حسن علام الأغنياء غالبا ما يكونون أذكياء، وحريصين فى صرف المال .. بينما معظم الفقراء كرماء، طموحاتهم تنحصر فى توفير لقمة العيش، لكنهم يشتكون دائماً من العقبات! كلنا لا نحب الفقر، ونرتبط بعداوة شديدة معه، خصوصا الذين ذاقوا مرارته، وفى نفس الوقت نحتفظ بعلاقة حميمة مع الثراء، إلا أن مشاعر الحب والكراهية تكون فى غير موضعها إن لم يتبعها عمل وعرق وكفاح وتخطيط وجهد للفوز بفرص الكسب والاستثمار، وهذا ما يفعله معظم الأثرياء (كما رأيتهم وأرتبط بصداقات حميمة معهم)! فالغنى يفكر فى الغد والمستقبل لأخذ زمام المبادرة لتحقيق أحلامه فى عالم الثراء، بينما الشخص العادى يفكر فى الأمس واليوم، وبعاطفته وتدينه وإيمانه بأن الرزق مكتوب على الجبين، و«اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب»، رغم أن ديننا الإسلامى العظيم يحث على الطموح والعمل والاجتهاد والكسب من عرق الجبين. زرت «بيروت» وهى من أحب المدن إلى قلبى أرضا وشعبا وحضارة وجمالا بطبيعتها الساحرة، وليلها الساهر الذى لا ينام بحفلاتها الأنيقة وفنونها الراقية وطعامها اللذيذ، وفى إحدى الأمسيات قصدت «الجراند كافيه»، بقاعته الفسيحة، والقريبة من صخرة بيروت الشهيرة (الروشة) على كورنيشها الهادئ بالجمال وهمس العشاق والرومانسيين، دخلت المقهى الأنيق الشهير، واخترت على ساحته الخارجية «منضدة»، وتصادف أن جاورت «طاولة»، تجلس إليها سيدتان، إحداهما مهتمة بالآثار واشتكت لضمير العالم وقت أن قامت حرب الخليج واقتحم جنود «صدام حسين» الكويت ونهبوا كل ما خف وزنه وغلا ثمنه من متحفها، أما السيدة الأخرى فكانت «وصيفتها». هى اجتماعية بطبعها، واتضح من حوارها معى أنها تعرف كل أحياء القاهرة الفاطمية حارة.. حارة.. ومغرمة بتاريخها وحضارتها! تطرقنا فى الحديث إلى السياحة، فشرحت لى أماكن التسوق «الرخيصة»، فى بيروت، ومطاعمها الشهية الاقتصادية ومزاراتها ومغاراتها العجيبة وسبل الوصول إليها، وحذرتنى من مغالاة سائقى التاكسيات ونصحتنى إما بالاتفاق على الأجر قبل التحرك، أو استئجار سيارة خاصة، رغم أنها «مليارديرة»، وقبل أن انصرف طلبت «فاتورة عشائى»، وسألتها عن «فكة» عشرين دولاراً لأدفع للجارسون عشرة دولارات، فنهرتنى بشدة: الفاتورة عليها 12٪ خدمة، فلماذا تدفعها مرتين؟.. أنا أفعل ذلك! هكذا الأثرياء يدفعون المال فى موضعه، ولا يبذرون و«الفصال» عندهم ليس عيباً، وأمر قاس جدا على نفوسهم أن يضحك عليهم أحد، أو أن يدفعوا دون رضاهم، هكذا هو تحليلى لأصدقائى الأغنياء، أما طبقة الفقراء فربما يرق حالهم إلى دفع أكثر ما هو مستحق لبائع متجول مسكين، أو يدفعون كل ما فى جيوبهم لرجل متسول ملابسه ممزقة يسأل صدقة، أما الغنى فيرد عليه: الله يسهل لك.. روح اشتغل!! وهناك «مليارديراتس أقل ثراء وشهرة ، ويمتلكون أكثر من طائرة ويخت خاص، ويتباهون ب «الفشخرة» الكدابة، ولا أقول إلا إنهم محدثو نعمة! رجل الأعمال الملياردير الشهير سميح ساويرس كشف عن فلسفته فى الحياة، والتى ترتكز على البحث عن السعادة وليس المال، وأن سيارته فى مصر عمرها 15 عاما ولم يفكر فى تغييرها، ولم يشعر بالحاجة لشراء أحدث الموديلات، مؤكدا أنه تجاوز التعلق بالماديات ويهتم فقط بما يؤدى الغرض المطلوب: أنا لا أرمى فلوسى فى الهواء! ومنذ حوالى ثلاثة شهور كنت فى نادى الصيد مع أحد أصدقائى من كبار رجال الأعمال الأثرياء، وتطرقنا طوال هذه الجلسة لموضوعات مختلفة فى السياسة والاقتصاد والأزياء، فذكر لى أنه يقوم بتفصيل «بدلاته» عند ترزى عجوز فى منطقة «عابدين»، يرسل إليه سائقه ليحضر إلى مكتبه ويأخذ مقاساته، ويحضر الأسبوع التالى لعمل «البروفة»، ويستلمها فى الأسبوع الثالث كاملة ليس فيها «غلطة«، وأجرة تفصيله 700 جنيه فقط لا غير! بادلته الفكرة بأخرى: اسكت أعرق شركة فى مصر للملابس الداخلية طرحت أطقما من القطن الفاخر الناعم ذات ملمس حرير.. قاطعني: بكم الطاقم؟ أجبته: 1200 جنيه، فسكت ولم يعلق إلا من أسبوع فقط: أنا اشتريت أطقما من الملابس الداخلية «المارسرزية» التى كلمتنى عنها بخصم 10٪. قاطعته: كيف؟.. أجاب: انتظرت حتى حلول موسم الأوكازيون، وحصلت على كل 12 قطعة، هدية.. قطعة مجانا. ومنذ أكثر من عشرين عاما كنت فى «باريس»، وقصدت منطقة التسوق بالجملة اسمها «أبوقير»، وتبيع أيضا «بالمفرد»، الملابس و«البراندات» بأسعار أقل من نصف سعرها فى «الشانزليزيه» ومتاجرها تعرض أجمل الماركات العالمية وأرقاها، وفوجئت بأن زبائنها من أشهر نجوم المجتمع المصرى، إنهم مؤمنون مثلى بمثل إنجليزى قديم يقول: «لماذا أدفع أكثر إذا كنت أستطيع شراء نفس السلعة بثمن أقل»؟!
من صفات الابنة البارة بوالدها إظهار الاهتمام به بعد رحيله والتفكر بما أعده الله من الأجر على بِره، وتذكير الناس بحسناته وتدينه وعلمه، والدعاء له بالرحمة والغفران، وهذا ما فعلته المذيعة المتألقة «أميمة تمام»، عندما سألت أصدقاءها ومحبيها الدعاء لوالدها وقراءة الفاتحة على روحه فى ذكراه العطرة. ولم أكن أعلم أن العالم الجليل الدكتور تمام حسان هو والدها، وقد كان عميداً لكلية دار العلوم، والحائز جائزة الملك فيصل العالمية فى اللغة العربية والآداب عام 2005 وجائزة صدام حسين عام 1987 والذى أنشأ أقساما للدراسات اللغوية بالعديد من دول العالم العربى والإسلامي، وتتلمذ على يديه آلاف معلمى اللغة العربية لغير الناطقين بها، وصاحب مناهج البحث فى لغة القرآن الكريم وآدابها، وشارك فى العديد من المؤتمرات والمنتديات والندوات العلمية، لتعليم أبناء الأمة لنقل المعرفة واكتساب المهارات، وأشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراة فى مصر وخارج الحدود، والتى ناقش أصحابها أفكاره للاستعانة بها كمنبر وضياء، خاصة كتابه الفريد: «اللغة العربية معناها ومبناها»، وما أنشأه من نظرية «تضافر القرائن». من حق أميمة تمام أن تفتخر بوالدها العالم النحوى الذى أجمع عليه حراس لغتنا الجميلة بالدقة والوقار وسعة الاطلاع ودماثة الخلق.
تزاملت مع صديقى المؤرخ العسكرى القدير الأستاذ «محمد على السيد»، فى مكتب واحد بمجلة «آخر ساعة»، لسنوات طويلة، إنسان طيب يميل إلى العفوية والتلقائية فى جميع تعاملاته منذ أن يفتح غرفتنا فى الصباح، ويلم بكل مجريات أمور وأخبار المجلة والمؤسسة، ثم ينكفئ على كتبه ومراجعه التاريخية والعسكرية، ويعيد صياغة أحداثها بأسلوبه الخاص، لتخرج بعد ذلك كتبا تتلقاها دور النشر، والتى وصلت لأكثر من 30 كتابا، وقد قدم للمكتبة العربية أكثر من كتاب عن حرب أكتوبر المجيدة، واستعرض قصصاً بطولية للجيش المصرى، وتضحيات أبنائه لاستعادة أرض سيناء وكرامة مصر، وتدمير تحصينات العدو، وعبور القناة، وهدم الساتر الترابى. ببساطته وعفويته يستطيع أى إنسان مقابلته فى أى وقت من العام إلا فى شهر أكتوبر، حيث يسلم نفسه لعدسات القنوات الفضائية، والميكروفونات الإذاعية كمحرر ومحلل ومؤرخ عسكرى بارز، وهو بذلك يرهق نفسه كثيرا ويتحمل ذلك بنفس راضية بما تدر عليه هذه اللقاءات من عوائد مجزية يتفق عليها قبل بداية كل تسجيل. نصحناه أكثر من مرة بأن يوظف «سكرتيرة» تنظم له مواعيده، وتوفر عليه الكثير من جهده، لكنه يرفض الفكرة ربما لأنه لا يريد أن يكسر بخاطر «التورتة»، ليلتهمها سليمة غير مخدوشة ! .