رئيس جامعة كفر الشيخ يشارك فى اجتماع مجلس الجامعات الأهلية    أمانة الإعلام بحزب الجبهة الوطنية: حرية تداول المعلومات حق المواطن    رئيس الوزراء يشهد احتفالية شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير بمرور 120 عاما على تأسيسها    إيران: لن نسمح بتخريب علاقاتنا مع جيراننا وخاصة السعودية    الفاتيكان يعرض استضافة محادثات سلام بين أوكرانيا وروسيا    محمد بن زايد ونواف سلام يبحثان العلاقات الثنائية وتطورات إقليمية    استعدادا لمونديال الأندية.. الأهلي يستعرض ترتيبات معسكر أمريكا    أمل إنتر الأخير.. عثرات على طريق نهائي ميونخ    زينة بعد تعرض ابنها لهجوم من كلب شرس في الشيخ زايد: لن أتنازل عن حقي وحق أولادي ولن أقبل بالصلح مهما كانت الضغوط    شاب ينهي حياته بعد مروره بأزمة نفسية بالفيوم    تنطلق غدا من الإسماعيلية.. قصور الثقافة تقدم 10 عروض مسرحية ضمن مشروع المسرح التوعوي    زاهي حواس: أفحمت جو روجان ودافعت عن الحضارة المصرية بكل قوة    «متى تبدأ؟».. امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الاعدادية 2025 بالمنيا (جدول)    «حيازة مخدرات».. المشدد 6 سنوات ل عامل وابنه في المنيا    المؤتمر: لقاء الرئيس السيسي برجال الأعمال الأمريكيين خطوة مهمة لجذب الاستثمارات    أسهم شركات "الصلب" و"الأدوية" تتصدر مكاسب البورصة المصرية وتراجع قطاع الاستثمار    زينة "مش هتنازل عن حقي وحق ولادي وأحنا في دولة قانون"    رئيس اتحاد النحالين يكشف حقيقة فيديو العسل المغشوش: غير دقيق ويضرب الصناعة الوطنية    صحة المنوفية تواصل جولاتها الميدانية لتطوير المستشفيات وتحسين الخدمة المقدمة للمواطنين    31 بالقاهرة.. الأرصاد تكشف التوقعات التفصيلية لطقس الأربعاء    القوات المسلحة تنعى اللواء محمد علي مصيلحي وزير التموين الأسبق    "المشاركة في أفريقيا".. أول تعليق لمحمد عزت مدرب سيدات الزمالك الجديد    بيان عاجل بشأن العامل صاحب فيديو التعنيف من مسؤول عمل سعودي    ب"فستان جريء"..هدى الإتربي تنشر صورًا جديدة من مشاركتها في مهرجان كان    لا أستطيع صيام يوم عرفة فهل عليّ إثم؟.. أمين الفتوى يحسم    ملك بريطانيا يرد على تهديدات ترامب أمام البرلمان الكندي    دير الأنبا بيشوى بوادي النطرون يستقبل زوار الأماكن المقدسة (صور)    السعودية تعلن غدًا أول أيام شهر ذي الحجة.. وعيد الأضحى الجمعة 6 يونيو    تكريم الصحفية حنان الصاوي في مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي    بعد دخوله غرفة العمليات..تامر عاشور يعتذر عن حفلاته خلال الفترة المقبلة    المفوضية الأوروبية: ملتزمون بتنفيذ حل الدولتين ونطالب برفع الحصار    وزير العمل يُسلم شهادات دولية للخريجين من مسؤولي التشغيل بالمديريات بالصعيد    «الإفتاء» تكشف عن آخر موعد لقص الشعر والأظافر ل«المُضحي»    «تنظيم الاتصالات» يصدر تقرير نتائج قياسات جودة خدمة شبكات المحمول    نائب رئيس جامعة بنها تتفقد امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية التربية الرياضية    وكيل صحة البحيرة يتفقد العمل بوحدة صحة الأسرة بالجرادات بأبو حمص    ذكرى ميلاد فاتن حمامة فى كاريكاتير اليوم السابع    "ملكة جمال الكون" تضع تامر حسني والشامي في قوائم المحتوى الأكثر رواجا    ميار شريف تخسر منافسات الزوجي وتودع رولان جاروس من الدور الأول    غياب ثلاثي الأهلي وبيراميدز.. قائمة منتخب المغرب لفترة التوقف الدولي المقبلة    "دون رجيم".. 3 مشروبات فريش تساعد في إنقاص الوزن دون مجهود    6 أدعية مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. أيام لا تُعوض    لو عندى مرض أو مشكلة أصارح خطيبي؟.. أمين الفتوى يُجيب    رئيس مجلس النواب مهنئا بعيد الأضحى: ندعو أن يتحقق ما يصبو إليه شعب مصر    حماس تهاجم قناة «العربية».. وتطالبها باعتذار رسمي (تفاصيل)    «بأمارة أيه؟».. شوبير ينتقد ترشيح موكوينا لتدريب الزمالك    محافظ دمياط يفتتح وحدتي السكتة الدماغية والرعاية المركزة بمستشفى كفر سعد    مصدر أمني ينفي تعدي قوة أمنية على شخص بالإسكندرية مما أدى إلى وفاته    مؤتمر الأعمال العُماني الشرق أفريقي يبحث الفرص الاستثمارية في 7 قطاعات واعدة    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو مشاجرة بورسعيد    أمجد الشوا: الوضع فى غزة كارثى والمستشفيات عاجزة عن الاستجابة للاحتياجات    الإدارة العامة للمرور تبدأ تجربة «الرادار الروبوت» المتحرك لضبط المخالفات على الطرق السريعة    خلال 24 ساعة.. ضبط 146 متهمًا بحوزتهم 168 قطعة سلاح ناري    تؤكد قوة الاقتصاد الوطني، تفاصيل تقرير برلماني عن العلاوة الدورية    اليوم| إقامة ثاني مباريات نهائي دوري السوبر لكرة السلة بين الاتحاد والأهلي    الزمالك يتفق مع مدرب دجلة السابق على تدريب الكرة النسائية    معركة الدفاع الجوي في زمن التحولات الجيوسياسية.. أوكرانيا تطلب تزويدها بمنظومة «باتريوت» لمواجهة الدب الروسي    في إطار التعاون الثنائي وتعزيز الأمن الصحي الإقليمي.. «الصحة»: اختتام أعمال قافلتين طبيتين بجيبوتي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الأهرام العربى» تنشر فصلا من رواية ممدوح عبد الستار.. قصة الموت الرسمى
نشر في الأهرام العربي يوم 04 - 04 - 2015

وقف «صابر» كتمثال لا يحبه، مثل تلك التماثيل الواقفة بشموخ فى الميادين العامة. كان تمثالاً لا يُشبه تلك التماثيل، منكمشاً على نفسه، ناظراً إلى قدمه المُوحلة، دافساً يديه فى جيوبه، منحنياً نصف انحناءة، تاركاً قفاه للبرد ولرذاذ المطر الخفيف. ظلّ «صابر» على وقفته تلك أكثر من ساعة، حتى إن الخفراء خافوا منه، وهرولوا بعيداً عنه، وارتكنوا بجوار بيت طينى مُعرش بأعواد من الذرة والقطن.
كانت دواخلهم مرتعشة مثل جوارحهم، وظلّوا فترة من الترقب، وتبلورتْ داخلهم معانٍ ومشاعر افتقدوها فى زحمة الوقت الراهن والجاثم على حياتهم. كان الوقت بلا عقارب أمامية أو خلفية. كانوا بلا ماضٍ أو مستقبل، بلا خيالٍ أو وهم. كانوا فى الوقت الذى بدد الحياة وبهجتها المعروفة لديهم. لمّا تحرّك التمثال؛ حرّك فيهم الرغبة فى العودة من جديد لحياتهم. فجأة، كانت تلك الأدعية المحفوظة هى المتكلم الرسمى عن تلك الحالة. وبعد أن تقيّأوا ما فى جوفهم من أدعية، وهدأت جوارحهم، تركوا «صابر» وهو يخلع قميصه، رافعاً رأسه لأعلي، محاولاً أن يجمع رذاذ المطر على كفّه المبسوطة، وأخذ يلحس ما تجمع من قطرات. فى هذه اللحظة. بكى بشدة، وجلس القرفصاء وسط الشارع، وتذكّر أول مرة ذاق فيها طعم المطر..تنفس «صابر» بصعوبة، وهو- يتذكر- يخرج من المبنى الضخم للشارع العمومى، ممسكاً بيده اليسرى ورقة مختومة بخاتم أمن الدولة، وباليد الأخرى ورقة مدون فيها اسم الدواء الذى يجب أن يأخذ جرعته لمدة ثلاثة أشهر كما قال له الطبيب. اقشعر بدنه الهزيل من لسعة البرد، ولف حول عنقه الضئيل كوفيته الصوف، وشدّ ياقة قميصه المتسخ التى تفوح منه رائحة العرق المعتق. وتيقن من إقفال الزر الأول من القميص. وقبل أن يخطو للشارع، نظر للخلف، فوجد الحارس يشير إليه بالابتعاد. ابتسم للحارس الذى بادله الابتسام على مضض.
سار «صابر» فى الشارع، ورفع بصره للسماء الملبدة بالغيوم، مثل الأفكار التى يحملها فى رأسه. دقائق قليلة، وتصلبت يداه. همس لنفسه مشجعاً، وبصوت مسموع لجوارحه الباردة الآن: (المهم: أن أحافظ على الورقة) وحرّك ذراعه اليسرى، التى تحمل قبضته ورقة أمن الدولة، ثم هرول فى سيره، وكانت حركته سريعة رغم إرهاقه، وهزاله، وقلّة الطعام، وأشياء أخري، وراجع بذهنه عدد الساعات التى ظل فيها مستيقظاً، فوجدها لا تعد ولا تحصى، وكاد يقع من طوله، كأنه تذكر التعب. تماسك، وابتسم بصعوبة لمّا رأى صيدلية قريبة، ثم انتفض من الخوف، فالدواء المدون بالورقة مختفٍ مثل الشمس فى تلك الغيوم.
البرودة القاتلة، والدواء المختفي، والعودة إلى حياته، كل هذه الخواطر بذهنه وهو سائر، والسماء تمطر بلا انقطاع. والظلام الذى - جاء قبل موعده -حل ضيفاً، وهدوء الشارع ساعد روحه فى استعادة ذكريات مماثلة. وبالشيء الباقى المتمثل فى تمسكه بالحياة؛ جرّ جسده الهزيل، ودلف إلى الصيدلية. كان جسده مرتعشاً مثل روحه. نظر له الطبيب، وسار إليه، ثم أجلسه أمامه؛ فأعطى «صابر» يده اليمنى للطبيب الذى فرد أصابع يده بصعوبة، ونظر للورقة المدون فيها اسم الدواء. ظل الطبيب يبحث، ثم عاد.
-آسف! غير موجود.
نطق «صابر» بصعوبة، كأنه استفاق:
هه .
هزّ الطبيب رأسه فى حيرة، وقال:
- للأسف، هذا الدواء بالذات يختفي، ثم يعود فجأة، لكن عندى بديلا مصريا!
- بديل.. بديل. لا يوجد بديل لأى شيء!
وخرج للشارع. ومازالت السماء تعلن عصيانها، وبدأت أذنه تئن من البرد. ازدحم ذهن «صابر» بالأفكار وهو سائر. وكان السؤال الذى نسى به البرد قليلاً: (هل يوجد بديل مصرى حقيقى، يُغنى حياتنا، ولا يأخذ منها؟) وبدأ الجوع يأكل تفكيره، وكان موقف الحافلات على بُعد خطوات قليلة. وقبل أن يركب الحافلة، قرر أن يشترى سندوتشا ساخنا. وضع يده اليمنى فى جيب بنطاله. وبصعوبة، أخرج النقود الورقية التى أعطاها له الرجل الذى كان يستجوبه فى المبنى الضخم، وتساءل «صابر»: (لماذا أعطانى هذه النقود؟) لم يجد إجابة مثل كل الأسئلة التى تدور فى ذهنه، وبدأت الأمطار تهدأ، وكفّ الهواء المحمل بالرذاذ عن مداعبة شعره الطويل الأسود. وقف «صابر» أمام محل للطعام، وتأمل اللافتة المكتوبة بلغة أجنبية، ثم قال:
- سندوتش كبير لو سمحت!
وقدّم للرجل الجالس بمدخل المحل النقود، وناوله الرجل «البون» وباقى النقود، ودلف «صابر» إلى المحل، ولفحته نسمة دافئة من جهاز «التكييف» ثم وقف منتظراً السندوتش، وتمنى أن تطول فترة انتظاره فى هذا الدفء المصنوع. انتهى العامل الواقف خلف الزجاج، وأعطى «صابر» كيسا أنيقا من فتحة صغيرة. أومأ «صابر» برأسه للعامل، وابتسم نصف ابتسامة، وهبط للشارع مرة أخرى. وبدا له الطريق لا ينتهى، والجو يزداد برودة، والحيرة تشتد به وهو يبحث وسط الشارع عن صيدليات. وبالفعل وجد صيدلية أخري. وكالعادة، ظل الطبيب يبحث
- غير موجود.
هزّ «صابر» رأسه. وقبل أن يخرج؛ سمع الطبيب يقول له:
- ربما تجده فى...
وذكر اسم المكان. ما الذى جعل «صابر» مصراً على الذهاب لتلك الصيدلية؟ ربما تكون الرغبة فى قتل الوقت والبرد الذى يحتاج إلى الحركة، وربما يكون الإصرار الذى تولّد من عتمة نفسه. سار بلا أى طموح، أو رغبة حقيقية، حتى أنه لم يسأل أحداً عن الصيدلية. لفّ المنطقة كلها، ولم يعثر عليها. وفى هذه اللحظة، كان قلبه خالياً من أى مشاعر تذكر. مشى خطوات قليلة، ثم نظر للخلف كعادته، فلمح صيدلية منزوية، لم يفرح، ولم يدخل مسرعاً. فقط، ظل واقفاً ينظر من الزجاج. كانت الطبيبة تجلس شاردة. وقعت عيناها على الجريدة، حاولت أن تقرأ العناوين للمرة الألف. نفس العناوين التى تقرأها كل يوم منذ أن قررت أن تقتل الوقت. طوت الجريدة، وألقتها بإهمال على المكتب مثل كل يوم: (ستكون مفيدة فى تنظيف الزجاج) هكذا قالت لنفسها، وابتسمت ابتسامة ساخرة بزاوية فمها اليسرى. كانت فتاة فى العقد الرابع من عمرها، تحاول أن تطرد الملل من حياتها، وكثيرا ما تغمض عينيها، تحلم بما تشاء. منذ زمن كفّت عن هذا الفعل السحري. مجرد فرضية الحلم الآن فى حدّ ذاته حلم! أغمضت عينيها أكثر، وعادت بمقعدها للخلف ليرتكن على الجدار الذى خلفها، وأخذت نفساً عميقاً، واسترخت لعل الحلم يأتيها ولو مرة أخيرة. أصدر باب الصيدلية صريرا هادئا، فلم تفتح عينيها، متوقعة أن يأتيها الحلم البشرى الذى تستطيع لمسه، وظلت تتأرجح بالمقعد للأمام وللخلف فى صمت مبجل.
- إذا سمحت.
وصل الصوت لأذنيها، فلم تبد اهتماماً للوهلة الأولى كأنها سمعته. الغريب أن الصوت بدا كما لو كان قادماً من حلم ما عايشته قديماً. ولما تكرر الصوت، فتحت عينيها بسرعة، وتحركت لا إرادياً، ففقدت توازنها، وكادت تسقط على ظهرها. واستندت على المكتب، وقد تهدل شعرها على عينيها، وقالت وهى تتلعثم، وما زالت عيناها شبه مغلقة:
- تحت أمرك
قال الرجل:
- أريد مسكّناً
لا إرادياً تحركت باتجاه الدرج الخلفى الذى به المسكنات، وتساءلت بصوت هامس:
- أى نوع من المسكنات؟
تنهد الرجل، وكان يحاول أن يجمع كلمات للرد، لكنه لم يستطع. وكانت لاتزال تبحث، وتنتظر منه رداً. قال الرجل بصوت خفيض:
- لألم الحياة.
تسمرت يداها فجأة، وظنت أن سمعها قد خانها، لكنها نفت ذلك.
- هه.
ونظرت للرجل بريبة. تهاوى الرجل، وجلس على أقرب مقعد خلفه، ودفن رأسه بين يديه، وأخذ يهتز، وأجهش بالبكاء، معلناً عن لحظة لا يريدها أن تظهر فى مكان آخر. ظلت واقفة تتأمله. ما أثار دهشتها فعلاً: أن يبكى الرجل أمامها. من أين أتت له هذه الجرأة؟ وهى لا تستطيع أن تبكى أمام نفسها فى الخفاء أو العلن. تنبهت أنها تركت الرجل يبكي، فاندفعت من خلف «الكاونتر» وربتت على كتفيه فى هدوء، فرفع عينيه المبلولة بالدموع. وظل ينظر كل منهما للآخر، حتى دخل «صابر».
- وأنت ماذا تريد؟
ناولها «صابر» الورقة المدون عليها اسم الدواء.
- البديل المصرى موجود.
ابتسم لها فى سخرية، وقال:
- البكاء .
وخرج «صابر» يجرّ قدميه، وقد نسى تماماً أمر السندوتش الساخن. وتذكر ألمه الذى كلّفه ثمناً باهظاً لم يفعله من قبل، ووقع على إقرار، وعلى تعهدات، وعلى أوراق بها أسماء يحبها. وتذكر كيف تحمّل الألم لأيام كثيرة، وظل قوياً كفكرة صحيحة، لكن ألم جسده عاند تلك الفكرة، وانتصر فى النهاية.
فى هذه اللحظة، تعذب من فكرة التنازل. ولأول مرة، تتغنى العين بعذابه، وتذرف بعضاً من الدموع العالقة بها منذ ولادته وهو يعبر الطريق إلى الجهة الأخرى.
تحولت المدينة لشيء غامض وصامت، لا يسمع فيها إلا صوت دموعه وهذه الأمطار التى تسقط على الأرض، وتتحد مع تلك الدموع، وحاول أن يوقف أى حافلة وهو شارد. ولم ينتبه للعربات المسرعة التى نثرت مياه الأمطار. ابتلت ملابسه، فارتجف من البرد، وتنهد، وبَعد عن برك المياه بقدر الإمكان. وبعد فترة، توقفت سيارة. مسرعاً جلس بداخلها، وأخذ يتأمل الأمطار وهى تداعب الزجاج بوداعة وحب، بدت له غير متوفرة. تنهد مرة أخرى.
- آه من تنهيدة الحزن!
- هه.
واستفاق «صابر» من شروده، ونظر باتجاه الصوت، فوجد عجوزاً قارب على المائة. ملامحه تشبه إلى حدّ كبير ملامحه التى لم يرها من فترة. ابتسم «صابر» للرجل العجوز، ولم يجاوبه.
- تبدو حزيناً.
نظر «صابر» للرجل العجوز المُصرّ على مواصلة الحديث، فوجد ملابسه رثة، لكنه يحمل شيئاً ما يُضفى عليه قوة. لم ينشغل «صابر» بما لاحظه، وقال للعجوز بصوت مرتجف:
- قرف من الحال العام.
شرد العجوز كأنه يتذكر مواقف عاشها، تعينه على مواصلة الحديث والتواصل، وقال:
- لك حق
ونكّس العجوز رأسه، وقال بصوت هامس:
- أيامكم صعبة. لا حب، ولا تواصل، ولا..
واغرورقت عيناه بالدموع، كأنما تذكّر بعض ماضيه.
تعجب «صابر» من حديث العجوز، وقد بدا له ودوداً، وكلامه صحيح إلى حدّ ما. «وصابر» فى أيامه الأخيرة لم يكن يحب الحديث مع الغرباء. لقد عانى كثيراً من تلك الآفة. وبسبب تلك الأحاديث، واجه صعوبات كثيرة، واستجوابات أكثر. قال لنفسه: (ربما يكون من الأمن) وشرد «صابر» فى تلك الذكريات الصغيرة التى ألمت به، وجعلته عُرضة للمطاردة الدائمة، وقال بلسان الحال: (الكلام مجاني، الفعل هو الأهم) لكنّ الرجل العجوز قاطع ذكرياته الصغيرة، وأكمل حديثه:
- وبالرغم من كل شيء، هى جميلة، ونحبها. نعم. نحب الحياة.
أزاح «صابر» رأسه إلى الناحية الأخرى، وأخذ يتأمل الأمطار التى تداعب زجاج السيارة. مدّ العجوز يديه إلى وجه «صابر».
- انظر لي. أنا عجوز، لكنى ما زلت أحلم، وابتسم، وأتذكّر كونى طفلاً صغيراً
جزم «صابر» بأن الرجل العجوز يعيش لحظة فائتة الآن، وكاد يقول له: (احلم بعزرائيل كما شئت) وحين رأى العجوز أن «صابر» ينظر للمطر بشغف؛ قال:
هل تذوقت الأمطار من قبل؟
انتبه «صابر» للسؤال، وابتسم، وقد راق له الحديث، فقال متسائلاً:
- وهل للمطر مذاق يا عجوز؟
اكتسى وجه العجوز بابتسامة حنون، وقال:
- تخيّل مذاق المطر وأنت تجلس مع حبيبتك، سيكون بطعم الورد. وتخيّل مذاق المطر وأنت حزين، سيكون كملح البحر. وتخيّل مذاق المطر وأنت وحيد، سيكون كالصبار.
ثم سكت العجوز فترة. وكانت العربة ما زالت تسرق الطريق بسرعتها
- افتح زجاج النافذة، وضع قطرة من المطر الآن على يديك.
مطّ «صابر» شفتيه. ورغماً عنه، فتح النافذة، ومدّ يده اليمنى لقطرات المطر. لسعه البرد، فسحب يده التى علق بها بعضاً من قطرات المطر. أومأ له العجوز كى يتذوقها. قرّبها «صابر «لشفتيه، وهو يبتسم لتلك الحالة الجنونية، وتذوقها بطرف لسانه، وقال:
- ليس لها أى طعم.
هزّ العجوز رأسه بالموافقة كأنه توقع هذا الرد، وقال:
- قلبك خال من الفرح، ومن الأمل
تنهد «صابر»، وأطبق قلبه على مواصلة الحياة أياً كانت، ثم نظر للسندوتش الذى صار بارداً. أخرجه من الكيس، وناوله للعجوز.
- تفضل.
مدّ العجوز يديه وهو يبتسم، وأخذ يلتهم السندوتش بسرعة. قال «صابر» للعجوز:
-أنت مثل الحياة.. مجنون .
ضحك العجوز، وقال مداعباً:
- المهم، أن تكون أنت عاقلاً.
ابتسم «صابر» ابتسامة صافية، رمّمت كل وجهه المتشقق من حزن الأيام الماضية، وقد اقتربت محطة نزوله.
- هنا يا أسطي. إلى اللقاء يا عجوز.
وقبل أن يغلق «صابر» باب العربة، قال العجوز:
- «صابر». اسمى «صابر» .
- وأنا..
وضاع صوت «صابر» بابتعاد العربة، وبحث عن الدواء الذى لا وجود له، لكنه كان يسمع كلمة البديل المصري. فى هذه اللحظة، شعر «صابر» بالدموع وهى تنزلق رغماً عنه. تحسسها بطرف لسانه، لكنها لم تكن بأى طعم مما وصفه العجوز. لقد كان لها طعم آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.