اقتربت من المدخل, أسلاك شائكة, حجارة متراصة, قادمون وقادمات من شوارع جانبية, قابلني شاب صغير عمره لا يتجاوز العشرين, سألني بأدب جم: أسف حجا..ممكن الكارنية أو البطاقة؟! قلت له: لا تأسف.. دخلت وبعد عدة أمتار تقدم آخر وبدأ في تفتيشي..وسألني: معك مفاتيح أو أي أشياء معدنية؟! أخرجت المفاتيح قال لي وهو يعتذر: نخاف من وجود أي مطواة أو آلة حادة معلقة في أي سلسلة مفاتيح. تقدمت ثلاثين مترا وقبل دبابة تقف بالعرض في شارع شامبيون في مدخل ميدان التحرير, وجدت صفا من المنظمين يتقدمهم شاب يقول بصوت عال: أي واحد معه سلسلة مفاتيح يمسكها في أيده! دخلت إلي الميدان..كانت رابع مرة أدخل إليه, كل مرة أجد جديدا في الوجوه والهتافات والأفكار والأمل والحلم.. لكن أكثر ما أثارني هو تنظيم هؤلاء الشباب للحياة داخل ميدان التحرير, منتهي الدقة والتحضر والأدب..أين تعلموا هذه القدرة علي الضبط والربط الجيد الذي فشلت فيه الدولة؟!..ولو قارنا بين ميدان التحرير التي لا تحكمه الحكومة وميدان رمسيس الواقع تحت سطوتها الآن لهالنا الفارق في الانضباط..انضباط دون سلطة أو سطوة أو بطش أو رشوة. من يقول أن التيار الديني أو أن الأخوان المسلمين يسيطرون علي الميدان بالقطع هو كاذب..مصر بكل ما فيها موجودة في الميدان, لكن الغلبة لشباب حالم فاهم مستقل, موظفين ومهندسين وأطباء وشعراء ورسامين وكتاب وطلبة وعمال وفلاحين وأميين أيضا..نساء سافرات ونساء محجبات ونساء منقبات.. نساء هاي كلاس ونساء في جلاليب سوداء..أفراد وعائلات.. مصر في ميدان التحرير تحفر بأظافرها طاقة أمل لتطل برأسها من كهف العتمة إلي نور الشمس, من أسوار الظلم إلي فضاء الحرية, من أسر الراعي إلي حق المواطن, من الوقوف في طابور الطاعة إلي الطيران في ساحة الكرامة.. الميدان كرنفال من الحرية, تغيب فيه سلطة النظام الحاكم الفرد سواء كان متعسفا أو متسامحا, وتحركه سلطة الشعب الواعي المدرك لحقوقه وواجباته.. كرنفال عظيم تحت عنوان واحد مصر تتحدث عن نفسها, مصر التي قبعت طويلا وسكتت طويلا واستكانت طويلا, وتجمدت أطرافها وتجعدت ملامحها وشاب شعرها وتقوس ظهرها, وتصلبت شايينها..يا للمعجزة..مصر في طرفة عين بقوة شبابها طال لسانها, وتمددت أطرافها وعاد لها جمالها وأسود شعرها وأنتصب ظهرها وجرت دماء عفية في عروقها..لا تسألوا كيف حدثت المعجزة..هذه هي عبقريتها! في كرنفال ميدان التحرير, تلاشي الخوف وحلت الثقة, انزاح الكابوس وهبط الحلم, اختفي التمييز وسادت المساواة, لم أجد مصريا يمشي جنب الحائط أو داخل الحائط, كل إنسان حر, يقول ما يشاء حتي هؤلاء الذين لم ينبسوا ببنت شفة طول حياتهم, ولم يفكروا يوما في السياسة, غيرهم دم الشهداء النبلاء.. وحولهم إلي عماليق مجنحة تكاد اعناقهم تطول السماء وتصل أصوات حناجرهم إلي الأكوان البعيدة! يقترب مني رجل مصري في الأربعين من أصحب الوجوه المألوفة التي تصادفها في محطة مترو أو أتوبيس أو في الشارع أو علي المقهي أو في سوبر ماركت, اقترب حاملا كيسا من العيش الفينو قائلا: خذ ساندويتش جبنة..وبعده أخر معه بلح أو منين أو قراقيش بالعجوة أو سندويتشات فول وطعمية.. ثم عاشر أو عشرون يقدمون زجاجات مياه للعطشي.. علي الأرض تتراص علب كشري, العلبة بثلاث جنيهات..يقف أمامها بائع متجول.. أو يقف علي الرصيف بائع شاي الكوب بجنيه أو بائع بطاطا..الأسعار عادية للغاية, لم يحاول احد أن يستغل الموقف ويضاعف الأسعار دون أن تتدخل الحكومة.. في ميدان الحرية اللافتات فيها عبق الشعب المصري وسخريته وعبقريته..شعارات من كل لون, من أول أرحل عايز استحمي إلي مطالب الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة ونظام سياسي جديد.. النصف الجنوبي من الميدان هو أصل الثورة, ميكروفات وخطب وأشعار وتجمعات كثيفة, قد تطول إلي أول طريق كوبري قصر النيل أو جامع عمر مكرم أو شارع قصر العيني.. النصف الشمالي من الميدان فيه العيادة الشعبية والمستشفي العام, طباء شباب جدا في ملبسهم الملائكي الأبيض حتي لو لم يكن ناصعا من غبار معركة الجمل- يضمدون جرحا أو ويعطون دواء لسائل انتابه الصداع أو الزكام أو أي وجع مقدور عليه.. في نهاية المستشفي يقع ما تبقي من الجزء الجنوبي لميدان عبد المنعم رياض, فكل الارصفة مفككة, والبلاط تمزق إلي حجارة والبلدورات إلي قطع صلبة من الأسمنت..هكذا فعل البلطجية وأصحاب المصالح في بقاء الأوضاع المتردية في مصر علي حالها, وهم يهاجمون علي مصر الجديدة المتظاهرة التي تولد في ميدان التحرير. في جانب نهاية السور الشرقي للمتحف المصري الذي يحفظ بين جدرانه حكاية شعب عظيم مع التاريخ..تتراص مجموعة من الدبابات مع ناصية شارع شامبليون..كانت في ميدان عبد المنعم رياض ثم تقدمت للفصل بين الثوار والبلطجية بعد أن كسب الثوار معركة الجمل ودحروا البلطجية بسيوفهم ورصاصاتهم.. قبل آذان المغرب خرج صوت من الميكروفون: نريد مائة شاب علي البوابة الشمالية.. لم أفهم السبب.. واتجهت بعد ساعة شمالا.. وجدت الشباب يفترش الأرض جانب الدبابات تماما..لا مسافة بينهم وبين الكائن المعدني المخيف.. قالوا لي: الدبابات أدارت محركاتها..كانت تود أن عشرات الأمتار من الميدان..وتترك للمتظاهرين مساحة أقل لنشاطهم, حتي يمكن عودة جزء من اليمدان إلي الحياة الطبيعية.. لكن المتظاهرين رفضوا.. وحين جاءهم قائد المجموعة المسئولة عن الميدان ليتفاهم معهم وهو برتبة لواء, هتفوا له: الجيش جيش الشعب..والجيش والشعب إرادة واحدة! سلموا عليه واحدا وراء الآخر.. وقال مواطن من بين الصفوف: أبني معاهم مش ممكن يضرب أبوه! ولماذا لا تخرجون من الميدان وتقبلون ما قدمه النظام من إصلاحات؟! أجابوا: دون الميدان لن نصل إلي شيء..وحتي لو أساء بعض أهلنا فهم ما نفعل تحت ضغوط لقمة العيش وسحابة الإعلام السوداء..فلن نتراجع عن إصلاح مصر...ميدان التحرير هو الذي جلب لكم ما تنازلوا عنه بالإكراه, وهو الضمانة الوحيدة لتغيير مصر. الحياة لا تتوقف في كرنفال الحرية, الهتافات بالعدالة والتغيير لا تتوقف في كرنفال الحرية.. صدقوني مصر تولد الآن من ميدان الحرية, يعد أن تعثرت في حملها لأكثر من34 عاما..أي منذ يناير1977!