حلت الذكري المئوية الأولي لأديب مصر ونوبل "نجيب محفوظ" يوم الحادي عشر من هذا الشهر، ولم يبد في أفق الثقافة المصرية مظاهر احتفاء لائقة من أي نوع أو أية ملامح للتذكر ترتفع لمقام هذا العملاق وقامته في الأدب العالمي، والروائي الفذ الذي لن يجود بمثله الزمان، وهي ذكري لن تتكرر إلا بعد مائة عام نكون جميعا بمن ولدوا اليوم في رحاب الله وقد نكون من المرحومين بفضله، ولم يولد بعد من سيحتفل بمئوية "نجيب محفوظ" الثانية اللهم بعد ربع قرن من الزمان علي أقل تقدير، ووقتها سوف يكتشفون مدي عقوقنا نحو هذا الرجل، اذ أنهم لن يجدوا في سجلات التاريخ مايشفع لنا هذا القصور المقيت. وهذا يعني فشلنا الذريع للاحتفاء بشوامخ عظماء الرجال في مصر، وللأسف يبدو هذا السلوك المعيب احد سماتنا تجاه من يضيف لتاريخنا الأدبي والعلمي والثقافي جهدا وفكرا وعلما، بل قد يصل الأمر لأن نفشل في استثمار ماورثناه عن شوامخنا، أو الحفاظ علي هذا الميراث الحضاري والإنساني الضخم وهو ملك للبشرية جمعاء ... ومنهم "نجيب محفوظ" الذي تشرفت بالاقتراب من عالمه من خلال أول كتاب شاركت في إصداره بعد نوبل تحت عنوان "الرجل والقمة" مع مجموعة من الزملاء نقاد السينما في مصر جائزة للسينما وقد لا أكون مبالغا اذا تصورت أن السويدي "ألفريد نوبل" (1833 - 1896) لو كان معاصرا للسينما ولرجل مثل "نجيب محفوظ" لخصص جائزة لأحد نوابغ السينما ورجالاتها اضافة لجوائزه في:الكيمياء والفيزياء والطب والاقتصاد والسلام، ومن المفارقات أن "نوبل" توفي يوم 10 ديسمبر، ونحن في نفس اليوم نحتفل بالمئوية الأولي لميلاد أديبنا الروائي الكبير الذي شكل منفردا ظاهرة مازال صاحبها يتمتع بالسبق والريادة والخصوصية، وعلي أقل تقدير يستحق أن يسجل بكم عطاءاته وتنوعها في السينما بموسوعة "جينيس" Guinness World Records للأرقام القياسية، حيث إنه كأديب ساهم وشارك بفاعلية في عشرات الأفلام والتي بلغت بالتحديد 63 فيلما روائيا طويلا منذ عام 1947 وحتي عام 1978، منها مايزيد علي الأربعين فيلما أخذت عن رواياته، علي مدي مالايزيد علي الثلاثين عاما فقط، وهذا مالم يفعله أعتي عتاة الأدب في أي مكان من العالم حتي يومنا هذا، فجل ماساهم به سواه لم يزد عن بضع أفلام ومنهم: "أميل زولا"، "فيكتور هوجو"، "تشارلز ديكنز"، "دستويفسكي"، و "أرنست هيمنجواي". علاقة "نجيب محفوظ" بالسينما تعود لعدة سنوات قبل أن تتعرف عليه كأديب روائي تنهل من رواياته وإبداعاته، فالرجل بدأ مع أحد عمالقة السينما في مصر ممن اتسمت أعمالهم بالواقعية وهو المخرج الكبير "صلاح أبو سيف" في فيلم "المنتقم" عام 1947، ودخل "محفوظ" عالم السينما مشاركا في كتابة سيناريو هذا الفيلم مع "أبو سيف"، وظني أن الدخول للسينما عن طريق السيناريو يتطلب في الأساس: ملكة القص الروائي، ومنطقية ترتيب الأحداث، وموهبة وصف الحالة، وخبرة رسم الشخصيات بأبعادها: الفيزيقية والاجتماعية والنفسية، وتكامل الرؤية، وامتلاك ناصية البناء الدرامي الذي يشكل العمود الفقري لأي عمل فني، سواء كان فيلما سينمائيا أو مسرحية أو عمل تشكيلي أو مقطوعة موسيقية أو دراما تليفزيونية. ولما نجحت التجربة الأولي جاءت الثانية في فيلم "مغامرات عنتر وعبلة" لنفس الثنائي: "محفوظ" و "أبوسيف"، لكن هذه المرة كتب "محفوظ" القصة مشاركة مع "عبد العزيز سلام"، ثم توالي عطاء "نجيب محفوظ" للسينما بالمشاركة في كتابة السيناريو مع مخرجين كبار أمثال "صلاح أبو سيف"، "توفيق صالح"، "عاطف سالم"، "السيد بدير" بلغت عشرة أفلام من أهمها: "ريا وسكينة" عام 1953، "الوحش" عام 1954، "الفتوة" عام 1957 وكلها من اخراج "صلاح أبو سيف"، كما قام "محفوظ" بكتابة السيناريو منفردا لثلاثة أفلام هي: "الطريق المسدود" عام 1958 اخراج "صلاح أبو سيف"، "أنا حرة" عام 1959 اخراج "أبو سيف" أيضا، و "احنا التلامذة" عام 1959 اخراج "عاطف سالم"، و شارك في كتابة قصة فيلمي: "مغامرات عنتر وعبلة" مع "عبد العزيز سلام"، و "الاختيار" عام 1971 مع "يوسف شاهين". وكتب "محفوظ" ست قصص مباشرة للسينما هي: "ريا وسكينة"، "الوحش"، "درب المهابيل" عام 1955 اخراج "توفيق صالح"، "ساحر النساء" عام 1958 اخراج "فطين عبد الوهاب"، "بين السماء والأرض" عام 1959 اخراج "صلاح أبو سيف"، "ذات الوجهين" عام 1973 اخراج "حسام الدين مصطفي"، وقام باقتباس فيلمين: "ثمن الحرية" عن مسرحية "مونسرا" لمؤلفها "ايمانويل روبليس" عام 1964 اخراج "نور الدمرداش"، "دلال المصرية" عن رواية "البعث" لتوليستوي عام 1970 اخراج "حسن الإمام". عطاء متميز أما العطاء المتميز ل "نجيب محفوظ" للسينما المصرية فقد تمثل في نقل معظم رواياته الأدبية الي السينما والتي بلغت 41 فيلما روائيا طويلا، وهو رقم لم يتحقق لأي أديب سواه، ليس في مصر بل علي المستوي العالمي . وكان المخرج "صلاح أبو سيف" التي استندت واقعية أفلامه علي واقعية روايات "نجيب محفوظ" الي حد بعيد علي المستويين الاجتماعي والسياسي، وهو صاحب النصيب الأوفر من هذه الأفلام، والتي بلغت اثني عشر فيلما، فإلي جانب ماسبق ذكره قدم "أبو سيف" نقلا عن روايات "محفوظ": "بداية ونهاية" عام 1960، "القاهرة 30" عام 1966، ثم يجيء المخرج "حسن الإمام" في المرتبة الثانية بعدد ثمانية أفلام لعل أبرزها: ثلاثية "بين القصرين" عام 1964، "قصر الشوق" عام 1967، "السكرية" عام 1973 الي جانب "زقاق المدق" عام 1963، "أميرة حبي أنا" وغيرها من الأفلام. ومع المخرج "حسام الدين مصطفي" قدم سبعة أفلام تنسب الي مايسمي ب "أفلام الحركة" أو (الأكشن) وأبرزها: "الطريق" عام 1964، "وكالة البلح" عام 1982، "شهد الملكة" عام 1985، "التوت والنبوت" عام 1986، "الحرافيش" عام 1986 أيضا. أما المخرج أشرف فهمي" فقدم من روايات "نجيب محفوظ" خمسة أفلام من أهمها: "الشريدة" عام 1980، "الشيطان يعظ" عام 1981، "وصمة عار" عام 1986 .وللسينما نقلا عن روايات "نجيب محفوظ" قدم المخرج "حسين كمال" أفلام: "ثرثرة فوق النيل" عام 1971، "الحب تحت المطر" عام 1975، "نور العيون" عام 1991. وللمخرج "علي بدرخان" قدمت السينما عن روايات "محفوظ": "الكرنك" عام 1975، "أهل القمة" عام 1981، "الجوع" عام 1986. أما المخرج "كمال الشيخ" فقدم فيلمي: "اللص والكلاب" عام 1962، "ميرامار" عام 1969، وقدم المخرج "عاطف الطيب" فيلمي: "الحب فوق هضبة الهرم" عام 1986، "قلب الليل" عام 1989، الي جانب العديد من الأفلام التي تعد من علامات السينما المصرية مثل: "خان الخليلي" عام 1966 للمخرج "عاطف سالم"، "السراب" عام 1970 اخراج "أنور الشناوي"، "المذنبون" عام 1976 اخراج "سعيد مرزوق"، "أيوب" عام 1984 اخراج "هاني لاشين". تفرد وثراء وهذا الكم الهائل من الأفلام التي أخذت عن روايات صاحب "نوبل" الروائي العالمي "نجيب محفوظ" إن دل علي شيء فإنما يدل علي تفرد هذا الرجل بين أقرانه من أدباء العالم، وثراء رواياته بتناول القضايا الملحة في حياة الشعوب وتحليلها بميزان الألماس، وتوفر الحس السينمائي العالي والخبرة العملية لدي "محفوظ"، ودقة تصوير الحارة المصرية وتفحص وجوه أهلها، وغني الحوار والمونولوجات بالصور البلاغية، وعمق الرؤية الفلسفية للكون والحياة والإنسان، وسعة الثقافة والأفق المعرفي بالحضارتين: الفرعونية والإسلامية عكس مايتصور ضيقي الأفق من الجهلاء والشوفينيين المتشدقين بالدين والأحكام التي تنم عن جهالة وظلمة عقل وضيق أفق ومحدودية فكر ... يقول "محفوظ" في كلمته أمام لجنة "نوبل": "أنا ابن الحارتين الفرعونية والإسلامية"، وفي احدي الندوات يقول: "ان أي مشروع حضاري عربي لابد أن يقوم علي الإسلام وعلي العلم" وتشهد روايته "أولاد حارتنا" نفسها علي ذلك فيما يتعلق بإسلاميته التي لاتقبل الشك، والتي يعلق "محفوظ " بنفسه عليها قائلا: "انني حريص دائما علي أن تقع كتاباتي في الموقع الصحيح لدي الناس، حتي وإن اختلف بعضهم معي في الرأي، ولذلك لما تبينت أن الخلط بين الرواية والكتاب قد وقع فعلا عند بعض الناس، وأنه أحدث ما أحدث من سوء فهم، اشترطت ألا يعاد نشرها إلا بعد أن يوافق الأزهر علي هذا النشر". وعلي جانب آخر من جوانب عطاء أديب "نوبل" أخذت السينما المكسيكية روايتين من أقوي رواياته مصرية وحولتهما الي فيلمين: الأول بنفس الاسم المصري "بداية ونهاية" من اخراج "أرتورو ريبستين" عام 1993، والثاني تحت اسم "زقاق المعجزات" عن روايته "زقاق المدق" من اخراج "خورخي فرنس" عام 1994 بطولة "سلمي حايك" في دور "حميدة" بنت الزقاق، وقد علق بشكل غير مباشر أديبنا الكبير عندما شاهد الفيلم المكسيكي "ريبستين" أنه للأسف وجد أن هذا الفنان المكسيكي أي "ريبستين" قد فهم أدبه سينمائيا أفضل مما فعل أي سينمائي عربي" كما يذكر الناقد "ابراهيم العريس" في كتابه " كتاب نجيب محفوظ سينمائيا". يبقي لنا أن نشير الي أن عملاقا بقامة "نجيب محفوظ" وقامته التي لم يصل اليها أديب مثله في علاقته بالسينما، حق عليه منا أن نحتفل بمئويته بما يليق به، فهو كما يقال الذي سيبقي نجيبا في أخلاقه ومحفوظا بإبداعاته الخالدة والباقية مابقيت الحياة علي الأرض، وفارسا كان نصل القلم سيفه، وظني أنه مازال هناك الكثير من ابداعاته القصصية والروائية والأفكار الفلسفية مايمد السينما المصرية بموضوعات عشرات الأفلام: الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية .... فكما يقول "بلزاك" إن الرواية هي التاريخ غير الرسمي للأمم، نقول إن الفيلم السينمائي هو المرآة التي تعكس صورة الأمم وصوتها .... فهل ننتبه؟