تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ 42 عاما في يونية من كل عام بتذكار عودة جزء من رفات القديس مارمرقس الرسول إلي أرض مصر.. وتحديدا في 24 يونية 1968م .. وذلك بعد أن غاب عنها لحوالي 11 قرنا من الزمان قضاها في إيطاليا. نشأته وعلاقته بالمسيح ولمارمرقس ( معني كلمة مرقس مطرقة باللغة اليونانية ) أهمية شديدة الخصوصية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فهو مؤسس الإيمان المسيحي بها وكاروز الديار المصرية، ولد في مدينة قورينة أحد الخمس المدن الغربية بليبيا من أب يدعي" أرسطوبولس" وأم تدعي "مريم"، وتذكر بعض المراجع التاريخية أن عائلة القديس مرقس تعرضت لسطو مسلح من بعض القبائل الهمجية المتبربرة، فسرقوهم وجردوهم من كل شيء مما اضطر الأسرة إلي الهجرة إلي فلسطين، وهناك تعرف علي السيد المسيح وأصبح تلميذا له، وكان من بين السبعين رسولا الذين وقع عليهم اختيار السيد المسيح للتبشير في العالم؛ وفي بيت مامرقس الرسول اجتمع السيد المسيح مع التلاميذ مرارا، وتذكر كتب التاريخ أن بيته هذا صار أول كنيسة في العالم، وهو صاحب الإنجيل المعروف ب"إنجيل مرقس " ولقد كتبه للرومان. أما عن قصة مجيئه إلي مصر وبداية تبشيره، فتروي كتب التاريخ عنه أنه ذات يوم وكان ذلك في نحو عام 61 م تقريبا، وهو سائر علي البحر في مدينة الإسكندرية متفكرا ومتأملا من أين يبدأ الكرازة في هذه المدينة الممتلئة بالفلسفة والحكمة، وفجأة تمزق حذاؤه، فذهب إلي أسكافي يدعي "أنيانوس" لإصلاح حذائه، وأثناء إصلاح الحذاء دخل المخراز في يد الإسكافي ، فصرخ من شدة الألم قائلا "ياالله الواحد" فتعجب القديس مرقس وصلي علي يده حتي شفيت، ثم أخذ يحدثه عن الإله الواحد حتي آمن بالمسيحية وصار هو البطريرك الثاني بعد استشهاد القديس مرقس الرسول في 30 برمودة من عام 68 م . عمرو بن العاص ينقذ الرأس في ليلة 29 برمودة كان القديس مرقس يصلي صلاة عيد القيامة المجيد، وكان ذلك هو نفس يوم الاحتفال بالإله سيرابيس ذي الشهرة الكبيرة مما أثار غضب الوثنيين، فهجموا علي الكنيسة، وقبضوا علي القديس مرقس، وربطوه بحبل ضخم، وجروه في شوارع وطرقات مدينة الإسكندرية حتي تمزق لحمه وجري دمه في شوارع المدينة، ثم وضعوه في السجن، وفي صباح اليوم التالي أخرجوه من السجن ، ثم ربطوه بحبل غليظ، وظلوا يعيدون الكرة كاليوم السابق، وأخذوا يسحلونه في شوارع المدينة، إلي أن سالت الدماء غزيرة من جسده مرة أخري، ثم قطعوا رأسه ونال إكليل الشهادة، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا حرق جسده حتي يتخلصوا منه نهائيا، وهنا حدثت المعجزة، فلقد غيمت السماء فجأة ونزل المطر غزيرا فأطفأ النيران، كما نزلت بروق ورعود من السماء، فخاف الوثنيون وهربوا، بينما بقي المسيحيون، فأخذوا جسد القديس ودفنوه في إجلال واحترام في كنيسة بوكاليا بالإسكندرية؛ ووضعوه في تابوت حيث صلي عليه خليفته القديس إنيانوس . ولقد ظلت الكنيسة في حوزة الاقباط حتي مجمع خلقدونية عام 451م، حيث تعرضت الكنيسة القبطية لاضطهاد مريع من أصحاب الطبيعتين (كنيسة روما) استمر حوالي 190 سنة فآلت كنيسة بوكاليا إلي اليونان حتي جاء الفتح العربي الإسلامي عام 641م، وفي عام 644م حاول أحد البحارة سرقة الرأس، وعندما خرجت المراكب من الميناء تحركت جميعها ما عدا المركب الذي يوجد به الرأس المقدس، فأمر الوالي عمرو بن العاص بتفتيش المركب، فوجدوا الرأس مخبئا بها، فأخرجوها وفي الحال تحركت المركب، وللوقت استحضر الوالي من كان سببا في تخبئة هذه الرأس، فاعترف بسرقتها، فضربه وأهانه . (يمكن مراجعة القصة بالتفصيل في سنكسار يوم 8 طوبة ) ثم سأل عمرو بن العاص عن بطريرك الأقباط فعلم أن اسمه البابا بنيامين (البطريرك ال 38 من بطاركة الكنيسة القبطية ) وأنه منفي عن كرسيه منذ حوالي 13 سنة، فكتب له الوالي خطابا بخط يده ليطمئنه ...فحضر البابا واستلم الراس، وأعطاه الوالي عشرة آلاف دينار لبناء كنيسة عظيمة علي اسم صاحب هذه الرأس ( للمزيد من التفصيل حول هذه القصة، راجع قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث : ناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول، ص 70، 71 ) وبذلك ظل الرأس في حوزة الأقباط، وظل الجسد في حوزة اليونان . ولقد ذكرت كتب التاريخ الكنسي أن كل من يرسم بطريركا للأقباط، كان يقوم باحتضان الرأس المقدس وتقبيله علامة علي استمرار خلافته للقديس مارمرقس الرسول . وفي القرن التاسع الميلادي وتحديدا في عام 828 أو 829 م، قام البحارة البندقيون "أي الذين من مدينة البندقية "بسرقة الجسد من اليونانيين ، حيث قاموا بمصادقة حراس القبر، وأوهموهم أنهم سيأخذون جسد القديس لحمايته في مدينة البندقية، فوافق الحراس وسمحوا لهم بنقل الجسد سرا إلي المركب، وعندما علم بطريرك الاقباط بسرقة الجسد، قام بإبلاغ السلطات طالبا منع سفر الجسد، وانتشر رجال الأمن في الميناء لتفتيش المدينة، غير أن البحارة الإيطاليين كانوا قد أعدوا خطة لتغطية عملية التهريب، فشحنوا السفينة بالخنازير ... وكان من المعروف عن رجال الأمن أنهم لا يقتربون من أي مركب به خنازير ... وبذلك تم تهريب الجسد . وبعد وصول الجسد إلي مدينة البندقية ، اهتم حاكمها ببناء هيكل فخم جميل وضع فيه الجسد غير أن هذا الهيكل احترق عام 977 م، فبنيت للجسد كنيسة تعتبر من أفخم كنائس العالم هي كنيسة مارمرقس بالبندقية، وبدأ العمل بالبناء بها عام 1052م في أيام الدوق "دومينيكو كونتاريني "، وتمت علي وضعها الحاضر في القرن الثامن عشر، وقد تباري في تجميلها أعظم مهندسي وفناني العالم حتي صارت تحفة معمارية رائعة . عودة الرفات وفي بداية القرن العشرين أجريت عدة عمليات ترميمات في القبة تباري فيها كبار فناني العالم، واستمرت عمليات الترميم حوالي عشر سنوات حتي اقاموا احتفالا كبيرا بتكريس القبة الجديدة في 25 إبريل 1912م حضره نائب عن ملك إيطاليا. واستمر الحال حتي جاء قداسة البابا كيرلس السادس ( 1959- 1971 ) وهو البطريرك ال116، فتقدم بطلب إلي البابا بولس السادس يطالب فيه بعودة رفات القديس مرقس الرسول إلي أرض مصر، فأحال البابا بولس الطلب إلي بطريرك فينسيا في ذلك الوقت ويدعي "الكاردينال أورباني" فرفض الكاردينال الطلب بشدة، فمجد فينسيا وتاريخها كله يقومان علي هذا الجسد، حتي أنها اتخذت "أسد القديس مرقس المجنح "رمزا لها وشعارا، فتعثرت المفاوضات قليلا وبدا أن طلب البابا كيرلس السادس مستحيلا، ولكن إزاء إلحاح البابا كيرلس المستمر، ونظرا لما يمثله بابا الإسكندرية من عزة وكرامة، اضطر البابا بولس السادس أن يتدخل شخصيا، فطلب من كاردينال فينسيا أن يقتسم الرفات، فيحتفظ لكنيسة البندقية بجزء منه ، ويهدي كنيسة الإسكندرية الجزء الباقي، فوافق كاردينال فينسيا بسبب تدخل البابا بولس ووجد في عرضه حلا مقبولا يرضي جميع الأطراف . فأمر البابا كيرلس السادس بتشكيل وفد رسمي يسافر إلي روما لاستلام رفات القديس مرقس الرسول، وكان الوفد يتشكل من عشرة مطارنة (سبعة مصريين وثلاثة أثيوبيين )، وسبعة من الأباء الكهنة، وثلاثة من الأراخنة المدنيين، وبالفعل سافر الوفد إلي روما علي متن طائرة خاصة يوم الخميس الموافق 20 يونية 1968، وتحددت الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت الموافق 22 يونية 1968 الموعد الرسمي لمقابلة البابا بولس السادس واستلام الرفات . فحيا البابا بولس السادس الوفد القبطي وأشاد بكنيسة الإسكندرية وأمجادها العريقة، كما طالبهم بنقل تحياته إلي قداسة البابا كيرلس السادس، ثم جلس علي كرسيه، وعندئذ نهض نيافة الانبا غريغوريوس (1919- 2001 )أسقف البحث العلمي الراحل بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وألقي خطابا باللغة الإنجليزية نقل فيها تحيات قداسة البابا كيرلس السادس، معبرا عن سعادة مسيحيي مصر وأثيوبيا بعودة رفات مرقس الرسول بعد أحد عشر قرنا ظل فيه جسده غريبا عن البلد الذي استشهد فيه . فرد عليه البابا بولس السادس بخطاب رسمي باللغة الفرنسية أشاد فيه بالعلاقات الوطيدة التي تربط بين كنيستي الإسكندريةوروما، وبعدها قام رئيس الوفد القبطي "المتنيح الأنبا مرقس مطران أبوتيج وطهطا في ذلك الوقت"، وقدم هدايا الوفد القبطي وهي عبارة عن صندوق فاخر ومبطن بالقطيفة الحمراء ويحمل كتاب العهد الجديد المكتوب باللغة القبطية «اللهجة البحيرية» وكتب عليه إهداء باللغتين الإنجليزية والقبطية من البابا كيرلس السادس إلي البابا بولس السادس، وقطعة نسيج أثرية من القرن الخامس الميلادي عثر عليها في بلدة الشيخ عبادة بمحافظة المنيا، وغير ذلك من الهدايا الثمينة والقيمة . ثم قام البابا بولس السادس ووزع صليبا مرسوما علي جانبيه القديس بطرس الرسول عن يمين المسيح، والقديس بولس الرسول عن يساره، ومن خلف الصليب اسم البابا بولس السادس علي جميع أعضاء الوفد القبطي .ثم قدم البابا بولس وثيقة رسمية تشهد بصحة الرفات، وأنها استخرجت من مكانها الأصلي بكل وقار . وفي يوم الاثنين الموافق 24 يونية 1968 عاد الوفد القبطي ومعه الرفات المقدسة علي متن طائرة خاصة، وعادوا بسلامة الله إلي أرض الوطن، وكان في استقبالهم بمطار القاهرة البابا كيرلس السادس والبطريرك مار أغناطيوس بطريرك السريان الراحل، وألوف من أفراد الشعب المصري مسيحيين ومسلمين، وصعد البابا كيرلس السادس وتسلم الرفات من يد رئيس الوفد القبطي، وعاد به في سيارته الخاصة ومعه صندوق الرفات إلي الكاتدرائية المرقسية بكلوت بك . وفي صباح يوم الثلاثاء الموافق 25 يونية 1968 أقيم احتفال كبير في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، رأسه قداسة البابا كيرلس السادس، وحضره الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والإمبراطور هيلاسلاسي امبراطور أثيوبيا الراحل، وعدد ضخم من رؤساء ووفود الكنائس في العالم كله، وفي نهاية الأحتفال قام كل من البابا كيرلس السادس والزعيم جمال عبد الناصر والامبراطور هيلاسلاسي والرئيس الراحل محمد أنور السادات (وكان وقتها رئيس مجلس الأمة "مجلس الشعب حاليا") بإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية الخاصة بافتتاح الكاتدرائية . وفي اليوم التالي الأربعاء الموافق 26 يونية 1968، أقيم أول قداس احتفالي في أرض الأنبا رويس بالعباسية شارك فيه كل من قداسة البابا كيرلس السادس والبطريرك أغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك أنطاكية، وبحضور الامبراطور هيلاسلاسي امبراطور اثيوبيا، وبعد نهاية القداس تم وضع الصندوق الذي يحمل فيه الرفات في مقبرة رخامية أقيمت خصيصا تحت المذبح الرئيسي للكاتدرائية، وهي المقبرة الموجودة حاليا بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية تستقبل يوميا ألوف المحبين للقديس مارمرقس الرسول من جميع الجنسيات .