لم تكن ممثلة والسلام بل كانت لوحة فنية تنشر الحب والسلام كلما أطلت علينا من خلف الشاشة أو كلما حضرت لتجسد دورا لبطولة في إحدي المسرحيات، إذ كان المسرح بالنسبة لها أكسير الحياة فمن يراها قبل ان تبدأ أي عرض مسرحي قدمته- نص «يا طالع الشجرة» إخراج سعد أردش- لن يصدق ان ذات الممثلة هي من تقف أمامه الآن علي خشبة المسرح وقد تخلت عن المرض أو تخلي هو عنها فلقد كان الفن بالنسبة إليها بمثابة مانح الحياة ومفجر الطاقات، أحدثكم عن راهبة المسرح المصري القديرة أمينة رزق الذي مرت ذكري مولدها دون احتفال أو احتفاء نظرا لما تشهده البلاد من تحولات علي جميع الأصعدة منذ انفجار ثورة 25 يناير. البدايات والنهايات ولدت أمينة رزق بمدينة طنطا في 1910/4/10 وهي من اسرة محافظة لكنها بدأت تشعر بميل نحو فن التمثيل منذ الصغر فحينما كان السيرك يجوب محافظات مصر وبالتحديد في مدينة طنطا حيث كانت تحرص الأسرة علي الذهاب إليه وكانت الطفلة أمينة رزق تنام طوال فترة عرض الألعاب البهلوانية وتحرص دائماً علي مشاهدة الفاصل التمثيلي الذي يقدم في نهاية بروجرام السيرك، لقد انقلبت حياة أمينة رزق رأسا علي عقب بعد حادثة، (الحادثة دي كان فيه عصابة في طنطا اسمها عصابة الشيخ محمود علام، كان زي ريا وسكينة ناصبين شباكهم هناك وفي عزا والدي جت واحدة ست غريبة تعزي وطبعا دي حاجة عادية في الريف يعني موش ضروري نعرف كل المعزين المهم ان الست الغريبة استطاعت ان تعرف كل شيء عن أموال أبي الذي أقرضها للبعض في مدينة قريبة وااستطاعت أيضا من ثرثرة النساء ان تعرف ان والدتي لديها مصاغ، بالإضافة إلي ارتدائي وأنا صغيرة للذهب، من هنا عرضت تلك السيدة علي جدتي ان تستعين بزوجها عمدة القرية التي يقطن بها الدائنون، وبالفعل اتفق الزوج والجدة والأم وأنا علي الذهاب بعد أيام قليلة من العزاء ولكن قبل الموعد بساعات أخبرتنا جارتنا بأن السيدة الغريبة وزوجها ينويان قتلنا اليوم وفورا قررت الجدة ان نترك طنطا جميعا ونذهب إلي القاهرة. واستقرت أسرة أمينة رزق بعد هذا الموقف الدرامي في حي روض الفرج، وهذا الحي كان الملهي الصيفي لجميع المسارح والملاهي، ومن هنا بدأت علاقة أمينة رزق الطفلة مع المسرح حيث كانت تتسلل بصحبة خالتها أمينة محمد وفي إحدي الليالي تغيبت ممثلة عن الحضور وعرضت خالة أمينة رزق الأمر علي صاحب الفرقة وبالفعل استطاعت كل من أمينة الخالة وأمينة رزق ان تسد غياب الممثلة، وفي إحدي الليالي وأثناء تواجد أمينة رزق وخالتها بأحد مسارح عماد الدين اصطدمتا بمدير الفرقة «فرقة يوسف وهبي» الذي ازعجه تواجدهما بالكواليس ولكن عين القدير يوسف وهبي التقطت الطفلتين أمينة رزق وأمينة محمد وأسند لأمينة رزق دوراً صغيراً في مسرحية «الذهب» لديفيد كوبرفيلد وهو مشهد عام بمدرسة أطفال ولكن الأسرة رفضت الأمر جملة وتفصيلا وأجهض الحلم ولكن الصدفة أعادت الحلم مرة أخري حينما تقابلت أمينة رزق وأمينة محمد بإحدي ممثلات فرقة يوسف وهبي واستطاعت هذه الممثلة هي وزوجها ان تنجح في إقناع أسرة أمينة رزق بأن فرقة يوسف بك وهبي مدرسة في حد ذاتها ليست في الفن ولكن في الأخلاق أيضاً، واستطاعت أمينة رزق ان تأخذ دور طفل في مسرحية راسبوتين، كان مقررا أن تلعبه خالتها وكان لنجاح أمينة رزق في «راسبوتين» ان عرضت عليها الفنانة الكبيرة روزاليوسف ان يعيدا مرة أخري مسرحية «الموت المدني» ويقوم بإسناد دور الطفلة في «الموت المدني» للطفلة الجديدة أمينة رزق وتأخذ روز دور البطولة كالمعتاد وقامت الكبيرة روزا اليوسف بتدريب الصغيرة أمينة رزق علي الدور ونجحت أمينة رزق وقام يوسف وهبي بزيادة راتبها من 4 إلي 5 جنيهات في الشهر، تعلمت أمينة رزق في مدرسة يوسف بك وهبي حتي صار النجاح توهجا والتوهج نوعاً من أنواع العشق للمهنة لذلك في عام 1925 أسند لها وهبي أول دور رئيسي هو دور ليلي الفتاة اليتيمة العاشقة في مسرحية «الذبائح» لأنطوان يزبك، ومنذ عام 1930 أسند إليها أدوار البطولة بالتبادل مع الفنانة فردوس حسن بعد تخلف الممثلة الأولي زينب صدقي عن السفر مع الفرقة في إحدي رحلاتها للخارج وبعد ان تأكد خروج زينب صدقي من الفرقة نهائيا أصبحت أمينة رزق بطلة الفرقة بلا منازع ومن هنا وقفت أمام معلمها وجها لوجه كبطلة في عشرات المسرحيات مثل «أولاد الفقراء»، «إيثان الهائل»، «الطمع»، «عطيل»، «بنات اليوم»، «فاجعة علي المسرح»، «قلوب الهوانم»، «مجنون ليلي»، «كرسي الاعتراف»، «حب عظيم» وغيرها من المسرحيات، وفي عام 1944 حل يوسف وهبي فرقته المسرحية فانضمت أمينة رزق إلي الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقي ثم فرقة المسرح القومي ابتداء من 1958 مع سائر أفراد الفرقة ومكثت بفرقة المسرح القومي - أعرق الفرق المسرحية في الوطن العربي- أكثر من ربع قرن إذ أصبحت واحدة من بطلاتها المعدودات حيث تألقت العظيمة أمينة رزق في عشرات العروض علي خشبة المسرح القومي قبل أن يصبح أطلالاً بفعل النظام السابق، ومن تلك العروض «مسيو جاك الصغير، «راسبوتين»، «شهريار»، «تاج المرأة»، «المليونير»، «شهر زاد»، «مصرع كليو باترا»، «ست برتارواليا» و«الطعام لكل فم». وإذا انتقلنا من التشخيص أو التمثيل لحياة أمينة رزق العاطفية ستجد أن أشهر ما كان يردد دائماً علي ألسنة الناس أن راهبة المسرح المصري لم تتزوج بسبب حبها الشديد ليوسف بك وهبي وعن تلك الشائعة تتحدث أمينة رزق في كتاب من «رائدات المسرح المصري» لدينا يحيي قائلة: «يوسف وهبي بأقدره كفنان وكإنسان زي أبويا وزي أستاذي وزي كل حاجة، انما الناس فسرت للأسف العاطفة بتاعتي دي والود ده علي انه لازم يكون عاطفة غرام لأنه ده السؤال الدائم اللي بيسألهولي دائماً فأنا باقول لحضرتك ود واحترام وتقدير ليوسف وهبي انما العاطفة الغرامية انه ست لراجل لا، دي معدومة بالنسبة لي بأقولها بصراحة وهو اتجوز علي إيدي أربع مرات». ولعل كثيراً من القراء لا يعرف أن القديرة أمينة رزق خاضت تجربة الخطبة إذ تقدم لخطبتها رجل ثري صديق ليوسف وهبي لكنه حاصرها وكاد ان يدمرها فنياً ففسخت الخطبة وقررت ان تتفرغ للفن فقط فمثلاً في مجال السينما بزغ نجمها كممثلة قديرة في أدوار الزوجة المخلصة والأم الحنون إذ ظهرت أمينة رزق لأول مرة علي الشاشة في فيلم «أولاد الذوات» عام 1931، ثم توالي ظهورها في أفلام عديدة منها «المجد الخالد»، «الدكتور»، «قلب امرأة»، «أولاد الفقراء»، «عاصفة في بيت»، «البؤساء»، «الطريق المستقيم»، «يد الله»، «عاشت في الظلام»، «العاشق المحروم» و«أريد حلا» وفي شبابها كانت تجسد أدوار الفتاة الرقيقة الوديعة نظرا لطبيعة شخصيتها وتأثرها الواضح بمدرسة يوسف وهبي الميلودرامية في الأداء وحينما تقدم بها العمر احتضنت تجسيد دور الأم في المسرح والسينما والإذاعة فكاتب هذه السطور لا يستطيع ان ينسي آخر عرض مسرحي قدمته علي خشبة مسرح الطليعة قبل وفاتها بأسابيع حينما طلبت منها ان أجسل مذكراتها من خلال صور مسرحياتها وهذه الفكرة كانت فكرة مدير المسرح في ذلك الوقت المخرج المسرحي انتصار عبدالفتاح لكنها نظرت إلي بإشفاق وقالت: «الكلام اللي انت بتقوله ده عاوز عمر تاني» ولم أكن أعلم انها تقترب من النهاية وهكذا دائما مع العظماء الأشجار تموت واقفة فعذرا ست أمينة ان كنا قد تأخرنا في الاحتفال بك أو الاحتفاء فمن المؤكد انك كنت تحلمين بمصر الحرة التي تتمني ان تولد من رحم ثورة 25 يناير.