ونحن نحتفل هذه الأيام بمئوية الكاتب الكبير والأديب العالمى نجيب محفوظ خرج الأدب العربى على يديه من حظيرة المحلية إلى آفاق العالمية حيث أصبحت رواياته محط أنظار نقاد الأدب فى أرجاء العالم المختلفة وأخذت ابداعاته الأدبية طريقها إلى الترجمة لسائر اللغات الحية فى العالم أجمع وكذالك لتحويلها إلى أفلام سينمائية عالمية يشارك بها منتجوها فى مهرجانات دولية وبعد أن تحولت معظمها إلى أفلام عربية لتثرى السينما المصرية وتحتل مكانتها المرموقة والرائدة فى مسيرتها كمادة بحثية استغلها الدارسون والباحثون المهتمون بالتأريخ لصناعة السينما فى مصر وإبراز هذه الأفلام كمحطات فارقة تشهد بتطور هذه الصناعة عبر أكثر من قرن كامل هو عمر الفن السينمائى المصرى والتى صارت السينما الرائدة فى الشرق الأوسط. وقد لعبت السينما دورا مهما فى ذيوع وانتشار أدب نجيب محفوظ وجعلت منه أدبا مرئيا يضاعف من مساحة رواده كأدب مقروء، وقد فطن إلى ذلك نجيب محفوظ لتحتل السينما مكانا متميزا فى حياته ليس فقط على المستوى الإبداعى. وإنما أيضا فى مسيرته الوظيفية حيث تقلد مناصب عدة جعلت منه يوما مسئولا رئيسيا عن صناعة الفيلم المصرى من خلال مواقع مختلفة حيث كان مديرا عاما للرقابة على المصنفات الفنية ثم رئيسا لشركة دعم السينما لينتهى به المطاف الوظيفى ليكون رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة للسينما وكانت فى عهده ذات دور فعال فى ازدهار الفيلم السينمائى المصرى حيث انتجت أفلاما كثيرة من ذوات الإنتاج الكبير والتى اعتبرت علامات مضيئة على طريق السينما المصرية ومما يجدر ذكره أنه ليس من بين هذه الأفلام فيلم واحد عن رواية لنجيب محفوظ حتى تنتفى أية شبهة للمحاباة أو المجاملة له كرئيس للمؤسسة وذلك رغم تهافت منتجى القطاع الخاص من كبريات شركات الإنتاج لتحويل روائعه الأدبية فور صدورها لما بها من ثراء درامى وبعد إنسانى يضمن لها رواجا جماهيريا وفى هذا الشأن تزدحم قائمة هذه الروائع ومنها ثلاثيته الشهيرة «بين القصرين و «قصر الشوق» و «السكرية» و «القاهرة 30» و «وبداية ونهاية» و «ثرثرة فوق النيل» و «ميرامار» و «الحب فوق هضبة الهرم» وغيرها الكثير مما تضيق به هذه المساحة. ولم تقتصر أهمية الفن السينمائى لدى نجيب محفوظ عند هذا الحد بل تجاوزته ليأخذ مكانة مرموقة كسيناريست وهى لا تقل فى نظرى عن مكانته كروائى نال عن جدارة واستحقاق أكبر جوائز الإبداع الأدبى فى العالم «جائزة نوبل» ولكن للأسف الشديد لم تنل مكانته كاتبا للسيناريو حظها من الشهرة وإلقاء الضوء عليها كجانب مهم من جوانب الإبداع لديه رغم إنجازاته الرائعة فى هذا المجال الذى بدأه فى منتصف الأربعينيات بتشجيع من صديقه رائد الواقعية صلاح أبو سيف حينما عرض عليه مشاركته فى صياغة درامية لفيلم «مغامرات عنتر وعبلة» والذى تعرف من خلاله على أسرار حرفية السيناريو السينمائى لينخرط بعد ذلك فى العمل كسيناريست مواكبا لعمله الأساسى كأديب روائى فكان السيناريو الأول الذى اضطلع بصياغته منفردا لفيلم «المنتقم» لتتوالى أعماله فى تحويل قصص زملائه من الروائيين إلى أفلام سينمائية بحرفية فائقة الجودة جعلت من هذه الأفلام مادة ثرية يؤرخ بها للسينما المصرية وبعدها آنذاك على مدى أربعين عاما كاملة. ومنها «درب المهابيل» لتوفيق صالح و«جميلة» و «صلاح الدين الأيوبى» ليوسف شاهين و «جعلونى مجرما» و «إحنا التلامذة» لعاطف سالم أما صلاح أبو سيف فكان له نصيب الأسد من أفلام السيناريست المبدع نجيب محفوظ ومنها «لك يوم يا ظالم» و «الفتوة» و «شباب امرأة» و «ريا وسكنية» و «الوحش» و «شىء من العذاب» و «بين السماء والأرض» والذى كان اختبارا صعبا للسيناريست الجديد حيث تجرى معظم أحداث الفيلم داخل مصعد كهربائى معطل بما أكد قدرة نجيب محفوظ الخلاقة فى الكتابة السينمائية والتى استطاع من خلالها أن يصوغ ساعتين كزمن درامى دون أن يشعر المشاهد بالملل من أحداث داخل صندوق زجاجى مغلق بين السماء والأرض. وقد كانت روايات إحسان عبد القدوس هى ضالته المنشودة فى عالم السيناريو وكانت تحظى لديه بإعجاب خاص حيث قام بتحويل أربع منها وقد تنوعت وفق ألوان درامية مختلفة ومنها الدراما النفسية كما فى فيلم «بئر الحرمان» والاجتماعية فى فيلم «امبراطورية ميم» والقومية فى فيلم «الطريق المسدود» والاجتماعية فى فيلم «أنا حرة».. ورغم أن عددا الأفلام التى صاغها نجيب محفوظ سينمائيا قد قاربت الثلاثين فيلما فإنه لم يكن من بينها فيلم واحد عن إحدى قصصه تاركا ذلك لكتاب سيناريو آخرين إيمانا منه بأن لديهم إضافات يمكن أن تجعل السيناريو أكثر اكتمالا.. هكذا كان تواضعه الجم وحساسيته المفرطة حيال إنتاجه الأدبى رغم ما وصل إليه فى هذا المجال من روعة الصياغة ودقة المعالجة السينمائية بما جعله يزاحم رواد السيناريو الكبار أمثال على الزرقانى وعبد الحى أديب ومحمد مصطفى سامى وغيرهم من أبناء جيله مما يجعلنا فى هذه الإطلالة السريعة نلقى بعضا من ضوء حول هذا الجانب الخفى عند صاحب نوبل كصائغ درامى ماهر كما هو روائى فذ ولعلها أيضا تكون دعوة للباحثين فى فن السينما لدراسة مستفيضة تبرز أهمية نجيب محفوظ كاتبا للسيناريو وموازية لأهمية كأحد أهم الروائيين العالميين فى القرن العشرين.