المثل المصري القديم يقول " اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار " وهكذا ربما من تلسعه النار لا يستطيع أن يفكر أو يحلل خوفه يعظم أشياء صغيرة ويحقر أشياء كبيرة لعل هذا يدفعنا لاستقراء الآخر كيف يرونا الآن بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام القديم كيف يحللون القوي التي تعمل علي الساحة وكيف يستقرئون مستقبل مصر علنا نلتفت لشيء قد نكون غائبين عنه أو نصرف وجوهنا عن أشياء ليس لها قيمة في هذا التوقيت الحرج، وحرصنا أن ننظر إلي المستقبل من زوايا مختلفة من زاوية اقتصادية وديمغرافية لكاسي موليجان وزاوية سياسية وإيديولجية لفوكوياما وزاوية فلسفية ونفسية لهوارد جاكوبسون لعل اختلاف الزوايا والمنطلقات تخفف من حدة الضباب الكثيف علي صورة مصر المستقبل. رؤية اقتصادية ديمغرافية يقول كاسي موليجان في «النيويوك تايم» الدولية ان الانتخابات لا تعني الديمقراطية ما لم يكن فيها أكثر من مرشح وله فرصة عادلة للترشيح، ويستعين الكاتب في رؤيته لمستقبل مصر بدراسة اقتصادية لأحد تلامذته في جامعة شيكاغو كيفن تسوي- درس فيها عملية التحول الديمقراطي في 132 دولة في النصف الأخير من القرن العشرين، ورأي تسوي في عملية التحول الديمقراطي التي عرفها بأنها "عملية تحول من انتخابات مجهزة ومعدة سلفا من قبل الحكومة إلي انتخابات عادلة ونزيهة تسمح بحرية التعبير وحرية التعبير السياسي وهكذا" ... واستنادا علي الانتخابات السابقة فإن مصر تعتبر من أقل الدول ديمقراطية في العالم علي الرغم من أنها أفضل من جاراتها مثل السعودية وليبيا واكتشف تسوي أن الدول الغنية بالنفط كلما كانت أكثر غني كلما قلت حظوظها من الديمقراطية، وبصورة تثير الدهشة انطبقت تلك النتيجة علي مختلف المناطق، واستنادا علي هذه النظرية يقول تسوي أن مصر تعتبر دولة متوسطة من حيث مصادرها النفطية؛ فلا هي غنية بالنفط ولا هي خالية تماما منها؛ لذا فإنه ليس من المتوقع في الانتخابات المستقبلية أن نشهد اختلافا جذريا في الانتخابات عنها في الماضي، فمن الناحية الدينية تعتبر مصر دولة ذات أغلبية مسلمة بالإضافة إلي أنها فقيرة من حيث نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي، ولقد اكتشف البروفيسور تسوي أن هذين العاملين ( الفقر والإسلام ) إذا تلازما في أي دولة سيقلل من احتمال قيام ديمقراطية علي أرضها، من جهة أخري فإن مصر متجانسة عرقيا بالنسبة لمعدل الدول في العالم من ناحية التجانس العرقي، وهي أكثر تجانسا من العراق وليبيا والتجانس العرقي في أي دولة هو عامل يزيد من احتمال قيام ديمقراطية فيها ... يعلق الكاتب بعد سرده الموجز لهذه الدراسة بأن هذه الدراسة متعلقة بفترة مبارك وهي لم تتنبأ بقيام ثورة في مصر وعلي الرغم من ذلك فإنها شملت دولا أخري غير ديمقراطية تتشابه مع مصر في ديمغرافيتها وظروفها الاقتصادية،وأضاف أنه ثمة شيء مختلف في الثورة المصرية، وهي قيام المدير التنفيذي لجوجل في الشرق الأوسط بدور المساعد والمخطط لهذه الثورة علي الإنترنت والفيس بوك، فالكاتب يري أنه بات من الصعب علي الديكتاتور في هذه الأيام أن يبقي في ظل وجود التويتر والفيس بوك والتقنيات الأخري التي تنسق بين الثوار، ويستطرد المحلل السياسي أنه علي الرغم من ذلك فإن مثل هذه التقنيات قد تساعد الحكومات في التحكم بالمواطنين باستخدام نفس الأدوات للتجسس عليهم، وينهي كاسي موليجان مقاله أنه قد يكون متفاجئا بعض الشيء إذا تحققت طموحات المصريين للديمقراطية في العقد القادم، ولكنه يتوقع أن الحاكم القادم أو الطبقة التي ستحكم سيكون لديها مسمي مختلف ولكنه يرجح أنها ستحكم سيطرتها بشكل كامل علي الحياة السياسية . فوكوياما " الثقافة العربية غير مستثناة من هذه الرغبة الجارفة للحرية حول العالم " هكذا بدأ فوكوياما في صحيفة «وول ستريت» نظرته، وانطلق من تحليل فعل أطلق عليه صفة " التضحية بالنفس" الذي حدث لبائع الخضار التونسي الذي صودرت عربته مرارا، وصفع وأهين من قبل امرأة تعمل في الشرطة " الشعوب العربية تريد حقوقا سياسية لأنهم يريدون أن تعاملهم حكوماتهم بكرامة " وأضاف فوكوياما أن هذه الرغبة بات من الواضح أنها هي التي تحرك العالم العربي . يري فوكوياما أن الثورة غير منقادة ليد المهمشين أو الدينيين، ولكنها الطبقة الوسطي الخبيرة في التكنولوجيا التي لم تعمل بوظيفة ذات معني أو تشارك في السياسة، هم يريدون أن يكونوا علي اتصال بالعالم الخارجي ولا ينفصلون عنه. ويتساءل فوكوياما لماذاتأخرت الديمقراطية في العالم العربي مقارنة بأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وبعض الدول في آسيا وأفريقيا ؟ أرجع فوكوياما السبب إلي الأسلوب التي انتهجته الديكتاتوريات العربية مثل نظام حسني مبارك حيث سمح لجماعة الإخوان المسلمين في العمل السياسي للدرجة التي تخيف بها أمريكا والدول الداعمة له في أوروبا، وأردف فوكوياما أن هذه الاستراتيجية كانت متبعة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأن أمريكا كانت تطالب بالديمقراطية شفاهة ولم يكن لديها رغبة حقيقية لدفع حلفائها لها؛ لأنها تخشي من سيطرة المعارضة الإسلامية واستخدم تشبيها لهذا الوضع قائلا " ان هذه الدجاجات بركت علي البيض الذي آن الأوان له أن يفقس" الجيش والإخوان والسلطة يقول فوكوياما ان " الديمقراطية ليست قفزة سحرية تظهر فجأة إلي الحياة السياسية بمجرد خروج الديكتاتور أو إجراء انتخابات حرة ونزيهة " ويري فوكوياما أن الفيس بوك والتويتر أداة عظيمة لحشد الجماهير في لحظة معينة لإسقاط الطغاة، ولكنها لا تفيد كثيرا في بناء أحزاب سياسية أو إنشاء تحالفات أو برمجة المفاوضات السياسية أو خلق مسئولين علي قدر الأمانة والثقة في إشارة إلي أن هذه الأدوات التكنولوجية غير قادرة بطبيعتها للاستمرار في مسيرة الديمقراطية وأكد فوكوياما أن المصريين إن لم ينظموا أنفسهم فسيحتل الجيش والإخوان السلطة . هاوارد جاكوبسون هاوارد جاكوبسون الكاتب الساخر الشهير في الإندبندنت يسلط الضوء علي فئة الشباب كمرحلة عمرية، وطبيعة الأدوات التي أشعلت الثورة - الفيس بوك والتويتر - وعلي معني الحالة الثورية نفسها معني الثورة يري جاكوبسون أن الثورة كانت وستظل ذلك التدريب الرقيق علي الأمل والبهجة والفرصة السانحة لتغيير الزمن في الوقت الذي تكون فيه الطرق قد تعفنت وحرمت علي الناس وضاقت علي سالكيها؛ فعندما تتغلب براعم الزهرة علي ذاتها وتتفتح ، وعندما يستيقظ الخاملون، وتنشط طبائعنا الحيوية من عقالها،والعالم الجديد نراه هنا والآن، وليس في يوتوبيا " مدينة فاضلة " هنا حيث نجد سعادتنا أو لا نجدها أبدا، ولم تعد تخدعنا تلك الوعود المتعلقة بما يجلبه لنا العالم الآخر من النعيم أو العذاب ... إلي هذه الدرجة تسعي الثورة إلي التغيير إما الآن أو لا، ولايعني ذلك الرفض للعالم الآخر أن يكون أكثر كمالا؛ فجوهر هذه الحركة الثورية " لادينية " وهذا مما يجعل رجال الدين الأذكياء يستبعدون هذا الجزء من معني الثورة، وتأتي حركتهم ليست مواكبة للثورة ولكنها تتخلف عنها قليلا - وهذا ماحدث للجماعات الدينية الإخوان والسلفيين حيث ركبوا الثورة متأخرا - ويحذرنا جاكوبسون أن يأخذنا الحماس بعيدا في تصديق " الطبيعة العلمانية " للثورة التي تبتلع - جاكوبسون يتحدث بلغة أدبية ويكثير من استخدام الألفاظ الجزلة والتشبيهات - الشرق الأوسط الآن فالأتقياء المتدينون يكمنون هناك في الأجنحة وليس في الوسط ، ينتظرون الساعة المناسبة لتحقيق نصرهم، ويرجعون الاستبداد مرة أخري، ولكن هذه المرة في صورتهم هم. ورغم أن ذلك لم يحدث حتي الآن حيث نستمع للمتظاهرين ونري أنهم لا يهتمون بمن سيأتي ماداموا سيأتون بطريقة ديمقراطية، ولا يعلمون أن تلك الطريقة قد تكون أنسب الطرق لمجيء الحكم الثيوقراطي الديني وحتي ذلك الحين ستظل نشوة الثورة ساحرة لا تقاوم، ويتساءل الكاتب : لماذا أقاوم سحر الثورة ؟ ماهو الخطأ؟ هل أفتقر إلي جينات الحماسة ؟ يجيب جاكوبسون عن نفسه : شكي الوقائي ليس له علاقة بالتفاؤل الثوري الذي يجتاح الليبيين والمصريين الذين من حقهم أن يتنسموا نسيم الحرية ويشعرون بنعيم الحياة كما فعل من قبلهم التشيكيون والألمان الشرقيون .ولكن الكاتب يري أن الشرق الأوسط يختلف عن شرق أوروبا، ويدعونا الكاتب للتأمل في فعل الثورة الشعبية في حد ذاته حيث تنتقل السلطة السياسية للشعب ولكن من هو الشعب؟ ومن هو الشعب الذي يسعي إلي التغيير ؟ وكيف نميزه عن غيره من الشعب ؟ يبدو أن هناك ميلا في الطبيعة البشرية يدفعنا إلي أن نخلع صفة الشعب عن الطبقة التي تمارس فعل الاضطهاد ونضعها علي تلك التي يقع عليها الاضطهاد ونقول هؤلاء الشعب .ويري جاكوبسون أن تاريخ الثورات يخبرنا أن " الشعب " يتحول وفي غمضة عين من مضطهد - بفتح الهاء - إلي مضطهد - بكسر الهاء - احذروا الشباب والإنترنت ويلفت جاكوبسون نظرنا إلي مغالطتين كبيرتين يرتبط بعضهما بالآخر وهما الشباب والإنترنت ، حيث قرأ كثيرا علي التويتر أن أفكار الشباب وآرائهم أكثر قيمة من الكبار؛ لأنهم منفتحون علي الفيس بوك والإنترنت، ويدعو جاكوبسون ألا تأخذنا الأوهام بعيدا؛ فعندما اخترعت المطبعة هلل لها الناس وظنوا بها خيرا والمطبعة كما علمنا تسببت في نشر الخير والشر معا، وكذلك الفيس بوك فعلينا أن نحذر خاصة أن الفيس بوك أداة في يد الشعب - الشعب فقط أيا كان انتماؤه - أما بالنسبة للشباب فيري الكاتب أنهم أكثر الفئات دعوة إلي التعصب وهم الذين يسخرهم المتعصبون لحماية أفكارهم فالشباب دائما يحتاجون إلي تدفق الدماء في عروقهم وإلي الصراخ والصخب والهمجية، ورغم احتياجنا إلي طاقتهم فعلينا ألا ننسي أنهم والموبايلات في أيديهم والحواسيب المحمولة علي أفخاذهم يتبادلون المعلومات بسرعة فائقة بلا فهم أو وعي لما يتبادلونه .