يوم بدا ثقيلا ومزعجا، يخرج زفيرا بطيئا متقطعا من بين شفتيه، بعد أن يحبس شهيقه، حتى تمتلئ رئتاه بهواء مشبع باليود والأكسجين، بينما هو على حاله، لمح بطرف عينه عربة قد توقفت أعلى التلة الرملية، حيث ربط حصانه البخاري، عندما اقتربت قدماه المنغرستان في رمال ناعمة طرية، و أصبح بمحاذاته، وإذ بفتاة يافعة، ممشوقة القوام، تتهدل خصلات شعرها، فينساب من أسفل منديل رأسها، تلاعبها نسمات ريح حانية، بالرغم من سطوع ودفء شمس نهار متميز من يناير، تترجل من تلك العربة، تعانق بكفها شابا، بشعره الكثيف الأسود، وبملابسه الأنيقة، تجاوزهما بمشيته المسرعة، كان بين الفينة والأخرى يبسط ذراعيه بمحاذاة كتفيه، ويحركهما إلى أعلى، وإلى أسفل، معبئا صدره بالهواء، حتى ينتفخ كبالون تضيق به ضلوعه، قبل أن ينفثه ببطء من فمه، فيحس براحة واسترخاء يبحث عنهما منذ استيقاظه هذا الصباح بمزاج معكَّر، وهواجس من ذكريات تتساقط عليه تباعا، يحاول إبعادها دون جدوى، فسارع دون تردد نحو ملجئه الوحيد في مثل هذه الحالات، هذا الأزرق الممتد كعادته إلى ما لا نهاية، متلاطم الموج، بزبده الأبيض، لكنه يخلو من رواده وعشاقه على مر الأزمان، فنحن في منتصف يناير، إلا من بضع هواة صيد السنارة، يتراءون من بعيد بجانب كتل صخرية خضراء معشوشبة بريم البحر . التفت ساقاه، تساعده حركة من ذراعين منبسطتين بانفراجه كاملة، وبحركة بهلوانية متعمدة، عاد أدراجه من حيث انطلق، اقترب شيئا فشيئا، حتى أصبح بمحاذاة حصانه البخاري، ولا تزال تلك العربة التي ظهر لونها الرصاصي بوضوح، جاثمة على مقربة منه، جال ببصره، يتفحصها من داخلها، لم يكن هناك أثر لأحد، وحيث الشاطئ الممتد من حوله، يداعب أحزانه على عشاقٍ قد غابوا عنه، وتركوه وحيدا، مما زاد من حيرته وفضوله، فقد تذكر أحد مشاهد تلك الافلام الخيالية، ثم اختفت بلمح البصر، ابتسامة حاولت أن تخرج من بين أسنانه، ولكنها لم تفلح . التقط مفاتيح موتوره من جيبه، وهمَّ بتجهيزه للانطلاق، لكن شيئا ما جعله يتمهل قليلا، فسار بضع خطوات يتفحص الشاطئ البكر، لآخر مرة، بفضول أدهشه على غير عادته، وبحركة لا إرادية، لطم جبهته بكفِّ شماله، حين لاحظ خيمة أسفل التلال الرملية، وعلى الجانب الآخر منها، وقد أغلقت جميع منافذها، فأدار موتوره بهدوء وخبرة، دون أن يسمح بخروج ضجيجه المعتاد، متسللا من المكان كي لا يزعج عشاق البحر، وما إن ابتعد بمسافة حتى ركن جانبا، وبيساره التقط خوذته، واعتمرها بإصرار، وقد لمعت عيناه وأوقدت بريقا، فقد مضى عليه زمن لم يضعها على رأسه كعادته، لكنه في هذه اللحظات، ومع استيقاظ ذكرياته الممتدة عبر أكثر من عقدين، وعلى امتداد طريق الساحل، قرر أن يسابق الريح، ممتطياً جواد حريته !.