بعد انقطاع في العلاقات دام لأكثر من ثلاثين عام، مازال حلم العودة للشرق الأوسط يداعب الدب الروسي، فروسيا فقدت أهم حليف لها في المنطقة "مصر" بعد نصر أكتوبر عام 1973، وعندما توجه الرئيس الراحل "أنور السادات" نحو الغرب للتوسط في التوصل لسلام مع إسرائيل، مدت واشنطن يد العون لتسليح الجيش المصري بدلا مع موسكو، وقبل الرئيس المصري العرض، وباتت العلاقات فاترة مع المعسكر الشرقي، وانحسرت سريعا إلي حد القطيعة. ومنذ سبعينات القرن المنصرم، شهدت المنطقة هدوء نسبيا بعد خروجها من منطقة صراع الدول العظمي بعد أن ساد النفوذ الأمريكي في المنطقة بأكملها، وهو ما منح مظلة من الأمن لإسرائيل، علي الرغم من أن علاقتها بموسكو كانت جيدة، إلا أن قبلتها الأولي دائما كنت واشنطن. ومع ضربات "الربيع العربي" وتبعاته المتلاحقة علي مدار ثلاثة أعوام التي صدمت منطقة الشرق الأوسط، اختلطت أوارق اللعب مع الجميع، ولم يكن لأحد تصور عما يمكن أن تفضي إليه الأمور، لكنها بالطبع كانت فرصة لحلفاء سابقين أن يظهروا علي الساحة من جديد، وكان أبرز الطامحين هو الدب الروسي، والذي ظهر بقوة علي الساحة من جديد، وصاحب ظهوره قلق شديد من تبعات هذه العودة، والذي دعمه هو تخبط السياسات الأمريكية حالة الغضب بين الأنظمة العربية الرائدة للمعسكر السني، وعلي رأسها السعودية. * المتضررين من عودة الدب الروسي لمنطقة الشرق الاوسط تثير عودة النفوذ الروسي قلق العديد من الدول، وعلي رأسها الولاياتالمتحدة- حيث أن هذا التوسع سيكون علي حسابها- وإسرائيل التي ستضطر للتعامل مع قوي جديدة وستعيد استراتيجيتها نتيجة تغيير التوازنات بالمنطقة. لكن التقارب الروسي مع العالم العربي يحتاج إلي بوابة تؤمن له الولوج المرحب به، خاصة بعد الانتقادات الشديدة التي لاحقت موسكو من الدول العربية – الخليج – بعد دعم نظام "بشار الأسد" في سوريا، وصمود هذا النظام حتي اليوم بفضل الدعم الروسي. فخير مدخل لروسيا إلي "الشرق" هي مصر. استغلت روسيا توتر العلاقات بين النظام المصري الجديد وبين الإدارة الأمريكية علي خلفية الإطاحة بنظام "الإخوان المسلمين"، فبعد أن ظهر تخبط في الموقف الأمريكي في بداية الأمر ووصل الأمر حتي وقف صفقات عسكرية في يوليو الماضي، كان اهمها صفقة الطائرات (F 16)، ثم تجميد المساعدات الاقتصادية. لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي أو في دور المشاهد، فظهرت فور تعالي مطالب شعبية مصرية بوقف التعامل مع واشنطن والتوجه للشرق ناحية الحليف القديم، وبالفعل لبت روسيا النداء، فالأمر بالنسبة لها فرصة لا يمكن بأي شكل من الأشكال تفويتها. وجاءت زيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيان للقاهرة، وصفقة الأسلحة الروسية للجيش المصري لتفرض علي مسرح الأحداث واقع جديد، فالأمر يعني خروج الجيش المصري من تحت عباءة المساعدات الأمريكية، وهي في الأساس التي ألزمته باتفاقية السلام مع إسرائيل. وهو ما أثار قلق تل أبيب في المقام الأول. فالمباحثات بين موسكووالقاهرة كانت محطا لاهتمام صانعي القرار الإسرائيلي، فإسرائيل هي واحدة من أهم القوي الإقليمية المتأثرة بهذا التغييرات، فالموقف الأمريكي من ثورة 30 يونيو فتح الباب للقاهرة كي تخرج إلى فضاء أرحب في سياستها الخارجية، ودفعها لإعادة تقييم العلاقات مع واشنطن. وكان للقلق الإسرائيلي أسبابه، فعندما أعلنت الإدارة الأمريكية عن تجميد جزء من المعونة العسكرية المقررة لمصر، أعربت الحكومة الإسرائيلية عن خشيتها من تأثير ذلك القرار على موقف مصر من بنود معاهدة "كامب ديفيد" خاصة أن مصر تخوض حاليا معركة ضد الإرهاب في شبه جزيرة سيناء. وكشفت صحيفة "معاريف" أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" طالب الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، بعدم وقف المساعدات للجيش المصري لتأثير هذا علي اتفاقية السلام. *مكاسب مصر من التقارب الروسي أن التعاون العسكري المصري مع روسيا من شأنه امداد الجيش المصري بأحدث التقنيات، فقد كشفت تقرير استخباراتي إسرائيلي لموقع "ديبكا" أن قادة الجيش المصري طلبوا أسلحة متقدمة من وزير الدفاع الروسي خلال زيارته للقاهرة، والتي شملت أنظمة صاروخية بعيدة المدي، فوفقا لما نشره الموقع الإسرائيلي، فإن الاتفاق نص علي إقامة نظامين عسكريين متقدمين للجيش المصري، أحدهما "نظام دفاعي" والآخر "هجومي": الأول: هو نظام صاروخي متطور "مضاد للطائرات" ضد الطائرات الشبح والقاذفات وصواريخ الكروز، وهو ما يوسع قدرات الدفاع الجوي المصرية، وسيؤمن قناة السويس والبحرين الأحمر والمتوسط. وأضافت المصادر الإسرائيلية أن جزء من هذا النظام الدفاعي سيتم نصبه في مناطق علي مقربة من السعودية، حتي توفر أيضا للسعودية حماية من الصواريخ والطائرات، وستؤمن المدن الرئيسية في المملكة السعودية. ثانيا: نظام صاروخي (أرض-أرض) متقدم وهو ما سيسمح للجيش المصري بضرب أهداف بعيدة المدي في مناطق الشرق الأوسط – من بينها إيران، وانشاء نظام راداري متقدم ضمن النظام الصاروخي. وشدد التقرير علي أن موسكووالقاهرة ألقوا تعتيما علي نوعيه الصواريخ الروسية التي ستيم تسليمها لمصر ضمن هذا النظام. وكشف التقرير الاستخباراتي أن السعودية هي الممول لتلك الصفقة، والتي تصل قيمتها لأكثر من أربعة مليارات دولار. وتري إسرائيل في هذه التطورات أن مصر بدأت في بلورة رؤية استراتيجية متكاملة للمنطقة، في ظل المتغيرات الراهنة والمعادلات السياسية، سواء فيما يتعلق بالأزمة السورية أو برنامج إيران النووي، والأطراف المؤثرة في المشهد إقليميا ودوليا. فإسرائيل تدرك أن مصر مؤهلة لاستعادة دورها في منطقة الشرق الأوسط بمحيطها العربي والإسلامي، وفي قارتها الأفريقية، وأن التقارب مع روسيا وتنسيق المواقف السياسية يعزز من دور القاهرة الإقليمي والدولي. خاصة في ما يتعلق بالدولة الفلسطينية وإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. *الواقع الاقليمي الجديد هذه التغييرات الإقليمية طرحت واقعا جديدا، جلعت من صانعي القرار الإسرائيليين لا يخفون خشيتهم من عودة روسيا، وتقاربها مع مصر بشكل خاص. فالأمر سيلقي بسلبيته علي العلاقات المصرية الإسرائيلية، في ظل تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وهو مؤشر خطير لإسرائيل. وكانت صحيفة "يسرائيل هايوم" قد علقت علي تصريحات الفريق أول "عبدالفتاح السيسي" بأنه لم يعد ممكنا الاعتماد على الأمريكان وأنه بات هناك توجهه إلى العمل مع الروس في أسرع وقت، كما رأت أن تلك التصريحات تعبر عن خيبة الأمل من السياسيات الأمريكية نحو مصر. يضاف الي المخاوف الإسرائيلية فشل المساعي الأمريكية في رأب الصدع مع مصر والعالم العربي، فزيارة وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" الأخيرة للمنطقة كانت تهدف لإثناء مصر عن البحث عن حلفاء آخرين - وفقا للرؤية الإسرائيلية التي عرضتها "يسرائيل هايوم"- ولإعادة علاقات واشنطنبالقاهرة إلى مسارها السابق، المصحوبة بوعود بالإفراج المحتمل عن بعض المساعدات التي تم تجميدها، لكن القيادة السياسية في إسرائيل رأت أن هذه الزيارة فشلت، ليس مع مصر فقط ولكن زيارته أيضا للسعودية. *نهاية النفوذ الامريكي في الشرق الاوسط و لفتت مصادر عسكرية إسرائيلية لصحيفة "يديعوت آحورونوت" تعقيبا علي زيارة الوفد الروسي للقاهرة أن السياسة المصرية الجديدة هي رسالة واضحة للولايات المتحدة، مفادها أن الدولة العربية الكبرى قادرة على الحصول على المعدات العسكرية المتطورة من جميع الأنواع من دولة واحدة فقط، وهي روسيا. وأشارت تلك المصادر أنه في المنظور الاستراتيجي لتل أبيب فهناك خشية كبيرة من أن يكون المساس باتفاقية "كامب ديفيد" – التي حفظت السلام- هي الخطوة التالية من جانب مصر، في ظل مطالب شعبية بإعادة النظر في بنودها، والتي يرى الرأي العام أنها تنتقص من السيادة المصرية وتحد من انتشار الجيش على كامل أراضيه، وهذا الأمر يفسر الجهود الإسرائيلية الحثيثة لإقناع البيت الأبيض بالعدول عن قراره بمعاقبة الجيش المصري وتجميد تزويده بالأسلحة. ملف آخر سيسهل عودة روسيا للمنطقة، وهو ملف السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالدور الأمريكي الراعي لعملية السلام في الشرق الأوسط سهّل من بسط النفوذ الأمريكي بالمنطقة، وجاء الآن الدور علي روسيا، خاصة بعد الجمود السياسي للمفاوضات، والتقارير بأنها وصلت لطريق مسدود. و هنا نشير إلي زيارة "نتنياهو" الأخيرة إلي موسكو منذ أسبوع، فقد أوضحت الصحف الإسرائيلية أنها هدفت في المقام الأول لاستمالة الرئيس "فلاديمير بوتين" لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه إيران، وأيضا محاولة لعدم بيع أسلحة متطورة لإيران ولمصر أيضا، إضافة إلي اطلاعه علي آخر المستجدات بالشأن الفلسطيني. ويبدو أن إسرائيل ليست وحدها في هذا الأمر، فرئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس أبومازن" يستعد لزيارة موسكو خلال الأيام القريبة، وهو ما أعلن عنه، وأكد أنه سيطلع الجانب الروسي علي مستجدات المفاوضات وسيطالبه بتأييد السلطة ودعم حقها في الدولة الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني، وسيطلب منه تقديم المساعدة لإعادة فتح تحقيق دولي حول أسباب وفاة الزعيم الراحل "ياسر عرفات". فظهور روسيا بدور الراعي لعملية السلام سيفتح لها أبواب عدة بالشرق الأوسط، وسيرسخ موطئ قدم لها لا يمكن محوه، وربما يكون هذا الدور بترحيب إسرائيلي، خاصة أن الموقف الأمريكي المتذبذب تجاه بعض الأوضاع، أو المتعارض مع الخط الإسرائيلي، سيجعل من حكومة تل أبيب تعييد تقييم الأوضاع من جديد مع أنظمة أقرب إلي مواقفها في بعض النقاط – خاصة أن موسكو ضد أي تحرك "ديني" أو دعم أي فصائل من "الإسلام السياسي" في الشرق الأوسط. وهو ما برز علي مسرح سوريا، فقد دعمت موسكو نظام "الأسد" حتي يومنا هذا، ومنعت الولاياتالمتحدة من شن هجوم جوي ضد أهداف الجيش النظامي في أعقاب استخدام الأسلحة الكيمائية ضد الشعب السوري. ففي بداية الأمر كان هذا الموقف محل استياء وسخط من الدول العربية، وعلي رأسها دول الخليج "المحور السني"، والتي رأت أن "بوتين" يساعد النظام الشيعي في سوريا ويتعاون مع إيران في المجال العسكري. ولكن في أعقاب الخلاف السعودي والمصري مع السياسات الأمريكية أصبحت موسكو محل ترحاب من السعودية، وتوسطت لتمويل صفقة أسلحة للجيش المصري. سعت روسيا من خلال دعم نظام "الأسد" تأمين مصالحها، فقد استطاعت لأول مرة منذ القرن الماضي أن يكون لها قاعدة مطلة علي البحر المتوسط، واستخدمت ميناء طرطوس السوري كقاعدة لها، وأملت أن تمنحها مصر أيضا قاعدة عسكرية علي البحر المتوسط، فتكون بمثابة الذراع الطويلة لها في المنطقة. خاصة في ظل قلق موسكو المتنامي من أن نظام "الأسد" لن يدوم طويلا. إذا فعودة الدب الروسي من جديد لمنطقة الأحداث "الشرق الأوسط" يخلق واقعا استراتيجيا جديدا علي الساحة، وهو ما يلقي بظلاله علي المستقبل القريب في ظل التباعد العربي الأمريكي، فربما كانت هناك محاولات غربية للتقليل من روع الذين انتابتهم مخاوف انتهاء شهر العسل بين واشنطن وبلدان العالم العربي، لكن في الحقيقة هناك مخاوف أخري لا تستطيع التصريحات وحدها التخفيف منها، لذلك تراقب إسرائيل دائما الوضع عن كثب حتي تكون علي استعداد لأي سيناريو جديد قد يطرح نفسه علي الساحة.