تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يوم 9 مارس بتذكار وفاة البابا كيرلس السادس البطريرك رقم 116 السابق لقداسة البابا شنودة الثالث؛ فبالرغم من أن البابا كيرلس السادس لم يحصل علي لقب قديس رسميا لأن هذا اللقب لا يحصل عليه إلا من مر علي وفاته 50 سنة طبقاً لقوانين الكنيسة، إلا أن المكانة الشعبية للبابا كيرلس السادس جعلت الاحتفال بتذكار وفاته يتجاوز هذا الشرط، فهو القديس الذي تربع علي قلوب الأقباط جميعا، فلا يوجد بيت قبطي إلا ويحتفظ بصورة له في منزله، ولعل اللقب الذي اشتهر به البابا كيرلس السادس هو لقب "رجل الصلاة " يعبر عن حب الشعب له وتقديرهم لإيمانه.. فلقد حرص منذ أن رسم قسا أن يقيم صلوات القداس الإلهي يوميا مهما كانت الظروف. ولد البابا كيرلس السادس واسمه في شهادة الميلاد "عازر يوسف عطا" في يوم 2 أغسطس 1902 ببلدة طوخ دلكة بمحافظة المنوفية، ثم انتقلت الأسرة إلي مدينة الإسكندرية للعمل هناك، وتدرج عازر في مراحل التعليم المختلفة، ويروي عنه أنه في طفولته توجه إلي مائدة طعام أسرته، فشاهد عليها ما لذ وطاب من أصنفة الطعام الجيدة، فثار وعاتب والدته قائلا "إننا نأكل الطعام الفاخر، وبجوارنا عائلة الكردي فقيرة ومحتاجة حتي إلي العيش الحاف .الا يحسن أن نهديهم هذا الطعام الفاخر، فهم أحوج منه إلينا "فسرت الوالدة للشعور الجميل الذي للطفل عازر. وبعد انتهاء المرحلة الثانوية، عمل عازر بشركة "كوكس شيبنج" للملاحة، وأظهر فيها درجة كبيرة من الأمانة والالتزام والاخلاص في العمل، ثم اشتاقت نفسه إلي حياة الرهبنة، فاستقال من عمله، وتوجه إلي دير السيدة العذراء الشهير بالبراموس بوادي النطرون في يوم 12 يوليو 1927، ثم قضي فترة اختبار في الدير حتي تمت رسامته راهبا في يوم 25 فبراير 1928 تحت اسم "الراهب مينا البراموسي " وفي داخل الدير اهتم كثيرا بخدمة الرهبان الشيوخ، واشتاقت نفسه لحياة التوحد داخل إحدي المغارات في الجبل، فغادر الدير ليسكن في مغارة تبعد حوالي ساعة عن الدير "مازالت قائمة حتي الآن" ولقد زاره في المغارة كل من د.حسن فؤاد مدير مصلحة الآثار العربية في ذلك الوقت، ومعه ضيف أمريكي هو مدير كلية اللاهوت بنيويورك، حيث كانا في زيارة لدير البراموس، وعند خروجهما التقيا عن غير قصد بأعرابي عرض عليهما زيارة الراهب المتوحد، فلما جلسا إليه قال له العالم الأمريكي إنه جاء ليجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الرهبنة القبطية تمهيدا لوضع كتاب عنها، وقضي الاثنان ما يقرب من ساعتين معه؛ ولما قررا الانصراف، عبر العالم الأمريكي عن فرحته بلقاء الراهب الناسك والمعلومات الوفيرة التي استقاها منه . أما العالم المصري د.حسن فؤاد، فلقد أعطاه كارته الشخصي وقال له "شكرا لك يا أبي فلقد رفعت رأسنا عاليا وشرفت المصريين جميعا "ولم تمض بضعة أيام حتي فوجئ بزيارة أخري فرح لها جدا، وهي زيارة قداسة الأب البطريرك البابا يؤانس التاسع عشر البطريرك ال113 (1928- 1942)، الذي سمع عن بركات الراهب الناسك المتوحد في مغارته، فأصر علي الذهاب إليه بالرغم من شيخوخته، وتروي القصة أنه عندما علم الراهب مينا البراموسي بمجيء البابا إليه خرج لاستقباله في نصف الطريق، ولكن الأب البطريرك أصر علي زيارة المغارة بنفسه وأخذ بركتها. وتمضي الأيام ويختلف الراهب مينا مع رهبان الدير، فقرر أن يغادر الدير ويتوجه إلي القاهرة، وبينما هو يتجول بين الطواحين في مصر القديمة سأله الخفير المنوط بحراستها عما ينتويه، فأعرب الراهب مينا عن رغبته في السكن داخل الطاحونة، فأبلغه الخفير أنها من مخلفات عصر المماليك وهي تابعة لمصلحة الآثار العربية، وممنوع قطعيا لأي شخص أن يسكن فيها ما لم يحصل علي إذن من رئيس المصلحة، وهنا تذكر الراهب مينا كارت التوصية الذي أعطاه له الدكتور حسن فؤاد .وفي اليوم التالي مباشرة توجه الراهب مينا وطلب مقابلة رئيس المصلحة، وكم كانت دهشة الجميع أن خرج رئيس المصلحة وعانق الراهب مينا بحرارة ثم أدخله إلي مكتبه، وعندما علم برغبة الراهب مينا في السكن داخل الطاحونة حتي كتب خطابا إلي الخفير يأمره فيه أن يسمح للراهب الناسك السكن داخلها، وألا يتعرض إليه أحد . ولقد كتبت كتب كثيرة عن حياة الراهب مينا داخل الطاحونة الأثرية بمصر القديمة، وعن المخاطر الكثيرة التي تعرض لها، منها هجوم ثلاثة من اللصوص عليه ومحاولة الفتك به وسرقة الطاحونة ظنا منهم أن بها كنوزاً أثرية، ومما يروي عن هؤلاء الثلاثة اللصوص أن واحداً منهم صدمه قطار فمات في الحال، وعندما شاهد اللص الثاني هذا المنظر أصابته صدمة عصبية شديدة، أما الثالث فذهب إلي الراهب باكيا وطالبا التوبة . كذلك من ضمن المخاطر التي كان يتعرض لها خروج الذئاب عليه ومحاولة افتراسه ليلا، ومن القصص الطريفة التي رويت عنه أنه في فترة من الفترات كانت الطاحونة بدون باب، ففوجئ ذات مساء بدخول ذئب عليه، فرسم عليه علامة الصليب المقدس وسأله "ماذا تريد يا مبارك ؟ "فإذا بالذئب تزول عنه طبيعته الوحشية ويمكث تحت رجليه كحمل وديع، ومنذ ذلك اليوم اعتاد الذئب أن يخرج عليه كل مساء ويبيت معه حتي الفجر ويشرب الماء ثم يخرج، ومن القصص الطريفة التي تروي أنه ذات ليلة كان يزور الراهب مينا أحد الأخوة، وعند غروب الشمس وأثناء مغادرته الطاحونة شاهد الذئب يدخل عليه، فانزعج جدا لرؤيته، فداعبه الراهب مينا قائلا له "لا تنزعج، فهذا شريكي في الطاحونة " ولعل هذا الموقف يذكرنا بموقف مماثل للقديس برسوم العريان الذي سكن معه ثعبان كبير داخل مغارة كنيسة أبي سيفين الأثرية بمصر القديمة . ويروي البعض أنه بعد وفاة البابا يؤانس التاسع عشر في يوم 21 يونية 1942، أن الراهب مينا المتوحد حزن عليه جدا، وفي ذات ليلة شاهد رؤيا أن البابا يؤأنس صاعد إليه في المغارة في الجبل، فسأله الراهب مينا المتوحد عن سر صعوده الجبل، فأجابه البابا أن عصا الرعاية قد كسرت منه، فطلب منه الراهب مينا أن يتركها قليلا عنده لكي يصلحها، وبعد أن أصلحها وعندما أعادها إليه، قال له الاب البطريرك " خذها يا أبونا مينا، فلقد وهبتها لك " ثم استيقظ أبونا مينا من الرؤيا، وأخذ يفكر في معناها . وتروي بعض القصص أن البعض رشح الراهب مينا المتوحد لكي يصير بطريركا بعد وفاة البابا يؤانس، فلما سمع الراهب مينا بهذا الترشيح هرب سريعا إلي دير الأنبا شنودة بأخميم والمعروف في كتب التاريخ "بالدير الأبيض "ومكث هناك فترة حتي علم أنه قد تم صرف النظر عن ترشيحه بطريركا، فعاد مرة ثانية إلي الطاحونة . وخلال هذه الفترة داعبه حلم عمره وهو إعادة تعمير دير مارمينا الاثري بمريوط، وكانت في ذلك الوقت منطقة عسكرية تابعة للجيش البريطاني، فقدم طلبا إلي قائد الجيش يلتمس منه السماح بالسكن داخل خرائب دير مارمينا الأثري بمريوط فرفض القائد البريطاني بإصرار، فاضطر الراهب مينا للرضوخ للأمر، ولكن الحلم ظل يعاوده بقوة حتي تمكن من تحقيقه في الوقت المناسب كما سنري. وفي هذه الفترة طلب مطران بني سويف من الأنبا يوساب "وكان في ذلك الوقت قائمقام البطريرك أن يوفد الراهب مينا المتوحد لتعمير دير الأنبا صموئيل الأثري بجبل القلمون بالقرب من مغاغة، فوافق القائمقام، وبالفعل ذهب مينا المتوحد إلي مغاغة لتعمير الدير، وكانت هذه هي النواة الأولي لعودة الرهبنة إلي هذا الدير الأثري . وعندما عاد إلي مغارته بالطاحونة بمصر القديمة اكتشف أن الجيش البريطاني قد احتل المنطقة نتيجة اشتعال الحرب العالمية الثانية . فطلب الراهب مينا المتوحد من كاهن كنيسة الملاك القبلي بمصر القديمة بالسماح له بالإقامة داخل الكنيسة الأثرية، وكل من يزور هذه الكنيسة الأثرية - وحتي الآن - يجد الحجرة الخاصة بالقمص مينا المتوحد ويوجد بها الدولاب الخشبي البسيط الذي كان يضع فيه حاجاته الشخصية ."وتنفرد هذه الكنيسة الأثرية بأيقونة نادرة للسيدة العذراء وهي ترضع الطفل يسوع لا مثيل لها في كل كنائس القاهرة علي حد علمي " كذلك أقام فترة من الوقت بكنيسة السيدة العذراء الأثرية المعروفة ببابليون الدرج بمصر القديمة . وفي هذه الفترة فكر في بناء كنيسة علي اسم الشهيد العظيم مارمينا، فاشتري قطعة أرض مساحتها 500 متر وتقع بجوار كنيسة الملاك القبلي بحي الزهراء بمصر القديمة، وأقام في الدور العلوي من الكنيسة السكن الخاص به، وأقام في الغرف الملحقة بالكنيسة ورشا لتعليم أطفال الحي الحرف البسيطة كالحدادة والنجارة والسباكة، كما أقام سكنا للطلبة المغتربين، والتف حوله العديد من الشباب المؤمنين ببركته والطالبين صلواته، وتوافد عليه العديد من الشباب مسلمين وأقباطا ملتمسين بركاته، وخرجت عشرات القصص عن معجزات الشفاء التي يجريها الله علي يديه في هذه الكنيسة الصغيرة الفقيرة . وفي يوم 13 نوفمبر 1956 توفي البابا يوساب الثاني البطريرك ال115، فاختير الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف السابق قائمقام بطريرك؛ حيث قام بترشيح القمص مينا المتوحد -دون علمه- للبطريركية حتي رسيت عليه في النهاية. وبالفعل تمت رسامته بطريركا تحت اسم "البابا كيرلس السادس " في يوم الأحد الموافق 10 مايو 1959 بحضور كبار رجال الدولة والسلك الدبلوماسي . وبعدها تحقق حلم عمره، الا وهو إعادة تعمير الدير الأثري لمارمينا بمريوط، وكان ذلك يوم 27 نوفمبر 1959 حيث قام البابا كيرلس السادس بوضع حجر الأساس لدير مارمينا بمريوط ليتحول الديرإلي مركز إشعاع روحي كبير مازلنا نعيش ثماره حتي الآن . كما شهدت الكنيسة القبطية فترة من البهاء لعل من أهم ملامحها الصداقة القوية والمتينة التي ربطته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتمت في عهده افتتاح الكاتدرائية المرقسية الجديدة بالأنبا رويس بالعباسية في يوم 25 يونية 1968 بحضور الرئيس جمال عبد الناصر والإمبراطور هيلاسلاسي إمبراطور أثيوبيا، كذلك تمت إعادة جزء من رفات القديس مرقس الرسول من فينسيا . وتوالت الانجازات حتي رحل عن عالمنا الفاني في يوم 9 مارس 1971، ودفن أولا بالكاتدرائية المرقسية، ثم نقل بعدها وبناء علي صيته إلي دير مارمينا بمريوط حيث دفن هناك، وكان ذلك في يوم 24 نوفمبر 1972، ومازال جسده مدفونا بدير مارمينا يزوره الألوف يوميا .