"اخترت موقعا فوق ركام بيت دمّره جيش الاحتلال لأقدم خاتمة تقريري عن البيوت المدمرة، وفجأة شعرت بألم في ساقي الأيمن وأن دمي ينزف، حاولت أن أدوس علي جرحي وأستمر في إعداد الخاتمة لأسطرها بدمي بجانب كلماتي، ولكن ..."... كانت هذه الكلمات هي طلقات الرصاص التي أطلقتها الإعلامية الفلسطينية ليلي عودة، التي تعد واحدة من أكثر الإعلاميات العربيات نشاطا ومغامرة، ليلي عودة تحدثنا اليوم عن تجربتها الإعلامية كمراسلة ميدانية لقناة أبوظبي الفضائية، تجربةٌ كادت تودي بحياتها عندما أقدم جندي إسرائيلي علي إطلاق الرصاص الحي عليها مع بداية انتفاضة الأقصي الأخيرة، وكمقدمة للبرنامج الحواري: "آفاق وأبعاد" علي قناة آي آن بي، وعن آرائها في جملة من القضايا الإعلامية والسياسية الراهنة. هل لك أن تحدثينا عن بداياتك في العمل الصحفي؟ - كان الأمر صدفة، فأنا خريجة لغة انجليزية وروسية من جامعات روسية، كان هناك طلب لتلفزيون "أبو ظبي" لمراسلين، تقدمت وحصلت علي الوظيفة. إذن دخلت الميدان الإعلامي بالصدفة فهل كان لديك ميول لهذه المهنة من قبل؟ - كان لدي ميول نحو السياسة وكنت حريصة علي متابعة الأخبار منذ الصغر، ربما بسبب جو العائلة فأبي من الكتاب للشعر والمقالات السياسية. ما معني أن تكون المرأة إعلامية في منطقة ملتهبة كفلسطين؟ - يعني ذلك أن تكون امرأة بقلب محارب.. مقاتلة بكل ما في الكلمة من معني.. أن تكون قوية وسريعة البديهة وجريئة وحرة الفكر والرأي. البحث عن المتاعب كيف توفقين بين كونك زوجة وأما وممارستك لمهنة المتاعب؟ - عانيت بسبب هذه المسألة كثيرا عندما كانت الأوضاع متأزمة مع بداية الانتفاضة، لكني وجدت الدعم من أسرتي، فأنا أم لطفلين، لكن عائلتي ساعدتني كثيراً حيث اعتنوا جميعا بالطفلين ، كما أني سعيتُ إلي عدم التقصير في عملي وعدم نسيان أني أم. الجمعة 20 أبريل2010 يوم لا ينسي في حياة "ليلي عودة" أخبرينا ماذا حدث معك بالضبط يومها؟ - كنت في غزة لتغطية الأحداث هناك بتكليف من محطتي التلفزيونية التي كنت أعمل معها وقمت بالاستفسار عن أكثر المناطق في غزة تضررا بسبب الانتهاكات الإسرائيلية، وفعلا أبلغت أن منطقة "رفح" وتحديدا قرب "بوابة صلاح الدين" المحاذية للحدود المصرية هي الأكثر مأساوية حيث لم يتمكن أحد من الوصول إليها. كان لدي إصرار علي التوجه إلي هناك، فأنا وصلت إلي محافظات قطاع غزة بتاريخ 19/4 بعد إجراء العديد من المحاولات والاتصالات مع وزارة الدفاع الإسرائيلية للحصول علي تصريح دخول لقطاع غزة؛ بسبب الإغلاق والحصار المفروضين علي محافظات غزة، وحسنا فعلت إذ وجدت مناظر تشيب لها الأجنة في بطون أمهاتهم، عائلات في الشوارع بلا طعام ولا ماء ولا كساء، وعندما شاهدوني قالوا لي: "وأخيرا فكر أحد الصحفيين بالسؤال عنا". كانت جملة قاسية جدا علي كأم أولا وكإعلامية ثانيا، ولكني لم أتمكن من بث التقرير بسبب رصاصة جندي إسرائيلي وجهها إلي قدمي.. يبدو أن وجودي ووصولي للمنطقة أثار استياءه، واستياء من كلفوه بالذهاب إلي هناك. هل كان هذا الجندي الإسرائيلي يقصد إصابتك بالإعاقة؟ - ممكن لكنه وبقدرة الله عز وجل لم يتمكن من ذلك فالله أقدر علي كل شيء. حظيت بتعاطف جماهيري كبير.. كيف كان مستوي الدعم الذي حظيت به من المنظمات العربية والدولية المعنية بالدفاع عن الصحفيين؟ - التعاطف في وقتها كان جيدا حتي من القناة التي كنت أعمل معها، كان هناك اهتمام كبير بالمسألة وتغطية مباشرة. في المقابل كان تعامل وسائل الإعلام العربية مع الحدث دون المستوي، هل أثر ذلك عليك بالسلب؟ - أبدا.. أنا لم أسع يوما للشهرة وقد تفاجئين إذا قلت لك أنني أصررت في وقتها علي تكملة التقرير لكن المسعف والمصور رفضا ذلك، حتي أن المصور وصفني بالمجنونة. قال لي: قدمك تنزف وتريدين مواصلة العمل؟ مراسلة بدرجة محاربة تقدمين اليوم برنامجا حواريا يعني بالشأن الداخلي الفلسطيني، هل أثرت فيك حادثة إطلاق النار وأصبحت لا ترغبين في العمل الميداني؟ - أبدا، فقد كنت أرغب بمواصلة عملي كمراسلة لكني لم أحصل علي فرصة لذلك، ومن هنا بدأت تقديم برنامجي الحواري.. أنا بطبعي لا أخاف. أيهما أفضل بالنسبة لك.. العمل كمراسلة من الميدان، أم مقدمة لبرنامج في استوديو؟ - الاثنان معا، فأنا لن أنسي يوما بداياتي كمراسلة، ولكني استمتع أيضا بعملي كمقدمة برنامج وهي المسألة التي لا تجد الجميع قادرا علي تقديمها بشكلها الصحيح. هل ترين أن البرامج الحوارية التي تقدمها الفضائيات العربية تعزز فرص الحوار بين الفرقاء أم أنها لا تعدو كونها مجرد ملء مساحة علي الهواء لكسب إعلانات وقاعدة جماهيرية للقناة؟ - هذا يعتمد علي الموضوع وعلي المحاور وعلي سياسة المحطة التي تتبعها، ولكني وللأسف أشعر أن البرامج الحوارية في القنوات العربية ينقصها الكثير. فيما النقصان من وجهة نظرك؟ - لن أسمي جهة بعينها ولكني أتابع مختلف المحطات.. أحيانا تشعرين وكأن الموضوع برمته محاصر بتوجهات وأفكار المحاور نفسه، وأحيانا تشعر وكأن الحلقة ككل تسير وفقا لمخطط مسبق سواء من القناة أو من جهات سيادية تتحكم في القناة. قنوات دمار شامل الفضائيات العربية علي تعداد أنواعها وتوجهاتها متهمة بتسطيح الوعي العام، كيف ترين ذلك؟ - هي أخطر من ذلك، الآن أصبح الأمر متعلقا بالسيطرة علي هذا الوعي العام وجعله يسير وفقا لاعتبارات بعينها تحت شعار الحرية الفكرية وتحت مسميات نظرية، لكن المشاهد العربي بات اليوم أوعي بكثير من السابق وقادرا علي التمييز بين الصحيح والخطأ. ولكن ألم يصبح المشاهد العربي أكثر وعيا بفضل دور هذه المحطات ذاتها؟ - طبعا وهنا يكمن لب الموضوع، أصبحت هذه المحطات تأخذ علي عاتقها دور التوعية دون إسقاط حق السيطرة، الآن هناك محطات فضائية أصبحت مرجعا للبعض الذي يري في كل ما يقال فيها كلاما موثوقا، أليس هذا نوع من السيطرة الفكرية الخطير جدا؟ في وقت سابق وصفت الإعلام العربي بأنه "أعرج". لماذا؟ - هو أعرج لأنه ليس حرا، هو أعرج لأنه ما زال مقيدا، هو أعرج لأنه لم يقف بعد علي قدميه كما يجب رغم الربيع العربي والثورات هنا وهناك، فلو كانت له قدمان سليمتان لكانت الكثير من السياسات الخاطئة في الدول العربية قد صححت. وما هو السبيل لتقويمه؟ - سبل التقويم كثيرة، أولها أن نقتنع بحرية عقولنا وأن نقاوم محاولات استعمارها واستعبادها، أن تأخذ الجامعات دورها في تدريس الإعلام كما يجب، ألا نصمت حتي لو استهدفنا، أن نكون العين المراقبة واللسان الناقد، أن تكون هناك نقابات صحفية فاعلة، أن نكون من مؤيدي الرأي والرأي الآخر ولكن عن حق. هل ترين الصورة سوداء؟ - إطلاقا، ولكن المعطيات علي الأرض تشير إلي ما ذكرت، ما ينتظر الشرق الأوسط هو السواد ذاته. البقية تأتي العالم كله أصبح مهتما بمخاطبة المشاهد العربي بلغته.. أمس أمريكا واليوم روسيا وغدا دول أخري.. هل علي الإعلامي العربي الحر أن ينساق وراء هذه المشاريع أم يقاطعها أم يقف في منطقة ثالثة؟ - عليه أن يجعلها تنساق إليه بدل أن ينساق إليها، عليه أن يقاطع أهدافها الاستعمارية ويتعاطي مع ما يلبي أهدافه ومبادئه وقضايا أمته، وأقول لك إن المحطات الإعلامية التي ولدت وستولد في المستقبل إن لم تتحدث بنبض الشارع فلن يكتب لها النجاح، المقاطعة لن توقف هذا المد الإعلامي لذا يجب وضع استراتيجية إعلامية عربية وهذا ما ينقصنا في الوطن العربي. انتشرت منذ سنوات قليلة تقريبا ظاهرة المدونات بشكل ملحوظ في العالم العربي، واستقطبت هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة العديد من الهواة والمحترفين، من بينهم "ليلي عودة".. لماذا خضت هذه التجربة وهل تعتقدين أنها توفر لك سقفا أعلي من الحرية تفتقده الوسائل الإعلامية الأخري؟ - المدونات وفرت لي منفذا إعلاميا ولو سنحت لي الفرصة للكتابة في الصحف العربية فسأكتب بنفس الروح والكلمات، إنني لا أكتب في المدونة هربا من الرقيب أو الحسيب فأنا كما لاحظت أوقع باسمي ولم أقم بإخفائه. لكن انتشار المدونات وتأثيرها في العالم العربي لم يزل محدودا جدا علي عكس ما يحدث في العالم، لماذا حسب اعتقادك؟ - لأن الإعلام ما زال مقيدا والرقابة الذاتية لدي البعض تسيطر عليهم وتحول دون تجرؤهم علي الكتابة. يبدو أن إسرائيل لم تعد الخطر الوحيد الذي يتهدد الإعلاميين، فقد أضحوا هدفا للفصائل الفلسطينية المسلحة المتناحرة، فمثلا هناك جماعة قامت بالتهديد بقطع أعناق مذيعات التليفزيون الفلسطيني إن هن لم يرتدين الحجاب... كيف ترين هذا؟ - تلك قمة المأساة، وهذه من أخطر المراحل التي وصلت إليها الأوضاع في فلسطين. الجماعات الإسلامية المتطرفة الآخذة في الانتشار ليس في فلسطين فحسب بل في الوطن العربي كله هي وليدة الفوضي الحالية وضعف القيادة السياسية والعسكرية، إن الفوضي والضعف القيادي هما أقوي مغذيات الحرب الأهلية في قطاع غزة. وأعتقد أن بدايات تلك الجماعات ستكون بالأجساد الفلسطينية ولكنها ما تلبث أن تتحول إلي أجساد أخري غير فلسطينية والنموذج الأفغاني خير دليل. سؤالي الأخير.. هل أنت متفائلة بمستقبل الإعلام العربي، وبالحال العربي بشكل عام؟ - أنا متفائلة بالعقل العربي، بكل شاب وشابة عربية، أقول دوما أننا لم نعد نخشي من يوصدون علي أنفسهم بوابات قصورهم، لم نعد نخشي أن نتفاخر بفكرنا ورأينا، أتمني أن أكون دوما متفائلة.