كما يصنع الأديب شخصيات روايته، هُناك كذلك شخصيات تصنع مجدها من قلب الرواية، تخرج لتُصبح مثالًا يتحدث عنه الناس كأنهم عاشوا بينهم، يحفظون جُملهم الحوارية وكأنهم سمعوها، يذكرون مواقفهم ويتجادلوا عليها حتى يحسب الجالس أنهم كانوا معهم. هذه الشخصيات فرضت وجودها على الواقع حتى كادت تصير ملموسة، ومنها.. الجبلاوي.. "هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خرب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي، كان رجلًا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره".. هكذا وصف نجيب محفوظ بطله في "أولاد حارتنا"، الرجل الذي جاء من الخلاء ليُنشئ الحارة، وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها، قال محفوظ في وصفه على لسان باقي أبطاله "يبدو بطوله وعرضه خلقًا فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط"، وأنه "كان فتوة حقًا، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيمًا". كان غموض شخصية الجبلاوي، خاصة مع سرد أحداث الرواية، فتح بابًا من التكهُنات حول الإسقاط الذي أراده محفوظ في عالم الواقع، فرأى البعض الجبلاوي بجبروته وعدله، وخلوه من النقائص يُمثّل الذات الإلهية، خاصة أن أحداث الرواية التي تُمهد للشخصيات الأخرى بدءًا من اعتزاله في بيته لا يفارقه، وأنه لم يعد يسمع شكوى الحرافيش، ويتجاهل ظُلم الفتوات، وتكليفه كل فترة واحدًا من أبناء الحارة بأن يُدير الوقف لصالح الناس، وأن يتخلص من الفتوات الجبابرة الذين عاثوا في الحارة فسادًا، كل هذا تقاطع مع قصص الأنبياء، ليؤكد البعض أنه كان يقصد هذا المعنى. وهناك من قال إن الرواية لها تأويل سياسي، فالجبلاوي يمثل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأن الرواية تُحاكم خطايا الثورة، بل اتسعت الفكرة باعتقاد أن موت الجبلاوي في النهاية نبوءة بمقتل عبدالناصر. وربما كان الجبلاوي كما يرى البعض رمزا لفكرة الدين داخل الإنسان، وأن ظهور شخصية عرفة يرمز للعلم، وأن قتله الجبلاوي، وندمه على ذلك وإصابته بالاضطراب وعدم التوازن، هو دليل على الصراع الفكري الحاد الذي شهدته تلك الفترة بين العلم والدين. بدأت أزمة الجبلاوي في صباح 21 سبتمبر 1959، عندما نشرت جريدة الأهرام الفصل الأول من رواية "أولاد حارتنا" عندما فوجئ الكاتب محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام آنذاك، باتصال هاتفي من الرئيس عبدالناصر بنفسه يسأل عن الرواية، التي ارتفعت أصوات غاضبة كثيرة تطالب بمنعها، فتم تشكيل لجنة في وزارة الأوقاف سمّت نفسها "الدفاع عن الإسلام"، ضمّت الشيخين محمد الغزالي وسيد سابق، ومعهم الكاتب المصري سليمان فياض، وقد حكمت اللجنة على الرواية من منظور ديني، حيث اعتبرت أن الشخصيات الرئيسية من نسل الجبلاوي يُمثلون الأنبياء، وافترضت أن الجبلاوي يمُثل الذات الإلهية، كذلك كان الجبلاوي هو السبب في محاولة اغتيال محفوظ عام 1995، حيث طعنه أحد المنتمين للجماعات الإسلامية في رقبته على أساس تكفيره، بسبب كتابته لهذه الرواية.