مسرح الطليعة يحتفل بمرور خمسين عاما علي تأسيسه.. مناسبة عزيزة علي نفس كل عاشق للمسرح المصري والعالمي، نظرا للدور الكبير الذي لعبه هذا المسرح الذي هزم الزمن والموقع الذي شاء القدر أن يجد نفسه فيه، حيث البائعة الجائلين الذين يحاصرونه بأصواتهم الرديئة، وبضاعتهم "المضروبة"، ورغم ذلك ظل مسرح الطليعة، طوال 50 عاما، يؤدي دوره التنويري، ويحتل مكانة كمنبر اشعاع ثقافي، وهو الهدف الذي قام عليه بفضل المؤسسين الكبار والأساتذة المخضرمين مثل: محمود السباع وسعد أردش ورشاد رشدي وغيرهم ممن تبنوا فكرة مسرح "الجيب"، حتي تحول الحلم إلي حقيقة في عهد الوزير ثروت عكاشة، حيث تأسس مسرح الطليعة عام 1962، وواصل تألقه ووصل إلي ذروة نجاحه علي يد سمير العصفوري وقت أن تولي إدارته قبل أن يختلط الحابل بالنابل، ويستعير أكثر من بيت مسرحي هوية واستراتيجية مسرح الطليعة، القائم علي التجريب، فأصبح هناك "الغد"، التجريبي و"الشبان"، التجريبي، ولم يجرؤ مسئول علي أن يفض الاشتباك! البداية من سمير العصفور مخرجنا الكبير الذي يمكن القول إنه "الأب الشرعي، للمسرح الطليعي في مصر، فهو الذي تولي إدارة مسرح الطليعة في أزهي عصوره، عام 1975 وبعدها، وهو الذي أسس "قاعة 79" و"نادي مسرح 79"، التي عرفت فيما بعد بقاعة صلاح عبدالصبور، وكان له فضل تقديم أجمل وأعزب المسرحيات الطليعية مثل "العسل عسل.. والبصل بصل".. ويقول عن التجربة. الدور الرئيسي للمسرح الطليعي يقوم علي تقديم النظريات والأبحاث والعروض الجديدة من حيث الشكل والمضمون والإخراج، كما أن دوره يقوم علي اجتلاب التجارب المسرحية الجديدة في نفس توقيت عرضها في أمريكا وأوروبا، كما فعل سعد أردش عندما قدم "بيكيت"، وكرم مطاوع مع التركي عزيز نيسين وحسن عبدالسلام مع المسرح الياباني، وهي الفترة التي شهدت بحث المسرح الطليعي عن هويته ونفسه في مصر من خلال صيغة مبتكرة تجمع بين التجريب والتماس مع الواقع المصري، كما فعل نجيب سرور في "حسن ونعيمة"، وتكرر الحال مع المخرج أحمد زكي عندما قدم أعمال بيتر فايس وجاء شوقي عبدالحكيم ليقدم "مولد الملك معروف"، والملاحظ هنا أنه كان "مسرح موجه"، ومحدود الجمهور، لكونه يخاطب فئة واعية أو راغبة في التزود بوعي مسرحي جديد، لكنه حقق الهدف وانتزع لنفسه هوية مكنته من اثبات ذاته. أما اليوم فقد حدثت مشكلة ناتجة عن الخلط الحاصل بين فكرتي التجريب والتعليم أو التدريب، فالمسرحية التجريبية عمل مركب يحتاج إلي خبرة، ومايحدث اليوم أن هناك خلطا ناتجا عن قلة الوعي بالأدوار المنوطة بالمسارح المختلفة، وبالتالي أصبحنا حيال "فوضي"، عارمة تستوجب منا إعادة النظر فيما هو "تجريبي"، وما هو "تهجيصي"، خصوصا أن هناك أيضا نقصا فادحا في وعي بعض الفنانين، حيث لا يدري الواحد منهم حقيقة دوره أو نوع المسرح الذي ينبغي عليه أن يقدمه، لان تقديم عرض تجريبي علي خشبة مسرح "كلاسيكي"، خيانة للقاعدة الجماهيرية للمسرح، ومساهمة في تغييب الوعي لدي هذه القاعدة، وفي هذه النقطة، في رأيي، يكمن السبب في هروب الجمهور من المسرح، حيث لم يجد فارقا بين ما يقدمه هذا المسرح أو ذاك، بينما كان الوضع مختلفا من قبل، بدليل انه يقدم توفيق الحكيم عندما يكتب "يا طالع الشجرة"، ويترك كلاسيكياته للمسرح القومي مثلا ويقدم يوسف إدريس "المخططين" لأنها الأنسب لطبيعته ودوره، فمسرح الطليعة كان بحق "مسرحا ميكروسكوبيا"، يشبه إلي حد كبير المعامل التي تشهد "عمليات التجريب"، وهو ما لا نراه اليوم إلا في مسرح الهناجر أو ساقية الصاوي وأحيانا مركز الابداع.. وفيما عدا هذا ضاع المسرح المصري بعدما وجه الإعلام الأنظار إلي السينما الجديدة، وتجاهل المسرح بحجة الأزمة الاقتصادية وأوهام إنفلونزا الخنازير، وكانت النتيجة أن أغلقت 20 فرقة مسرحية أبوابها ولم يتحرك أحد ولو بوقفة احتجاجية واحدة، بل وصل الحال إلي إغلاق المسرح القومي منذ عام تقريبا من دون أن يحرك هذا شعرة في رأس مسئول، وعادل إمام بجلالة قدره يقدم مسرحية يومين فقط في الأسبوع بما يعني أن هناك أزمة وحالة قطيعة أو "خصام" بين الجمهور والحركة المسرحية بوجه عام وليس مسرح الدولة فحسب! ويفاجئنا الفنان القدير محمود الحديني بوجهة نظره في "التجريب" فيقول: "التجريب" في مصر لم يظهر إلا مع بداية مهرجان المسرح التجريبي، عندما بدأنا الاحتكاك الحقيقي بالفرق الأجنبية والعالمية، وما قبل هذا كان "التجريب" يعتمد علي وجهة نظر المخرج نفسه، كما حدث مع سمير العصفوري في مسرحية "ياعنتر"، بينما التجريب في معناه العلمي بعيد جدا وليس له وجود في أي من عناصر المسرح، وفي فترة سابقة كانت رؤية المخرج هي السائدة والمسيطرة الأمر الذي أدي إلي حدوث صدام بين المؤلف والمخرج. كما حدث في مسرحية "الفرافير"، بين د.يوسف إدريس مؤلف العرض وكرم مطاوع مخرجه، وسادت بعدها مقولة إن المخرج هو مؤلف العرض وليس كاتبه! أما الاشتباك الحاصل اليوم بين دور العرض المسرحية بالدرجة التي تجعلهم يتبادلون الأدوار "التجريبية"، فالسبب فيه يرجع إلي عدم وضوح الهدف وغياب الرؤية لدي كل مسرح، بدليل أن كل مسرح لديه غرفة شاغرة، يحولها إلي "مسرح تجريبي"، كقاعة عبدالرحمي الزرقاني التي كانت في الأصل غرفة ملابس، وتكرر الحال في بيوت مسرحية كثيرة. مما أدي إلي حدوث حالة "تشتيت" ولم يكن هذا في صالح أحد، الأمر الذي يدعونا إلي وقفة للبيت الفني للمسرح، برئاسة الفنان القدير توفيق عبدالحميد، ودعوة لتكوين مجلس إدارة يضع ويفرض استراتيجية أساسية تسير علي هداها المسارح التابعة للبيت الفني للمسرح، التي لاينبغي عليها أن تعمل في غياب مكتب فني لكل مسرح يعين مديره علي وضع الاستراتيجية ثم متابعة تنفيذها، واقترح أن يتكون هذا المكتب من ناقد أو كاتب مسرحي ومخرج لديه رؤية، ومن الأهمية بمكان وجود لجنة قراءة خاصة بكل مسرح بعيدا عن لجنة القراءة المركزية التابعة للبيت الفني للمسرح. وإن كنت لا أخفي، مع هذا، شعور الخوف الذي يتملكني حيال ظاهرة هروب الممثلين من المسرح بسبب اغراءات الدراما والفضائيات التليفزيونة الأمر الذي أدي ببعض مسارح الدولة للاستعانة بالنجوم من خارجها مما يرهق ميزانيتها ويستنزفها ويقلص انتاجها، وهو ما يمكن التغلب عليه بانتاج عروض رخيصة التكلفة تذهب إلي المحافظات وتحقق الهدف من دعم مسرح الدولة. الفنان القدير محمد محمود يتحدث عن "التجريب" والعروض الطليعية من منطلق كونه المدير الحالي لمسرح الطليعة.. ويقول: علي الرغم من التجارب العظيمة التي قدمها مسرح الطليعة طوال تاريخه إلا أن الواقع يؤكد أننا مازلنا نبحث عن هوية للمسرح الطليعي المصري، ولم يستقر الرأي بعد علي المعني العلمي للتجريب، فمسرحية "حي بني يقظان"، التي تقدم بها مسرح الطليعة للمشاركة في مهرجان المسرح التجريبي، وأجازتها اللجنة التي شاهدتها، صدر قرار باستبعادها من المسابقة الرسمية، وعُرضت علي هامش المهرجان، بما يعني أن القائمين علي المهرجان لديهم مفهوم مختلف عن "التجريب"! أما الاشتباك أو التشابه الحاصل بين مسارح الدولة فيرجع في نظري إلي غياب المعايير الواجبة في اختيار النصوص التي تقدمها هذه المسارح بحيث أصبحنا "لا نري العرض المناسب في المسرح المناسب" وتحولت مسارح الشباب والغد والطليعة إلي مرادفات لمعني واحد هو المسرح الجديد غير التقليدي.. وهو ما انتبه إليه المسئولون مؤخرا فكان قرار تحويل فرقة الغد التجريبية إلي الفرقة القومية للعروض التراثية، أي أن مهمتها تنحصر في تقديم التجريب المستلهم من نصوص التراث المصري فقط. لكن الحل في نظري يتمثل في تقليص عدد فرق مسرح الدولة لتصبح أربع فرق فقط موزعة علي "القومي"، ويعني بالكلاسيكيات المصرية والعالمية و"الكوميدي، ويقدم الكوميديا بطريقة القطاع الخاص وفلسفة القطاع العام وتندمج فرق الطليعة، والحديث والغد والشباب في فرقة واحدة يطلق عليها "الحديث"، والفرقة الرابعة تتخصص في تقديم مسرح الطفل وتهتم بمسرح العرائس أيضا، فإذا نجحنا في تقليص الفرق إلي أربع كيانات مسرحية مستقلة فقط ستكون أقوي وأكثر تأثيرا، مما هو الحاصل الآن، فالمسرح المصري في خطر كبير، ولابد من البحث عن صيغة جديدة تضمن له بقاءه.