يشعر كأنه يري المصريين لأول مرة منذ ولد .. لم يتعرف علي هؤلاء المصريين من قبل ..من يراهم الليلة يبدون في شوق إلي المستقبل الذي حيل بينهم وبينه .. مستقبل البشر لا مستقبل العلم .. العلم مهم جدا للبشر لكن البشر أنفسهم من حيث الروح والعقل أهم . معنويات البشر الأولي بالرعاية بل لا بأس من القتال في سبيلها .. الكرامة والعدل والحرية وحق العمل . عاد إلي مصر منذ أسابيع ، وبقي في بيت اشتراه في شبرا حيه القديم بجوار كنيسة سانت تريزا .. لم يتحمس لرؤية أحد من أقربائه. شعر أنه بحاجة إلي أن يعيش منفردا لبعض الوقت .. أغلق بابه علي نفسه ممتنعا عن التعامل مع أحد . طردته بلاده من قبل مرتين وطردته غربته في سن كبيرة ، وقد ظن في مناسبات عدة أن أمريكا هي وطنه الحقيقي . يتقافز الشباب وهم يمسكون بقماش العلم ذي الألوان الثلاثة والنسر في وسطه.. الشباب يرفعون العلم عاليا فتتبدل الألوان وتضحك وترقص في فضاء التحرير .. العلم يهتف فتتصاعد الهتافات إلي السماء وتسافر .. سكت الشباب عندما توسط العلم الميدان ، عندئذ هتف الفضي وهو لا يدري كيف هتف وكيف ساعده صوته العصفوري الذي لم يتعود الكلام علي أن يهتف : سلمية .. سلمية .. التقط الشباب الهتاف ورددوه فتابع وقد علا صوته : المسلم والمسيحي إيد واحدة .. الشعب والجيش إيد واحدة ..مضي الشباب يهتفون دون توقف . الفضي تصور أنه مع الشباب في الحرم المكي يطوفون بالكعبة ويتوجهون إلي الله بالدعاء كي يرزقهم مصر جديدة ومختلفة عن تلك التي شاخت وتعطبت مثله .. اضطر أن يطلب المساعدة علي الهبوط وقد شعر أن ساقيه لا تكادان تحملانه. مال عليه أحد الشباب : نزلت ليه ؟.. انحني العجوز وكأنه يتواري : كفاية كده .. البركة فيكم . عن إذنك. مضي بين الزحام وسرعان ما اختفي .. تناهت إليه رائحة حاول تتبعها . متأكد هو أنها رائحة بطاطا مشوية .. حاول أن يبحث عن منفذ للخروج .. لمح دبابة ..اقترب منها وحيا الجنود .. راق له أن ينظر إليها لحظات ثم تذكر البطاطا .. قال للجندي وهو يبتسم : أنا شامم ريحة بطاطا .. معقولة يكون هنا حد يبيعها ؟ ابتسم الجندي وقال : شايف يا عم الحاج اليافطة الكبيرة اللي هناك دي ؟ أيوة تحتها أخذ بصعوبة شديدة يمرق بين الأجساد.. في بعض اللحظات شعر أن ضغطا هائلا يوشك أن يحطم عظامه ويكتم أنفاسه خاصة أنه قصير .. اجتهد أن يشق الجسد الكبير الملتحم ويمر بينه ولو بطريقة الدودة حتي وصل .. وجد عربة الفشار جنب عربة البطاطا وعلي بعد قليل وجد بائع الترمس الذي صنع منه هرما وحوله القلل المنداة كأنها تماثيل تحرسه .. أحس بالظمأ فطلب أن يشرب .. مد له بائع الترمس قلة .. مضي يشرب علي مهل ويستمتع بموسيقي المياه التي تعبر فتحة حلق القلة .. كان الماء يترقرق إلي فمه كفتاة تزغرد .. ارتاح قليلا وعاد يشرب بترو ومهل . اشتري البطاطا وحملها كأنما يحمل ثروة وقبل أن يقضم منها قطعة اندفع شاب راكضا فأطاح بها . . نظر الفضي في يديه الخاليتين ، ثم انفجر ضاحكا .. وأحس بطعنة بسيطة في قلبه عندما لمح طفلا في نحو الثامنة من عمره ينحني علي البطاطا المبعثرة محاولا أن يجمع منها ما يستطيع . تقدم منه وأنهضه واصطحبه معه إلي بائع البطاطا واشتري ثمرتين كبيرتين ..أعطي منهما للطفل واحدة.. كان الطفل يبدو فقيرا وربما كان جائعا .. قال الفضي : شوف لنا رصيف نقعد عليه وناكل من غير ما حد يوقعنا أو يوقع البطاطا أمسك الطفل بطرف الجاكيت الكموني الذي يرتديه الرجل الفضي .. كان الطفل فيما يبدو قليل الكلام مثل العجوز.. اقتاده الطفل إلي أقرب رصيف وكان أمام عمر أفندي في أول طلعت حرب .. جلسا يأكلان وكلاهما مستمتع غاية الاستمتاع .. كلاهما تقريبا محروم . انتهي الولد بسرعة وقبل كفه ظهرا لبطن ، سأله العجوز: -أجيب لك تاني ؟ - الحمد لله.. عن إذنك لازم أروح لامي - ساكنين بعيد ؟ - أمي هنا في الخيمة ح تولد حالا توقف العجوز عن التهام القطعة الأخيرة ، وتوقف عن إكمال مضغ ما في فمه ، وسأله مندهشا : نعم !!! ابتسم الولد مندهشا من دهشة الرجل ، وبسط كفيه الصغيرتين أمامه ومط شفتيه جدد الفضي سؤاله ، فأكد الولد ما سبق أن قال ، سأله العجوز: ممكن آجي معاك يالا بينا نهض الولد ودس العجوز قطعة البطاطا الأخيرة في فمه ومضي وراءه وهو لا يزال في حالته .. سأل نفسه : هل يكون الولد معاقا ؟ .. وأجاب : لا أظن .. كانت أم الولد قد استبد بها القلق علي زوجها الذي يمتهن النشل في الأوتوبيسات لغيابه عدة أيام مستبعدة أن يهملها كل هذه المدة وهي في أحرج اللحظات ، كان زوجها قد فكر أن بالإمكان بدلا من الركض وراء الحافلات وبذل مجهود كبير كي يلتقط محفظة ليس فيها أكثر من عدة جنيهات ، أن يحضر إلي الميدان الذي يتجمع فيه المتظاهرون بمئات الألوف ومن المؤكد أن الله سيرزق بدل المائة مائتين جاء منذ ثلاثة أيام والتقي بأصدقاء له وانشغل معهم بالهتافات والخدمات ونقل المصابين وحمل العواجيز وتعليق الميكروفونات واللافتات ونسي موضوع النقود ونسي زوجته .. كان يحصل علي السجائر في اللحظة ذاتها التي يشعر فيها أنه خرمان ، وعندما يتبين له أنه بحاجة إلي نصف رغيف حاف يسد بعض الجوع يجد رغيفا كاملا ولو علي أقساط .. إلي أن فوجئ في الصباح الباكر بزوجته الحامل توقظه من النوم وهو ممدد علي عشب حديقة صغيرة في الميدان ومعها صديقان من أصدقائه فقد اتصلت به عدة مرات وكانت تحسب أنه قبض عليه وكان يقسم لها أنه في ميدان التحرير لكنها لم تصدقه وصعب علي أي زوجة أن تصدق أن نشالا يترك مهنته ويشارك في الثورة مع المتظاهرين .. استيقظ مندهشا كيف جاءت وهي علي وشك الولادة وصرخ فيها : إنت مجنونة !!! لم ترد .. جرها وسلمها لصديقيه قائلا لهما : رجعوها حالا من مطرح ما جبتوها قال أحدهما : مالناش ذنب هي اللي طلبت صرخ فيه زوجها : يلعن أبوك لأبوها .. غوري يا بنت الكلب روحي دلوقت حالا استدارت لتعود فلم تكن تعصي له أمرا واستدار معها الشابان ، وبعد خطوات قليلة صرخت وسقطت ، فحملها زوجها بصعوبة حتي أقرب تجمع نسائي ، وجري الشباب يحضرون لوازم خيمة ويبحثون عن طبيبة أو طبيب ، وقامت النسوة لا يدري أحد كيف بتجهيز نومة مناسبة ومياه ساخنة و طشوت وحلل . وظهرت بسرعة طبيبة كانت في خيمة الإسعاف ,، لم تبذل مجهودا يذكر فقد كانت الولادة أشبه بولادة الخيول . ما أن تأوهت الأم قليلا وحزقت عدة حزقات حتي انزلق الولد كأنه كان يتزحلق علي شيزلونج بلاستيك في حديقة للأطفال . ما إن وصل العجوز والولد حتي صرخ المولود الجديد داخل خيمته في ميدان التحرير .. وقف الأب خارج الخيمة يبكي ويدخن والشباب يرقصون حوله ويهنئونه .. قال : - -- عمري ما سمعت عن ولادة زي دي .. أسامة الكبير دهه أمه قعدت تولد فيه يومين .. أنا نفسي أمي قالت لي إنها قعدت تولد فيّه تلت تيام وبعد أنا ما جيت أبويا استندل ومات.. عيلتنا كلها كده .. مفيش فيها واحد خرج ولم الدور بسرعة ..إلا ده .. لازم أشوف له اسم حلو .. أخذ الجميع يقترحون اسما للمولود .. العجوز كان ينظر وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا .. لا يحس بشيء .. أحمد . عمر .. يوسف .. شادي .. تامر .. والأب يزيح ويمط شفتيه غير مقتنع ، حتي شدّه ولده أسامة من قميصه وقال له : سمّيه علي اسم الراجل ده .. جاب لي بطاطا التفت إليه الأب ولم يتذكر أنه رآه من قبل خجل العجوز من طلب الولد وحاول أن يستأذن، لكن الأب رحب به وشكره وعزم عليه بسجائر رفض العجوز وتأهب للانصراف .. سأله الأب : اسم الكريم إيه ؟ بحياء شديد قال : عبد من عباد الله .. ألف مبروك شدّه أسامة من كم الجاكت وقاله : والنبي يا عم الحاج تقول علي اسمك أنا عايز اسمي أخويا علي اسمك مسح العجوز رأسه وقال : ميلاد قال الأب أهلا يا عم ميلاد .. إنت وشك حلو علينا شكرا .. عن إذنكم في اليوم التالي خرج من داره وتوقف عند أفضل مطعم .. اشتري ألف ساندوتش من الفول والكبدة والطعمية والبطاطس المقلية والباذنجان .. لم يبق في السيارة غير ما يكفيه كي يجلس أمام عجلة القيادة .. ولما وصل الميدان .. حاول أن يبحث عن أشرف أو والد أسامة أو غيرهما فلم يوفق . نادي أحد الشباب وطلب إليه أن يساعده.. أسرع إليه عشرون شابا. فرحوا جميعا بأن الفول معه مخلل خيار ولفت وجزر وقرنبيط.. حمل بعض الساندوتشات وذهب يبحث عن الخيمة التي بها أسرة أسامة وأمه .. عثر عليها ولم تكن هناك غير الوالدة .. سلمها الساندوتشات ، وقال لها : ألف مبروك.. سلمي لي علي أسامة وأبوه قبل أن يتحرك مبتعدا سألته : اقوله مين ؟ فكر أن يقول فاعل خير .. استسخف الكلمة في هذا الظرف ..أحس أن أسامة سيفرح إذا علم أنه هو.. قال : ميلاد في اليوم التالي حلق الدكتور ميلاد ذقنه واستحم وسوي شعره وارتدي ملابس ملونة ومشرقة وتخلي عن ربطة العنق .. بحث في الدليل عن رقم تليفون محل كشري ..اختار محلا سمع باسمه من قبل اشتري ألف علبة كشري ومعها الصلصة والشطة وكذلك أكياس الدقة بالثوم والكمون والليمون والملاعق .. لما وصل أسرع إليه الشباب وحملوا علب الكشري وأكياس التحويجة .. هتف بشاب كي يحمل أنبوبة صغيرة وسخان وأكياس السكر والشاي ودعاه ليكلف من يشاء حتي يعد لهم الشاي .. كان المشهد رائعا والدكتور ميلاد في حالة معنوية تكاد تبلغ السماء وتطيل من قامته حتي يري نفسه نخلة .. حركة سريعة وباهرة .. الكل يأكل ويخطف ويضحك ويركض ويتشقلب والبعض خطف علب الكشري وصعد فوق الأعمدة التي تريد إسقاط النظام ..لكن الشاي فرض علي الشباب أن يتحركوا بحذر وهم يتسلمون الأكواب ويوزعونها ثم يعيدونها فارغة ومغسولة . ظل ميلاد عالم الذرة في الميدان اثني عشر يوما حتي تحققت أهداف الثائرين .. تعانق الجميع وحمل الشباب الدكتور ميلاد وطافوا به معظم أنحاء الميدان وهو لا يكف عن البكاء .. بكي الرجل بغزارة وغلبه النشيج .. كانت هناك أسباب كثيرة لديه كي يبكي علي هذا النحو ، ومن بين هذه الأسباب .، الفرح بما يجري ونتائج الثورة . ولما أمكنه أن يتماسك عاد يهتف : تحيا مصر .. تحيا مصر أحس أنه ارتد عشر سنوات في عكس اتجاه شيخوخته ، وقد كان منذ ارتمي في حضن بلاده قادما من غربته متيقنا من أنه يمضي نحو النهاية الرمادية .. الآن اختلف الحال وهاهو القمر يظهر علي استحياء ثم يتألق وجهه في السموات . وعاد الدكتور ميلاد يسأل نفسه : ما الذي يمكن أن أقدمه لبلدي الذي حُرم مني وحُرمت منه ؟ كان الشباب سهاري في الميدان والسماء في الليل تمطر بالونات صغيرة من الضوء .. تتساقط كأنها تتلقي رصاصات يطلقها الصيادون من هواة صيد لآليء السماء التي تنفجر انفجارات هشة وناعمة ، ثم تهبط لتمسّد شعر المتمسكين برائحة الوطن وتتحول في الفضاء المحموم والمبتهج إلي غزل البنات ثم تختفي . الرجل القصير نسبيا يكاد شعره الفضي يرسم هالة من النور تحيط به وتتبعه وهو يتهادي بتؤدة علي كوبري قصر النيل متجها إلي ميدان التحرير ، تراوده الرغبة في مطالعة مشاهد قد تسري عنه وتمسح ركام حزن معتق .. قال لنفسه كأنه يبرر ما يمكن أن يعد جنونا : من حقي علي الأقل أن أبحث بعد ما جري عن الذكريات .. إذا كانت لي هنا ذكريات ، فلا دواء للحائر أو الموشك علي النهاية غيرها ..هاهي القاهرة الثائرة المتوترة كما هي مثلما كانت في عينيه ووجدانه منذ عشرات السنين خاصة إذا حل المساء وتقدم .. عندئذ يرحل الغبار ويغيب البشر المسرعون المتلاحمون إلي درجة العماء وتتلاطم في بحر الشوارع أمواج السيارات والنداءات و العرق والضجيج ، وتحط الكآبة والشيخوخة علي المدينة التي تعود بالليل إلي شبابها الغض الحالم المستنيم لأنغام الجمال والسحر ، وتتنهد المباني وتتمدد علي وسائد الذكريات وأنفاس النيل وهمس النسائم الناعمة والحنون .هاهي أمامه وفي خياله وكما كانت في ذكرياته .. القاهرة الأنثي العاشقة . حيا العجوز الأسدين الرابضين في موقعيهما دون أن يبرحاه لثانية واحدة لما يزيد علي مائة وخمسين عاما ، يدمنان التطلع إلي ميدان التحرير ، الأسد الذي إلي اليمين يسترق النظر دون أن يفقد هيبته إلي قاعات فندق سميراميس المضاءة ضوءا خافتا يكفي للتناجي بين عشاق وأصحاب علي حدود السكر الرهيف ، وينتقل الأسد ذاته للنظر إلي وزارة الخارجية المظلمة وإن لم تنشغل تماما عما يجري فثمة ضوء شحيح يتمشي في حذر وراء الستائر، بينما الأسد الثاني يتمسح بعينيه علي جدران جامعة الدول العربية التي تنصت بإمعان لما يجري في الساحة المحمومة يخامرها إحساس بالتوجس لأن هذا الميدان قادر علي تصدير أفكاره ورؤاه وغضبه. الميدان ساحة كبيرة من الضوء تحيطه البنايات كمردة تحرس الحركة الصاخبة التي تحاول أن تتواءم مع الليل بحيث تقلق الطغاة دون أن تثير الجلبة أو تؤجج الصراع المحتدم لانتزاع ضرس نخره السوس . وهكذا وقف ذو الشعر الأبيض منزويا يتأمل المشهد هائل التفاصيل .. مشهد يصعب عليه أن يستوعب تماما كل ما فيه ودور كل تفصيلة في تشكيل قنبلة الوعي التاريخية التي تتأهب للانفجار علي نطاق واسع . قادت العجوز تأملاته لتخيل مشهد القنبلة النووية التي ألقيت علي هيروشيما أو نجازاكي التي تشبه فطر عيش الغراب .. عندئذ ظهرت أمامه صورة مكتبه ومعمله بولاية فرجينيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية . شرد وسرعان ما علت دقات قلبه وكان قد دربه اتساقا مع الحياة الأمريكية علي ألا يدق إلا في أضيق الحدود ولأجل الحفاظ علي حياته فقط ، كما أن حياته العلمية مذ كان في كلية العلوم بالقاهرة قبل خمسين عاما أهلته تدريجيا كي لا يقيم كبير وزن للعواطف حزنا أو فرحا .. كل ما أثاره الآن تذكره القرار المفاجئ بإنهاء عمله ومغادرة الولاياتالأمريكية كلها خلال مدة لا تتجاوز أربعا وعشرين ساعة فقد أصبحت خطرا علي الأمن القومي الأمريكي . أسوأ ما في الدنيا إنكار الجميل . تسع وعشرون سنة كاملة في خدمة مركز الأبحاث النووية الأمريكية ، وفجأة .. نقل خطواته ببطء حتي وصل إلي مجموعة من الشباب .. واحد يكتب اللافتات وآخر يصور بالفيديو وسيدة تعد الشاي بإمكانيات بسيطة للغاية بل بدون إمكانيات بالمرة . شاب يقلد الفنانين .. توقف أمامه لحظات .. فرح جدا وهو يراه يقلد محمود المليجي وحسن البارودي. . شابة تقسم رغيف فينو علي الحاضرين حتي بلغته فأعطته لقمة .. اندهش .. ثمة حنان أحسه في اللقمة يمس شغاف قلبه .. أحس فجأة أنه بحاجة إليها ولما قضمها وبلغ طعمها حلقه شعر أنها أشهي خبز أكله في سنوات عمره السبعين... تبادل الشباب فيما بينهم رشفات من كوب شاي واحد .. الشباب يتبادلون النكات بينما تتعانق الأكف المنسجمة في صخب . ظهرت سيدة ربما في الستين من عمرها ومعها صبية .. سألت عن أشرف النقلي .. مطوا الشفاه .. قال واحد منهم وقد أحس بحيرتها المبكرة : اسألي هناك يا حاجة .. انتقلت السيدة والصبية إلي جماعة ثانية .. تحرك في إثرها ذو الشعر الأبيض .. انتقلت إلي جماعة ثالثة .. تزايدت الحيرة .. وعندما وصلت إلي مجموعة رابعة سمعتهم في نفس واحد يقولون لها : زمانه جي تعرفوه ؟ طبعا تبرع شاب وقال : الطويل أبو حسنة في مناخيره تنهدت العجوز ورفعت يدها للسماء ، ثم قالت للصبية : تعبتك معايا يا نهار أبيض !..أشرف أخويا فرح ذو الشعر الفضي لما السيدة عثرت علي أشرف . كان هو الآخر يتمني أن تجده.. أمسك بنظارته غليظة الشامبر والعدسات ونفخ فيها ومسحها بمنديل ورق أعاده إلي جيبه وأعاد النظارة إلي عينيه واطمأن علي استقرارها فوق أرنبة أنفه . مر علي جماعات أخري ، ثم وصل لخيام بلاستيكية صغيرة . بكل منها أسرة كاملة .. رجل وزوجته وأولاده .. الأطفال نائمون . الأب يقرأ القرآن والأم ترتق قميصا أزرق به مزق . ما إن قطعت الخيط بأسنانها حتي انشقت الأرض عن شاب عاري الصدر . أخذ القميص وسلمها غيره .. جال بخاطر العجوز أن هذا الشاب يمكن أن يكون أشرف . طرد الخاطر لأن هذا الشاب ليست بأنفه حسنة . توقفت إلي جواره سيارة نصف نقل .أسرع إليها الشباب . أنزلوا حمولتها بسرعة غريبة . فوجئ ذو الشعر الفضي بمن يدس في يده ساندوتش فول .. ركض الشباب يرمون الساندوتشات علي الجموع الساهرة .. يأكل الجميع باستمتاع غريب ..جذبته المشاهد الحية المتدفقة .. تنبه أن بيده ساندوتش . بدأ يقضم علي مهل . كان لذيذا .. لم يأكل الفول منذ سنوات .. بكت الطفلة وجذبت ثوب أمها . دون أن يعرف الفضي السبب تقدم ووضع الساندوتش الناقص في يدها .. كفت عن البكاء . تسلم يا خويا ابتسم العجوز رغما هنه ، ولم تدر المرأة لماذا يبتسم .. بعثرت نظراتها في أنحاء الميدان.. لعلها تبحث عن زوجها .. تشكك العجوز في أن يكون هذا هو ميدان التحرير ..وتشكك في أن تكون هذه مظاهرة أو ثورة .. دار في الميدان .. اجتذبته أصوات الغناء . شعر بنشوة ممتزجة بعبق الماضي وهو يستمع إلي سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم .. أغاني الصبا التي حفرتها الإذاعة في وجدانه بعد ثورة يوليو .. انتشي عندما استمع إلي أغنية عبد الوهاب يا نسمة الحرية .. تنفس بعمق .. كانت طحالب كثيرة تلتف حول روحه .. عششت وطالت وكتمت أنفاسه ومع الوقت تعايش معها . رطبت مشاعره أغنية بالأحضان وأغنية صورة لعبد الحليم دنت الجماعات من بعضها وكونوا جماعة واحدة من عشرات الألوف وشرعوا يهتفون .. نظر في ساعته . كانت الثانية والنصف .. الشعب يريد إسقاط النظام .. كرروها عشرين مرة تقريبا وهتفوا : مش ح نمشي .. أنت تمشي .. برة برة .. برة .. ارحل .. ارحل . لمح أعدادا هائلة قادمة من شارع قصر العيني ومن جنب المتحف وميدان عبد المنعم رياض وشارع طلعت حرب ومن ميدان باب اللوق ومن قصر النيل وشامبليون .. أنهار متدفقة تصب بشرا في الميدان .. تردد السماء أصواتهم قبل أن يظهروا .. تحدث الفضي إلي نفسه بعد أن سقي رئتيه بهواء الليل الصافي الذي أنعشه : النسيم عليل والجو بديع وكل الناس مبتسمة .. البنات تهتف أعلي من الرجال والأطفال المرفوعون علي أكتاف الآباء يهتفون بكل حماس .. أنا في نزهة ولست في مظاهرة .. الشعب يبدو غير متعجل علي أهدافه لكنه عازم علي ألا يغادر الميدان إلا وهي معه . كنت أسمع عن بعض المظاهرات أو الاعتصامات البسيطة التي تستمر عدة ساعات إلي أن تظهر الشرطة وتشتبك مع المتظاهرين وبعد عدة إصابات ينفض المولد . قرر أن يطلق سراح لسانه ويهتف مع الشباب .. لم يخرج صوته في البداية . عاود التجربة ، فخرج صوته مثل فأر مسلوخ . سلك صوته وكح .. تذكر أن الطبيب الذي منعه من السجائر قال له أن 80 في المائة من رئتيه مملوء بالسخام .. بدأ يهتف بصوت منخفض كأنه يجرب صوته في الحمام .. رفع صوته وهتف .. تحمس و رفع صوته أعلي مما يتصور .. اهتز جسده وأحس أنه يوشك أن يقع . تحدي نفسه وهتف وضرب الفضاء بقوة وهو يهتف ..ارحل .. ارحل .. تذكر أن هذه العبارة قيلت له في أمريكا . لاذ فجأة بالصمت . قال في نفسه وقد شعر بغصة : أنا في بلدي الآن أقولها لمن لا أريده ولا يقولها لي أحد جرب أن يؤلف هو بعض الهتافات ويمررها في حلقه ومشاعره وروحه التي تخلصت قليلا من ركام الذكريات . لمح سيارة شرطة محترقة .. كانت فوقها بنتان وطفل .. تجاسر فكره ودفعه لمحاولة الصعود . لمحه شاب فساعده حتي صعد .. المشهد من فوق العربة المحترقة مختلف .. شعور بالتمكن .. هل العربة المحترقة هي عمري الذي ضاع أم نظام هذه البلد المتعفن الذي قتل المواهب والآمال .. كنا نعرف في أمريكا أن حكام البلد يسرقونها وهناك ملفات كثيرة تحمل أسرارا كشف لي بعضها مسئولون كبار في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، لكنني كنت أري أن سرقة الروح هي الأخطر .. سرقة الروح تعني امتصاص الحيوية والأمل ، وحقن الروح بدلا من ذلك بالصمت واليأس وتكرار عبارات مثل : ليس في الإمكان أبدع مما كان .. أنتم أفضل من شعوب كثيرة علي الأرض تعاني من تسونامي ، وأنتم أفضل من أمريكا ذاتها التي يقاسي شعبها الأعاصير والعواصف يقولون :هناك شعوب تهاجمها الزلازل وشعوب تسحقها الحروب الأهلية ..أنتم في نعمة لا تحسُّون بها الجموع تهتف بسعادة ، وتثور بمحبة، وتتوعد وتقول النكت.. من فوق العربة المحترقة رأي العلم محمولا علي الأعناق يتقدم من ناحية المتحف المصري .. علم طويل جدا وعريض جدا ومشرق جدا .. تساءل في دهشة : لماذا لم أكن أشعر في أي يوم أن هذا العلم جميل ؟.. لماذا من سنوات طويلة تعاملنا معه باستخفاف ؟.. مشهد العلم مؤثر .. أشعر أنه يغطي البلاد بطولها وعرضها . مضي يحدث نفسه : هل يمكن أن أقدم الآن شيئا مهما لهذا البلد بعد أن قررت أمريكا طردي بحجة أنني خطر عليها ؟ .. قال لي أحد الأصدقاء : طردوك لأنك أصبحت تعرف أكثر مما يجب . في قرارة نفسه لم يقتنع بهذه الحجة أو تلك .. ربما كانت وشاية .. اليهودي ديفيد رايس شريكه الجديد في المشروع لم يبد أي ارتياح له في أي يوم . تهللت السيدة عندما رأت ولدها أشرف وكان يوزع ساندوتشات الفول والطعمية . فرح هو أيضا بعودته واستشعر ما تحسه الأم ، وقد عثرت علي أعز ما تملك .. جلس إلي جوارها علي الرصيف أمام تمثال عمر مكرم .. اجتذبته عبر الميكروفون أشعار عامية كالحمائم الملونة تطير وتطير ثم تحط في قلبه .. كانت أنهار الشعر الصادق المبتكر الخارج ساخنا من فرن التحرير تصب في بحيرات شعوره وتسقي وجوده الذي كان حتي ساعات قليلة مثل كوخ هش في منطقة نائية لا يسمع فيها أي صوت إلا هزيم الريح .. تنفس بعمق ، ولم يستطع البقاء جالسا فوقف . أحس بالحيوية والرغبة في العدو ومعانقة الشباب .. لقد عمل بالجامعة في أركنساس لنحو تسع سنوات ثم انتقل إلي المركز العلمي حيث ظل عشرين عاما في معمل الأبحاث بولاية فرجينيا .. قضي أهم سنوات عمره في مركز أبحاث متخصص في تصميم وبناء محطات القوي النووية للسفن والغواصات وحاملات الطائرات.. لم يتزوج ورفض كل العروض كي يسافر ويتنزه . لم يهتم بالترويح عن نفسه مع أن الكثير من العروض كانت مجانية من جهات تقدر جدا دوره . إحدي وثلاثون سنة عاشها عالم الفيزياء حياة الرهبان ، بعد أن ترك مصر التي حاربه فيها زملاؤه ورؤساؤه والمسئولون الذين تقدم إليهم بمشروعاته في عامي 79 ، 80، واضطراره للسفر غاضبا ثم عودته عام 1991 ولم يحفل به أحد ، بل قاومه القاعدون علي الكراسي التي تدر عليهم المجد والمال .. عاد إلي أمريكا لكنه ظل مشدودا لبلده .. معادلة صعبة يعيشها المصريون في الخارج خاصة من استطاع أن يكون خبرة كبيرة وعلما متقدما ..هو الآن في السبعين ، فهل يتأثر في هذه السن بما يجري أمامه الآن؟ .