نعم تعلم نجيب محفوظ الروائي الكبير معني السينما وكيفية كتابة السيناريو في مدرسة صلاح أبوسيف.. هذه حقيقة لا تقلل من شأن أديب نوبل.. ولا تزيد من قدر المخرج الكبير رائد الواقعية.. لأن السيناريو حرفة تختلف تماماً عن الإبداع الأدبي في مجال الرواية والقصة وإن كان يعرف عند البعض بأنه رواية سينمائية. عندما قرأ صلاح أبوسيف رواية «عبث الأقدار» أدرك أن هذا الأديب الشاب يمكن أن يصبح كاتباً للسيناريو بدرجة جيد جداً وتحدث في ذلك مع صديقه فؤاد نويرة شقيق المايسترو عبدالحليم نويرة الذي أصبح فيما بعد قائداً لفرقة الموسيقي العربية.. وقد كان فؤاد صديقاً لمحفوظ وكلاهما كان ينتمي إلي حي العباسية البديع الذي قدم لمصر عشرات النجوم في الأدب والرياضة والفن والسياسة.. وحدث اللقاء واندهش محفوظ من طلب «أبوسيف» واعتذر لأنه لا يعرف ما هو السيناريو.. ولم يفكر في كتابته من قبل لأن السينما كانت فناً في هذا الوقت لايزال حديثاً ولها أهلها.. والأديب يشعر بأن قلمه أرقي من أن يكتب للشاشة.. لأن الورق مملكته الإبداعية المنسوبة إليه وحده.. بينما الفيلم عمل جماعي والمخرج في نهاية الأمر هو الكاتب التنفيذي للعمل.. والقائد الميداني الذي يتولي أمر الشريط السينمائي من الألف إلي الياء في الأدب يكتب الروائي ما يطوف بخياله ويخلط أزماناً بأزمان ويطير من مكان إلي مكان.. مهما تباعدت المسافات.. لكنه في السينما يجب أن يدرك أن كلمة «سوف» تتحول إلي رقم في ميزانية الفيلم وكان يوسف شاهين في أثناء تدريسه لطلاب معهد السينما يتندر بجملة قد يكتبها السيناريست ولا يلقي لها بالا وتكون سبباً في خراب بيت المنتج وربما إفلاسه عندما يقول مثلا ً في كلمات قليلة: «وأخذت القرية تغرق رويداً رويداً».. ومعني ذلك مطلوب بناء قرية لكي يتم إغراقها وكل هذا في أقل من دقيقة بميزانية قد تفوق ميزانية العمل كله. طبعاً الكمبيوتر حالياً باركه الله يتولي هذه المسألة بمنتهي السهولة.. يغرقها ويشعلها ويهدمها ويبنيها وكان محفوظ معروفاً بانضباطه الشديد فهو يكتب رواياته في فصل الشتاء.. ويعتبر أشهر الصيف بمثابة إجازة لأنه يعمل بانتظام ولا يدلل مزاجه الإبداعي مثل غالبية الكتاب.. وقد وافق «أبوسيف» علي العمل في هذه العطلة فقط من باب التسلية ليس إلا.. ولأنه لم يكن قد رأي من قبل هذا «النص» الذي يسمي بالسيناريو قدم إليه «أبوسيف» نموذجاً.. وراح هو يقرأ ويستزيد عليه من كتب أخري في هذا المجال وإن كانت قليلة في هذا الوقت وأغلبها مترجم. وقد اعترف في حوار مع زميلنا الأديب الكبير يوسف القعيد بأن صلاح كان متعباً للغاية في شغله ويعمل علي السيناريو أكثر من مرة ولا يطمئن إليه إلا بصعوبة بالغة ومن هنا تميزت أفلام «أبوسيف» بالبناء الدرامي المحكم والاهتمام بالسيناريو والحوار إلي أقصي درجة مقارنة بغيره من كبار المخرجين.. لذلك ظهرت في مقدمات معظم أفلام عدة أسماء عن قصة وسيناريو وحوار الفيلم الواحد.. فقد تكون القصة أدبية.. ثم هناك من يقوم بمعالجتها سينمائياً وقد يشترك أكثر من كاتب في السيناريو.. ويختص واحد بالحوار وأحيانا أكثر وهو يختار لكل فيلم فريق عمل ينسجم مع موضوعه ونفتش عن الكاتب المناسب من الناحية السياسية أو الإعلامية أو الاقتصادية. ورغم أن أغلب الدراسات والمقالات والموسوعات تشير إلي أن الفيلم الأول لنجيب محفوظ هو «المنتقم».. لكن الحقيقة أن السيناريو الأول هو «مغامرات عنتر وعبلة».. لكن المنتقم سبقه في العرض وتفصل بينهما عشرة أشهر.. وقد جاء في موسوعة محمود قاسم الأولي ان فيلم «عنتر» سيناريو صلاح أبوسيف ونسب القصة إلي نجيب محفوظ وعبدالعزيز سلام والحوار إلي بيرم التونسي ثم عاد وصحح هذا الأمر في موسوعته الثالثة ونسب القصة إلي عبدالعزيز سلام والسيناريو نجيب محفوظ وصلاح أبوسيف.. ولكن يعقوب وهبي ومني البنداري في قاموس السينمائيين المصريين يضيفون اسم فؤاد نويرة إلي المشاركة في السيناريو.. وقد حسم صلاح أبوسيف هذا بنفسه في محاوراته مع الناقد هاشم النحاس التي أصدرها في كتاب حيث قال إن عبدالعزيز سلام كتب السيناريو وتناول فيه الصراع بين العرب والعرب.. وهو ما لم يوافق عليه.. ومن هنا لجأ إلي نجيب محفوظ الذي حول مغامرات عنترة ضد الرومان مع العلم بأن السينما قدمت سيرة عنترة أكثر من مرة وفي فيلم «المنتقم» اشترك محفوظ مع «أبوسيف» في السيناريو وكتب الحوار السيد بدير مع محمد عفيفي. وكما اعترف نجيب محفوظ للأديب القعيد بأن أسلوب «أبوسيف» في كتابة السيناريو مرهق للغاية فهو شديد الدقة في رسم الشخصيات واللعب علي تناقضاتها.. ويحرص علي تصور الصورة التي سيقدم بها الفيلم كمخرج، لذلك يعيد ويزيد في السيناريو إلي ما قبل التصوير بساعات وقد يتدخل حتي بعد التصوير في المونتاج.. بتقديم مشهد أو بتأخير آخر. محفوظ الذي عمل كسيناريست مع نيازي مصطفي وعاطف سالم وحسن رمزي ويوسف شاهين وإبراهيم السيد.. بعد خمسة أفلام متوالية مع «أبوسيف» لم يجد نفس الصعوبة مع هؤلاء مثلما كان يعاني مع صلاح وكيف لا وهو المخرج الوحيد الذي فكر في إنشاء معهد السيناريو وتخرجت فيه أسماء لامعة عديدة رغم أنه لم يستمر لأكثر من دفعتين فقط. مهارة خاصة الكتابة للسينما وان كان فيها الكثير من المقومات الأدبية.. لكنها تظل محكومة بقواعد خاصة مختلفة عن الكتابة الأدبية فهي في نهاية المطاف صناعة وقاعدتها أوسع.. بينما الرواية الأدبية لها قارئ لمواصفات معينة حتي يستطيع استيعابها.. بينما نفس الرواية إذا تحولت إلي فيلم من خلال سيناريو لن يجد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب أدني صعوبة في متابعتها والاستمتاع بها.. وقد تستقر في وجدانه لسنوات.. لهذا أدرك أحد أدباء نوبل الكبار وهو الكولومبي «جارسيا ماركيز» أهمية الصورة في السينما.. واقتحم ميدانها ليس فقط كروائي.. لكن كسيناريست وأسس ورشة لكتابة السيناريو تضم مجموعة من المؤلفين والمخرجين والأدباء تشترك في كتابة الأفلام والمسلسلات لحساب شركات الإنتاج من خلال مجموعات عمل وقد رصد ماركيز منهج العمل في هذه الورش في ثلاثة كتب بديعة بعنوان «فن الحكي» تناول فيها عدة أعمال تم كتابتها وكيف بدأت الفكرة حتي اكتمل السيناريو وهي تجربة ممتعة لكل محب لدراسة السيناريو.. والكتب أصدرها مهرجان دمشق السينمائي في مطبوعاته.. بينما توقفت علاقة محفوظ بالسينما كسيناريست عند 13 فيلماً.. واكتفي ببيع قصصه الأدبية وأعطي لمن يشتريها حق التصرف فيها كاملاً دون تدخل منه واعتبر السيناريو السينمائي أو التليفزيوني أو المسرحي المأخوذ عن روايته هو إبداع خاص منفصل تماماً عنه ويخص كاتبه ومخرجه.. مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه لكي يكتب من أعماله ما يريد وقد كتب بعض القصص خصيصاً للسينما.. لكنه في نهاية المطاف انتصر وانحاز للأدب علي حساب الكتابة للسينما في عصر يسمونه حالياً بعصر «الصورة» فهل لو امتد العمر بمحفوظ لتغيرت وجهة نظره هذه رغم تخرجه كسيناريست في مدرسة صلاح أبوسيف الكبري؟.. سؤال نترك إجابته مفتوحة لمن يمتلكها من عشاق أدب محفوظ ومحبي سينما أبوسيف رائد الواقعية.