فى طريق عودتى إلى المنزل، بعد انتهاء العمل، أسير دائمًا متمهلاً، وبخاصة فى الشتاء لأستمتع بأشعة الشمس الدافئة التى تمنحنى بعض القوة والنشاط وأشعر معها بالرغبة. الرغبة فى كل شيء، وعلى مسافة ليست بالقريبة أرى أمامى إحدى زميلاتى فى العمل، والتى طالما رغبت فى الحديث معها منذ أن جاءت للعمل معنا، وكعادتى لا أمتلك القدرة على ذلك، ودائمًا ما أعلل هذا العجز بأنه لا يصح ولا يجوز.. وهكذا. وعلى عادتها كانت متميزة، مغرية، مثيرة فى كل شيء، لبسها مشيتها شعرها الطويل الذى يتدلى منسابًا بخصله الناعمة وكأنه يدعو كل من يراه للسير خلفه. كانت ترتدى معطفًا يصل إلى ركبتيها، وبنطالاً لونه أزرق، وحذاء أنيقًا ذا فراء فى أعلاه، وبدأت أحدث نفسى هل أُسرع الخطى لألحقها؟ وأكلمها، أم أظل سائرًا خلفها استمتع تحت أشعة شمس الشتاء بمشيتها تتهادى أمامي؟ ربما تكون فرصة للحديث معها، فالطريق ما زالت فى أولها وهى على غير العادة تسير بمفردها، أتردد لحظة، ولحظة أخرى تدفعنى الرغبة للحديث معها، وأسير هكذا بين اليأس والرجاء. أخشى أن تتعامل معى بشكل غير لائق وأضيع فرصة المشى مستمتعًا بشعرها الجميل الذى يداعبه النسيم فيتطاير خلفها كأنه بساط ريح يرفع من يطير عليه إلى سماء الأحلام وعالم النجوم تاركًا الأرض وما عليها من هموم. تخرج تليفونها المحمول، أسمع صوت حليم يغنى «ماسك الهوى بايديا ماسك الهوا وآه من الهوى يا حبيبي» على أذنيها تضع التليفون، لأسمع صوتها الذى يشبه غناء الطير وهى تقول فى خفة ومرح: لا لا أن مش هاجى النهاردة يا عمرو أنا اتأخرت امبارح وماما زعلت قوى. ببطء تسير فأخاف أن تقف، أو حتى تنظر خلفها فتراني، فأصبح مضطرًا لأن أسير بسرعة وأسبقها ويضيع كل شيء، تنهى المكالمة وتضع التليفون فى جيبها، وصوت حليم ما زال يتردد فى أذنى يشجعنى على الحديث معها، علنى أشاركه الشعور بإمساك بعض الهواء، أو أقترب أكثر لأتيح لأنفى الاستمتاع بأكبر قدر من رائحتها الجميلة، أو علنى أفوز منها بابتسامة عذبة، ترى ما شكل ابتسامتها، بالطبع ملائكية كصوتها، رفعت وجهى إلى السماء طالبًا منها مساعدتى فى حيرتى هذه، والتى لا أعرف كيف أتصرف فيها، وبدأت أتساءل: لماذا لا أستطيع الحديث مع النساء؟ مع شعورى برغبة كبيرة فى ذلك، وكأننى أريد محادثتهن جميعًا، ما الذى يجعلنى بهذا العجز كلما وددت الحديث مع إحداهن لا أستطيع، لن أستسلم فهذه فرصتي، ولن أتركها علنى أتخلص من إحساسى البغيض بالعجز. آه! ليت السماء تمتليء بالغيوم وتتساقط أمطارها، تغرق الأرض وما عليها فربما تتعثر بسبب سقوط الأمطار، وهى تسير وحيدة فأقترب منها وتكون فرصة للمساعدة والكلام. مرة أخرى أرفع رأسى للسماء متوسلاً أن ترسل إلى الدنيا أمطارها التى ترويها، وتطفيء ظمأها علنى أرتوى بنظرة أو كلمة منها لماذا لا تستجيب السماء لنا عندما نريد؟ هل تتلاعب بنا لتثبت قدرتها؟ أم تجبرنا على الخضوع لقوانينها؟ بدأت أكره أشعة الشمس التى أحبها وأحب السير معها منتعشًا، أصبحت سعادتى فى أمر آخر، سعادتى الآن فى غيومها، فى قطراتها المتساقطة علينا، بكل الخير تروينا، وتروى قلوبنا المتلهفة لسماع كلمة من فم عذب رقيق علها تستريح. بينما أنا فى حوارى مع السماء سمعت صوت سيارة تمر بجواري، تتوقف بمحاذاتها، فتتوقف هى ناظرة بانحناءة إلى من بداخلها، فيتدلى شعرها منسابًا إلى أسفل يكاد يلامس أعلى حذائها الأسود اللامع، ثم تفتح باب السيارة، وتقف واضعة يدها على شعرها لتعيده إلى سابق عهده، فتلمحني، فترسل لى ابتسامة عذبة يخفق لها قلبي، تركب السيارة وتنطلق كعادتها، دائمًا تعطى القليل لتجعلنا نحلم ونرغب فى المزيد من عذوبتها ورقتها، طامعين فيها، شاعرين بالحزن على ما فاتنا منها.