى يدفع للحرب ويزاود من اليمين. (ب) المرونة التى يتمتع بها فى المجتمع الدولى. (ج) هامش تفاهم أوسع مع القوى العربية المسماة معتدلة، خاصة فى ظل ما يسمى ب«عملية السلام». يتفق اليسار واليمين كما قلنا على ثابت العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. وغالبا ما يزاود اليمين بنبرة وطنية إسرائيلية تؤكد عدم التبعية الكاملة لكل ما يصدر عن الولاياتالمتحدة. ولكنه يعود ويتعلم بالطريق الصعب عدم العبث بالعلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وهو ما بات قناعة راسخة منذ عام 1967، وبشكل خاص منذ فترة رابين الأولى فى الحكم 1974 1977. هذا لا يعنى طبعا أن تمتنع إسرائيل عن التأثير على عملية صنع القرار فى الولاياتالمتحدة عبر ألف آلية وجماعة ضغط فى الإعلام والسياسة والثقافة، وغالبا ما تنجح. أما فى الحالات النادرة التى ينشأ فيها خلاف مهما كان تكتيكيا ولا تنجح إسرائيل بالتأثير على صنع القرار، فإنها تتعلم أن تتكيف مع الرغبة الأمريكية محاولةً أن تخفِّف من مرارة الكأس بالمماطلة وبالتسويف والتقارير الكاذبة حول تنفيذ لم يتم، وعن معارضة الرأى العام الإسرائيلى، واحترام رأى المحاكم إذا كانت قضية مثل الاستيطان ومصادرة الأرض عالقة فيها.. وبغيرها من المعيقات التى تتذرع أمريكا باحترامها فى دولة ديمقراطية، فما بالك ب«الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط». ولكن فى النهاية، إذا بقيت نهاية، وإذا أصرت أميركا، وقلما تصر، فإن إسرائيل تنفِّذ. تدير إسرائيل مفاوضات منفصلة مع الدول العربية والفلسطينيين على أساس تفسيرها هى للقرارات الدولية. والهدف هو اعتراف الفلسطينيين والدول العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها والاتفاق على ترتيبات أمنية مشتركة. أما الثمن الذى تستعد إسرائيل لدفعه فهو إعادة أقل قدر ممكن من الأرض التى احتلت عام 1967 بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من العرب، مقابل أكبر قدر ممكن من التطبيع. فإسرائيل لا تقدم هذه «التنازلات» عن الأرض مقابل السلام، خاصة أنه لا تدور حرب بين الدول العربية وإسرائيل، بل هنالك حالة حرب دون حرب فى أفضل الحالات. إسرائيل مستعدة إذًا لما تسميه هى تنازلات إقليمية مقابل السلام والتطبيع والترتيبات الأمنية ضد أى شكل من أشكال المقاومة ومقابل الشراكة فى المصالح والتعاون ضد جميع أنوع «التطرف». ويكمن الفرق بين اليمين واليسار فى الحكم فى هذه النقطة فى تقدير كل منهما لحجم «التنازلات» اللازمة كى يقبل العرب، وحجم التطبيع المتوقع من العرب. بالمجمل يتفق اليمين واليسار فى إسرائيل على ضرورة استمرار ما يسمى بعملية السلام. ولا يعولان على السلام ذاته فى مسألة الأمن، بل يعتبران الأمن قضية منفصلة يجب استمرار الجهد الإسرائيلى بشأنها حتى فى ظل عملية السلام.. وعلى شركاء إسرائيل العرب تحمل إحراجها لهم بحروبها ضد المقاومة أثناء وفى ظل «عملية السلام». (هذا إذا بقى من تحرجه ولو مظهرا عملية عسكرية ضد سوريا أو حربا على لبنان أو غزة). وبغض النظر عما يقال فى المعارك الانتخابية، ففى هذه الهوامش يقع الفرق بين حكومة برئاسة نتنياهو وحكومة برئاسة أولمرت. هل يمكن التعويل على هذا الفرق بتغيير الاستراتيجيات؟ الجواب هو لا. وذلك ليس فقط لضآلة الفوارق بين التيارات الواردة فى الحسبان عند تشكيل حكومات فى إسرائيل، بل أيضا لأنه لا توجد أصلا استراتيجيات رسمية عربية غير عملية السلام. (يتخللها من حين لآخر تهديد فلسطينى بلهجة دراماتيكية أنه إذا لم تتوقف إسرائيل عن الاستيطان، أو إذا لم تتوقف عن القصف الوحشى للمدنيين فسوف تتوقف عملية السلام أو تموت.. وفى كل مرة يرتعد صوت التهديد بموت عملية السلام أكثر ويزداد دراماتيكية، وفى كل مرة يتم توسل الولاياتالمتحدة للعودة إلى عملية السلام. وإذا كان الناس يموتون وحقوقهم تنسى فإن عملية السلام حية لا تموت، استغفر الله العظيم). ولا يستغربن أحد ألا ترتعد فرائص الناخب الإسرائيلى، ولا ترتج يده قبل التصويت ل«ليبرمان» وغيره إزاء إستراتيجية كهذه. ليس السؤال ما يمكن توقعه من حكومة نتنياهو، بل السؤال حول الظرف العربى والدولى الذى تعمل فى إطاره والذى يعيدها الى الثوابت الراسخة منذ عقود. وإذا تبين بعد عام مثلا أن المهرج ليبرمان يشكل عقبة أمام هكذا عودة، فيمكن الاستغناء عنه وفسح المجال لحزب كاديما للعودة إلى الائتلاف بحجة إنقاذ عملية السلام. لنتذكر ذلك! ومن هنا فإن هامش التحرك واضح للغاية. كان يمكن الوقوع فى منزلقات التقديرات والمضاربات لو وصل نتنياهو إلى السلطة مع ماكين فى أمريكا. عندها نتفهم (دون أن نوافق) أن يسمح العربى لخياله أن يأخذه إلى مغامرات. كذلك الأمر إلى حد بعيد لو وصل إلى السلطة كل من لفنى وأوباما فى الوقت ذاته. أما التركيبة الحالية فتكفى لتحافظ على التوازن الموصوف أعلاه، وعلى الهوامش المشروحة أعلاه. فبعد أخذ ورد تجرى العودة إلى ما يسمى «عملية السلام». ويسبقها نقاش معهود مألوف ممل على الإطار، إطار المفاوضات. وعندما يقبل نتنياهو بأفكار أولمرت، المرفوضة فلسطينيا فى حينه، فسيبدو الأمر إنجازا هاما لإدارة أوباما. فى هذه الأثناء يُوَجَّه الضغط للعرب الذين اشترطوا ردا إسرائيليا على مبادرة السلام العربية، ولم تهتز لهم قصبة عندما رفضتها إسرائيل كما هى وقبلت بها فقط أساسا للتفاوض. وعاد العرب يتمسكون بها بصلابة رغم الرفض الإسرائيلى، يعضون على الإهانة، ويقبضون على المبادرة كالقابض على جمر الاعتدال. موقف نضالى حقيقى لقوى السلام العربية. أما إذا جاءت مبادرة أمريكية أن يغير العرب مبادرتهم، فيعدلوها بشكل «يعززها» و«يسوقها» لكى يصبح فرضها على إسرائيل ممكنا، فسوف تتدفق الأفكار الخلاقة عن تأجيل حق العودة. ( أما كيف تُعَزَّز مبادرة بتعديلها لإرضاء الخصم فمتروك لبلاغة كتاب الأعمدة الناطقين باسم.. الذين سيبدءون قريبا بالترويج). أما قضية القدس فسوف تكون ساحة الإبداع والتبديع والبديع فى إيجاد المخارج والمداخل مثل رفع العلم الفلسطينى فيها مثلا دون أن تنسحب إسرائيل منها.. كما يطاول الإبداع التفريق بين حدود 67 وبين المساحة التى احتلت بحيث تسترجع المساحة دون الحدود.. هذا نقاش يطول. وسوف يطول حتى تبدأ إدارة أوباما بالتحضير للانتخابات الجديدة. كل هذا لا يهم إسرائيل كثيرا. ما يهمها هو استمرار الحصار لإضعاف المقاومة ودفعها للبحث عن اعتراف دولى بها بدلا عن قضيتها، فى ظل تعهد بوقف إطلاق الصورايخ. وما يهمها هو استمرار بناء أجهزة أمنية جديدة لم يحارب أفرادها إسرائيل فى مرحلة ما من حياتهم، ولا تعرف منظمة التحرير ولا فتح، بل تعرف الولاء لحكومة السلطة فى رام الله فقط. وهذا أمر جار تنفيذه بروية ومثابرة بغض النظر عن التقدم فى المفاوضات. ويهمها استمرار البناء فى القدس وحولها. وأخيرا وليس آخرا يهمها استمرار التعاون مع ما يسمى بمحور الاعتدال لخلق قواسم مشتركة ضد إيران... بحيث، (ويا للهول!! وحبذا لو كانت يا للهول هنا بصوت المرحوم يوسف وهبى)، نصل إلى زمن تضغط فيه كل من إسرائيل والأنظمة العربية الحليفة سوية على الولاياتالمتحدة لكى لا تذهب الأخيرة بعيدا فى إرضاء إيران فى الحوار، وأن تبقى الخيار العسكرى قائما.