شيء ما كان يدفعنى لعدم الاقتراب من ذلك المغنى الكبير الذى طبقت شهرته الآفاق، ولم أتعاطف أبدًا مع قصة مرضه وكنت أحسبها من دواعى الشهرة وأدواتها التى يستخدمها أهل الفن لجذب الأضواء إليهم.. لكننى فى الوقت نفسه لم أكن أستطيع أن أتجاهل أغنياته الوطنية المدهشة لثورة يوليو ورحلتها، رغم أننى أحيانًا كنت أعتقد أن البطل فيها صلاح جاهين وكمال الطويل، وأرى أن حليم لم يكن أكثر من مجرد برواز وفاترينة.. بل زاد الطين بلة أننى اعتبرته رجل السلطة الذى لم يستطع الدفاع عن شاعره، حينما اعتقله نظام عبدالناصر، واكتفى بأن يرسل له السجائر المارلبورو.. ظل هذا الأمر يحيرنى سنوات قبل أن أدرس الموسيقى، وأعرف بعض أسرارها، وأكتشف ذلك الكنز الكبير الذى أضافه الرجل لمسيرة الغناء فى بلادنا.. وفى كل كلمة كنت أقرأها عنه أو حكاية أسمعها.. كنت أجد ذلك الرجل الخفى اللى اسمه مجدى العمروسي. ذلك المحامى السكندرى الذى ترك مهنة المحاماة، ليصبح رفيق رحلة العندليب ورأسه الذى يفكر.. وذراعه التي تسنده وعقله الذى يدير.. وكان من الطبيعى، وأنا أعمل محررًا لشئون الموسيقى أن يجمعنى به لقاء أو أكثر.. لكننى لم أتخيل أبدًا أنه سيكون أخًا وصديقًا لى ولو لمدة يوم واحد. كان مقر شركة «صوت الفن» لأصحابها عبدالوهاب وعبدالحليم ووحيد فريد فى شارع عدلى بوسط البلد، مش مجرد مكان للتجارة.. كان أشبه بالثكنة العسكرية.. يعنى ما ينفعش تروح وتطلب تشوف حد كده.. لازم ميعاد مسبق.. ومش ممكن تتأخر عن الميعاد ده دقيقة واحدة.. ولو حكمت الظروف ورحت هتشوف العجب.. تقريبًا كل الأسماء الكبيرة فى عالم الموسيقي.. يعنى ممكن وأنت خارج من الأسانسير الحديدى العتيق تلاقى نفسك وش كده مع عمنا محمد الموجى، وهو خارج زعلان عشان العمروسى مرضيش يزود أجره.. أو أن الست نجاة موجودة جوه.. فمفيش حد يقدر يعدى قدام الطرقة.. أو أن الأبنودى قالبها مسخرة فى أوضة عم ممدوح المدير الإداري!! أو أن المخرج الكبير حسين كمال مش عارف بيعمل إيه.. لم تكن مجرد شركة، بل عالم موسيقى كامل إن دخلت إليه فقدت نصف عقلك.. ولن تسترده بسهولة. فى تلك الفترة أصدر مجدى العمروسى كتابًا عن عبدالحليم أسماه «أعز الناس».. ونفدت طبعته الأولي.. وكتبت عن «الكتاب» وعن الرجل الذى كتبه.. وفوجئت فى الطبعة الثانية بمقالى مضافًا إلى الكتاب وبرسالة رقيقة من الرجل.. وطلعت فى دماغى أعمل الكتاب مسلسلًا للإذاعة.. وذهبت لأحصل على موافقة العمروسى «كتابة».. ولم يستغرق الأمر دقائق.. وهذا الأمر زاد من حيرتي.. المهم كتبت حلقتين وسلمتهما للمخرج ثروت رضوان أو لنجوى أبوالنجا باسم «عصفور الشتا» واتصلت بعم مجدى لأخبره أننى أريد أن أسمعه صوتًا جديدًا.. وحدد لى الموعد.. وبمجرد أن انتهى من سماعه، وكان معى الموسيقار فاروق الشرنوبي.. أرسل فى طلب نسخة من عقد أصالة كانت قد وقعت مع الشركة ألبومها الأول وأخبرنى أنه سيتعاقد مع أسامة الشريف بنفس الشروط.. وسألنا ماذا تريدون غير ذلك؟.. وكان الرد «الاستديو وفرقة أمير عبدالمجيد».. وكان أن سجلنا أغنيات ألبوم «مجنون بعشقك».. وفوجئت أن الرجل لم يبخل أبدًا فى أى شيء طلبناه.. بل العكس.. حينما قررنا أن يشارك أسامة فى حفل أضواء المدينة.. أرسل السائق الخاص به ليكون تحت أمره.. وأرسل من منزله طعامًا مسلوقًا.. وصحيًا حتى لا يأكل مطربه ما يتعب صوته.. وأرسل صورًا ومادة صحفية لكل الصحف.. وحدد مواعيد مع مخرجين كبار لاستضافته فى برامج.. والأهم.. أنه لم يكن يغيب لحظة واحدة ليسأل عن «البرد».. و«الكحة».. والسهر. وقتها عرفت لماذا نجح عبدالحليم.. هذا الرجل البدين - كان يمشى على عكاز فى أيامه الأخيرة.. الذى يذهب للمستشفى ومنها إلى المكتب، ثم إلى الاستديو.. هو «كلمة السر» التى صنعت ذلك المجد الذى لازم عبدالحليم ولا يزال. المهم أننى كنت قد كتبت أغنيتين فى ألبوم أسامة، وبما أننى كنت قد قدمته للرجل، فلم أنتظر أن أحصل على أجر.. وكنت أعتبر مجرد مشاركة الأبنودى فى الألبوم مكسبًا ندفع نحن فيه فلوس.. ولأننى تعرضت لفترة سجن استمرت 8 شهور.. لم أكن أتوقع أن يسأل العمروسى عني.. لكنه عرف من الأبنودى ذلك.. وحينما أرسلت الزميل خالد حنفى - رئيس تحرير مجلة الإذاعة حاليًا - إليه أطلب مجموعة من الشرائط.. فوجئ خالد بأن الرجل يخبره بأن الشركة مديونة لي.. وأنه يحتاج إلى توكيل منى له ليصرف له أجري.. وفوجئ خالد بالرجل يمنحه أجرى وكرتونة شرائط ويخبره بأنه تحت أمره فى أى وقت «لو عُزت» أو هو أحتاج إلى أى شيء.. وأن محاميه الشخصى جاهز فى أى وقت. وحينما سمحت ظروفى بأن أذهب إليه بعدها لأشكره.. فوجئت به يقول لي: «أنا أول مرة شفتك أنت وأسامة داخلين عليَّ.. افتكرت حليم وعبدالرحيم منصور». وتعب العمروسي.. واختلف شركاء «صوت الفن»، ودخل الورثة فى نزاعات قضائية.. وفرضت الحراسة عليها.. لكنه ظل حتى آخر يوم.. وفى كل عيد ميلاد.. أو وفاة للعندليب.. يحتفى بذلك لدرجة أنك كنت تشعر أن العندليب موجود بيننا.. أخبار جديدة.. وذكريات تنشر لأول مرة.. وأسرار لا يعرفها أحد.. يمكنك مثلًا أن تتذكر واقعة مفيد فوزى وزوبعته الخاصة بزواج العندليب من سعاد حسني.. وفى كل مرة يخرج من صندوق العمروسى الأبيض ما لا تستطيع الصحافة والتليفزيون أن تتجاهله. فجأة غاب العمروسي.. فغاب عبدالحليم.. ولم نعد نحتفل بذكراه كما كان يحدث.. وأغلقت «صوت الفن» وحاول محسن جابر إنقاذ ما تبقى بشراء «حصة أصحابها».. لكن شيئًا كان قد انطفأ.. ولم يعد المبنى المواجه لسنترال عدلى يصدر أنغامًا.. ارتفع ضجيج السيارات القادمة من القبة حتى لم يعد ينافسه سوى صوت الأسانسير الحديدي.. غاب العمروسي.. لكن صندوقه الأبيض ما زال يحتفظ بالكثير.. لكننى لا أعرف قطعًا أن ترك العمروسى مفتاحه!