كلما جاءت دورة جديدة من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.. جاء المسرح بكل جماليته.. وأشكاله.. وتجاربه.. وتقنياته.. جاء المسرح بكل التعب والجهد والفرح واللقاء.. وحالة التواصل مع المسرح وللمسرح.. المسرح هذا الفن الأسطوري الجميل ظل زمنا طويلاً يرحل من زمن إلي زمن.. من شكل الي شكل.. من هاجس الي هاجس.. وها هو المسرح يخطو خطواته الاثنين والعشرين. شهدت القاهرة فعاليات الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للمسرح التجريبي، والتي شارك فيها إحدي وستون فرقة مسرحية من ثمانٍ وأربعين دولة، بينها ثلاث عشرة دولة عربية.. وشهد المهرجان زخمًا فنيا؛ حيث قُدم فيه خمسة وثمانون عرضا مسرحيا، بينها اثنان وعشرون عرضا مصريا ومثلها عربيا، وأكثر من أربعين عرضا أجنبيا بينها العروض الأفريقية.. كما احتضن واحدًا وعشرين مسرحا بالقاهرة، منها المسرحان الكبير والصغير بدار الأوبرا، إضافة إلي مسارح وزارة الثقافة، ومنها: المكشوف والعائم والجمهورية والشباب والسلام، واستهل العرض الروسي "بداية العالم" حفل الافتتاح.. إلا أن الجديد لهذا العام، هو تزايد مشاركة فرق الدول الأفريقية، ومنها السنغال وغينيا ونيجيريا، وساحل العاج، والجابون. وابتدأت الفعاليات بكلمة فاروق حسني وزير الثقافة، والذي أكد أن التجريب هو أحد أدوات الطموح لتجاوز الوضع السائد، ليغلق بتسيده إمكانات الحرية والتطور، ويعطل قدرات الخيال والتصور، ويحاصر قوي التغير والتحرر، بعوائق تتنوع أقنعتها، وتتعدد شعاراتها، وإن كانت علي الحقيقة تستهدف إنتاج حالة الاستبداد والتقولب والجمود. وأضاف: أن الثقافة المشحونة بطاقة الاستشراف والتبصر والترقب، قادرة علي طرح التساؤلات من خلال مداومتها للتفكير النقدي، وعيا بالمستقبل، وتفتحًا علي المستبعد، وتخطيا لمنهج الاحتذاء المتجاوز لزمنه الثقافي، هذه الثقافة تمتلك إمكانية إدراك قيمة التجريب، والقدرة علي ابتكاره واستيعابه، بخلق مساحات قبوله واستمراره، وحماية معطياته؛ استهدافًا إلي تحسين الأداء المجتمعي بتخطي مشكلاته، ومضاعفة إمكاناته. فيما احتفي د. فوزي فهمي رئيس المهرجان، ب "أنتوني فيلد" ضيف شرف المهرجان، الذي قال عنه: إنه اسم يعني في بريطانيا وخارجها - بالنسبة إلي المسرح - كثيرًا من الإنجازات والمكتسبات التي تجسدت عبر مسيرة حياة ارتبطت بتجارب وخبرات مفتوحة في مجالات المسرح المتعددة، فشكلت نوعية رجل مسرح متفرد، إبداعًا، وإدارةً، وإنتاجًا، وتدريسًا، وكتابةً. وأضاف: إن أنتوني فيلد، يستضيفه مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثانية والعشرين، استمرارًا للفكرة التي بدأها المهرجان في الدورة السابقة، باستضافة المسرحي الأمريكي الشهير "ريتشار شيكنر"؛ وذلك لخلق مساحات للتواصل والتبادل مع جماعات المسرحيين في العالم، عبر رسالة يشارك بتوجيهها واحدٌ من قامات المسرحيين في حفل افتتاح المهرجان. أما أنتوني فيلد، فقال: إنه لشرف عظيم أن اُدعَي إلي افتتاح الدورة الثانية والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.. وهذه هي المرة الأولي التي أحظي فيها بحضور هذا المهرجان، ولكنني سمعت الكثير عنه من زملائي الذين حدثوني عن العروض الرائعة والفذة التي يستضيفها، والتي شاهدوها من خلاله عبر السنين. والآن ستتاح لي الفرصة، لأن أشاهد مثل هذه العروض بنفسي، وأنا أود أن أهنئ كل من شاركوا في صنع هذا الحدث المهم، بدءًا من وزير الثقافة، ود. فوزي فهمي، إلي كل عضو في فريق المنظمين والمترجمين. وأشار إلي أن أي نشاط مسرحي متميز يبدأ كتجربة، وإلا سيتحول الأمر إلي مجرد تكرار لما قيل من قبل، كما هي الحال في المسلسلات التليفزيونية السطحية.. بل إن كل التجارب تحمل مخاطر كثيرة، فالمرء لا يعرف سلفًا إذا كانت ستنجح، أو سيكون مصيرها الفشل، وهذا ما يدفعنا إلي التجريب.. ففي بعض الأحيان، وحتي بعد العرض الأول، قد لا نعرف إذا كانت التجربة قد نجحت أو فشلت.. وأضاف: لقد وصف النقاد أوبرا مدام بترفلاي لبوتشيني بأنها عمل فاشل، ومجرد "مجموعة من الأصوات المتنافرة: حين قُدِّمَتْ أول مرة في ميلانو عام 1904 . ثم أوغل في الحديث عن تجاربه مع المسرح التجريبي، لافتًا في إشارات متعددة إلي أزمات المسرح وما يعانيه؛ بدءًا بالمساعدات الضئيلة من الحكومة، مرورًا بالضرائب الجائرة، ثم الرقابة. وتضمنت الفعاليات عددًا من الندوات؛ تناولت الرئيسية منها التجريب في مسرح الرؤي.. مفندة تجارب مسرح الرؤي من خلال المخرجين ومصممي المسرح في بلدان مختلفة.. وشارك في الندوة كل من: د. أيمن الشيوي من مصر، وأليس رونفالد من كندا، وأميليو بيرال من إسبانيا، والإيطالي أتافو توفانو، وتوماس إنجل من ألمانيا، ومجد القصص من الأردن، والصينية لي شا، وأدار الحوار أحمد زكي، فيما اعتذر الفرنسي فيليب تونسولي عن الحضور. وتساءل د. أيمن الشيوي: هل انتهي عصر المخرجين المسرحيين العظام؟ ولماذا لم نعد نسمع عن مسرحيات عظيمة يسعي الباحثون للكتابة عنها وتحليلها؟.. بل ولماذا لم تعد العروض المسرحية تبهرنا رغم ما قدمته التكنولوجيا من إمكانات هائلة؟.. وما الدور الذي تلعبه الرؤي الإخراجية للاحتفاظ للمسرح بدوره علي خريطة الحياة العامة والثقافية؟ وأضاف: إن مفهوم الإخراج والدور الذي يلعبه المخرج في المسرح تطور خلال الآونة الأخيرة ليصبح صاحب الرؤية أو وجهة النظر التي يطرحها العرض سواء علي مستوي الرؤية الفكرية أو الفنية أو التشكيلية أو رؤيته في صياغة مجموعة العلاقات القائمة بين عناصر العرض المختلفة. وألمح إلي أن تطور مفهوم التفسير الفكري للنص يعطي حرية أكبر للمخرج في طرح رؤيته الذاتية للعالم وللقضايا المطروحة، بحيث يصبح المخرج المسرحي هو نقطة البداية لانطلاق العرض المسرحي وصاحب الابتكار فيه.. مؤكدًا أن تطور العرض المسرحي جاء ثمرة لجهود كبيرة ورؤي متعددة لكسر القواعد المألوفة التي أطلقها العديد من قادة المسرح، كما أن التكنولوجيا المتاحة للجميع أتاحت للمخرج الانطلاق نحو رؤي إخراجية وأحلام إبداعية يمكن تحقيقها علي الخشبة إلا أنها لا تلغي أو تقلل من شأن العنصر البشري. وأوضح أن فن الإخراج والرؤية الإخراجية للعرض المسرحي تطورا علي يد مجموعة من الفنانين الذين جمعوا بين دروين؛ هما: دور المخرج صاحب الرؤية، ودور السينوغراف، والذي بدأ كمصمم سواء للديكور والأزياء وكذلك الحركة التي يقوم بها الممثل باعتباره العنصر الحي في الفراغ المسرحي؛ لذلك اهتم المخرجون بعنصر الرؤية البصرية والجانب التشكيلي، لاعتبارهم أن العرض المسرحي هو فن للرؤية ولمخاطبة العين وليس الأذن فقط.. فالمسرحية ليست أدباً بل إنها أدب ضمن شروط المسرح. فيما تحدثت د. لي شا عن المسرح البصري في الصين، وعن التطور السريع الذي شهدته التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا وسائل الإعلام وتأثير التجارب البصرية الحديثة في المسرح، بحيث تحول المحتوي المسرحي من نص تقليدي إلي صورة ومن ثم حدث تغير ملحوظ في دراما النص، واتجه جمال المسرح وعاطفته وصورته وتركيبته وعروضه وسرده ولغته إلي التركيز علي الناحية البصرية، وكان ذلك بمثابة إشارة لظهور "المسرح البصري"، وتري أنه في المسرح البصري يكون دور المخرج علي قدر كبير من الأهمية في عملية الإبداع.. لافتة إلي أنه توجد ثلاثة نماذج "للمسرح البصري" داخل الصين؛ وهي: المسرح البصري الذي يعتمد علي الدمج بين صور وسائل الإعلام والاتصال المتعددة، والمسرح البصري الذي يعتمد علي حركة الجسد، والمسرح البصري الذي يعتمد علي التعاون مع الفنون الشعبية. بينما تطرقت الباحثة الأردنية مجد القصص إلي التجريب في مسرح الصورة لدي المخرجين وتناولت الإرهاصات التي تشكل مسرح الصورة، ففن المسرح - وليس التمثيل أو الشعر أو الموسيقي - ليس الديكور أو الرقص أو الألوان ولكنه يتشكل من جميع هذه العناصر، مع التأكيد علي أن المخرج هو أصل العملية الإبداعية وله السلطة الأولي والنهاية في العرض. وأضافت: إن مسرح الصورة هو أحد أشكال التعبير الذي يتم من خلاله عرض مشهد إبداعي خلاق أمام الجمهور أو بمشاركة تخاطب فيه الصورة المرئية كل الحواس، وتستثير صوراً عقلية، وتكون الحركة هي المبدأ المنظم الأساسي لمسرح الصورة، وليس بالضرورة أن يكون مسرح الصورة مسرحاً صامتا وبلا حوار أو أصوات بل من الممكن أن يضم كلمات منطوقة وموسيقي. وأشارت الباحثة الكندية أليس رونفالد خلال حديثها عن مسرح المشاهدة إلي تجربتها الإخراجية وعلاقتها بالصورة في العرض المسرحي.. وتري أنه يمكن استخدام الصور المصورة أو الافتراضية لإظهار الجانب الخفي الغائر للنص. وأضافت أن المسرح بالنسبة لها هو إسفنجة تمتص كل شفرات التطبيقات الفنية، ويمكن من خلال استخدام أدوات قياسية كالأرض والماء والجرانيت أن تثير عقل وفكر المتفرج. تلت الندوة - خلال الفعاليات - ندوة أخري حول "تجارب مسرح الرؤي من خلال كتاب المسرح في مختلف البلدان"، عرضت فيها الباحثة العمانية عزة قصابي ورقة بحثية بعنوان "بنية النص في مسرح الرؤي" من خلال التطبيق علي الأعمال التي قدمها المخرج صلاح القصب في مسرح الرؤي، شارك فيها مجموعة من الباحثين منهم إليزابيث كورندال من السويد، وجون كاسبروك من انجلترا، ومن مصر د. حسن عطية، وروبرتو كافوس من إيطاليا، وعزة قصابي من سلطنة عمان، وهايكي موللي من ألمانيا، ومن أمريكا هيلين شو، وأدارت الحوار نهاد صليحة، واعتذر توبياس انكو من سويسرا عن الحضور. وتطرقت الباحثة العمانية عزة القصابي للحديث عن مسرح الرؤي بكونه تجربة فريدة تحاول مواكبة لغة العصر الصورية في ظل الطفرة الحديثة في مجالات الفنون والآداب والاتصالات، لذلك كان من الضروري البحث عن شكل مسرحي تمتد جذوره من عالم الاسطورة حيث الخرافة والطقس إلي العصر الحديث حيث الذرة والطاقة النووية والصورة الرقمية في عصرنا الحالي.. وأكدت أن مسرح الرؤي سيظل محل جدال واهتمام لدي النخبة المسرحية المغرمة بحس التجريب التي تبحث عن الجديد، فهو فن يخاطب الرؤية البصرية التي تتغلغل للبحث في مفرداته في مخيلة المشاهد لكي يثير فينا الدهشة والتساؤل. ثم استعرضت التجربة النصية في مسرح الرؤي عند صلاح القصب الذي قدم العديد من التجارب المسرحية برؤي إخراجية صورية أهمها مسرحيات شكسبير مثل الملك لير، ما كبث، هاملت، العاصفة، ومسرحيات تشيخوف مثل الشقيقات الثلاثة، وطائر البحر، كما قدم أحزان مهرج ومسرحية الحلم الضوئي، وعزله في الكريستال. فيما تطرقت الباحثة الأمريكية هيلين شو إلي الأسباب التي جعلت المسرح المرئي يسيطر علي المشهد والمسرح التجريبي وذلك بسبب أن جمهور العمل التجريبي صغير ومتقلب، كما أن المسرح التجريبي رفيق بطيء لعالم الرقص. وتحدث الباحث الإيطالي روبرتو كافوس عن الوضع المسرحي الحالي في إيطاليا، وقال إنها تمر بأزمة ثقافية تزيد في خطورتها عن أزمتها الاقتصادية، ويري أن المسرح يلعب دوراً مهماً وذلك من خلال قدرته علي جعل الناس يفكرون ويتوحدون.. ويري أن هناك بعض الخصائص المميزة للمسارح الإيطالية وهو كثرة تجوال الفرق المسرحية والتي تجني العائد المادي من خلال جولتها الفنية، أما المسارح الثابتة فيتم تمويلها حكومياً وتقوم بتبادل العروض المسرحية فيما بينهما. وقال إن التليفزيون هو أحد المعامل التي يتم في داخلها الإعداد للمسرح ويري أنه يجب إعادة صياغة المسرح لكي يخلق عروضاً مكتملة قادرة علي تلبية الحاجات الفردية أو الجماعية للبحث عن الحقيقة. كما يري أن العالم شديد العنف، لذلك فإن العروض المسرحية هي الوحيدة القادرة علي تقديم الواقع دون خداع مما يصب في صالح المجامع، وأن أحد أهداف المسرح يكمن في محاربة العنف. فيما أشار د. حسن عطية للحديث عن رؤي واقعية تعانق سحر الأسطورة الإسبانية وذلك بالتطبيق علي أعمال المؤلف والمخرج والكاتب "فرانثيسكو ينيبا" ففي مسرحه يعد نشاطه الإنساني الحر هو الأساس الموضوعي للتمثيل الجماعي للعالم، ففي هذا النشاط يتطور جوهر الإنسان وقواه الإبداعية عبر سعيه المستمر إلي استيعاب العالم وإدراكه وإخضاعه لرؤاه المستقبلية، ولذلك تصبح الحرية الفردية هي محور إبداعه وبنيته وعلة وجوده. واختتم د. عطية بأن دفع الوقائع خارج الأزمنة التقليدية أو خلطها بالسحر والخيال الأسطوري، يساعد علي نزع أي دلالات يومية محددة عنها، ويعطيها قدراً من المطلقية التراجيدية ويجعل الصراع صراعاً أبدياً بين الفرد والنظام وبين الحرية الذاتية والأجهزة القادمة لها، مسقطا من حسابه الأبنية الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي تلعب دوراً مهمًا في تلك العلاقات الأزلية بين الذات والآخر.