في ثنايا صفحات الرواية العربية، ظهرت شخصيات خيالية تم تخليدها في أذهان القراء، إما بفضل الخصائص المميزة لبعضها أو نظراً لعوالم الرواية التي ظهرت فيها أو لأن بصمة السينما قد حفرتها في قلوب المشاهدين فيما بعد.. أياً ما كان السبب، فقد اخترنا لكم عشر شخصيات خيالية لن نكون مبالغين لو قلنا إنها الأفضل، قد يختلف معنا البعض في تقييم هذه الشخصيات، لكن سعينا أن نبين سبب اختيار كل شخصية ضمن الملف الذي نقدمه لك عزيزي القارئ، حيث كل أسبوع شخصية، ولكل شخصية حدوتة.. الجبلاوي يزعج عبد الناصر: ظهر (الجبلاوي) لأول مرة، عندما فوجئ قرّاء جريدة الأهرام العريقة بنشرها للفصل الأول من رواية (نجيب محفوظ) الجديدة في صباح 21 سبتمبر 1959، وكان واضحاً أن رواية (أولاد حارتنا) لن تمر على خير؛ إذ لم يمضِ شهر ونصف على النشر حتى فوجئ (هيكل) -رئيس تحرير الأهرام آنذاك- باتصال هاتفي من الرئيس (عبد الناصر) شخصياً يستعلم عن الرواية، حيث ارتفعت أصوات غاضبة كثيرة تطالب بمنع الرواية. وتشكلت لجنة في وزارة الأوقاف سمّت نفسها (الدفاع عن الإسلام) ضمّت الشيخين محمد الغزالي وسيد سابق، بالإضافة إلى الكاتب المصري سليمان فياض، وقد حكمت اللجنة على الرواية باعتبار التأويل الديني؛ حيث اعتبرت أن الشخصيات الروائية (أدهم وجبل ورفاعة وقاسم) يمثلون الأنبياء الكرام (آدم وموسى وعيسى ومحمد) عليهم السلام، بينما افترضت أن (الجبلاوي) يمثل الذات الإلهية، والطريف أن هذا التأويل راعى جهة الإدانة للرواية دون أدنى اعتبار لرأي المؤلف فيها! فيما بعد، وتحديداً عام 1994، سيتم طعن (نجيب محفوظ) في رقبته على أساس تكفيره؛ بسبب كتابته لهذه الرواية، وسيزور الشيخ الغزالي كاتبنا الكبير في المستشفى أثناء علاجه، وسيكون حريصاً على أن يمسك العصا من المنتصف كما هي عادته، فاغتيال محفوظ (جريمة لا يقرها شرع ولا دين)، أما إعادة نشر جريدة الأهالي للرواية عقب حادثة الاغتيال فقد علق عليه بقوله: (السموم أيضاً تنشر خلسة والناس تقبل عليها). ومن المعلومات المغلوطة أن (محفوظ) حاز على جائزة (نوبل) للآداب بفضل رواية (أولاد حارتنا)، فنادراً ما يحوز أي مبدع على هذه الجائزة بفضل عمل واحد، والواقع أن الأكاديمية السويدية عند إعلانها حيثيات فوز كاتبنا الكبير بالجائزة عام 1988، قد نوّهت بالرواية فقط، بالإضافة إلى ثلاث روايات أخرى.. إن كل هذا اللغط المثار حول الرواية، وحول تأويل شخصية (الجبلاوي) تحديداً، جعلها من أكثر الشخصيات الخيالية انتشاراً على الألسنة في وطننا العربي، لكن هذا وحده ليس سبب عظمتها.. من هو الجبلاوي؟! (الجبلاوي) هو البطل الأساسي لرواية أولاد حارتنا، وهو من أكثر شخصيات (محفوظ) هيبة وغموضاً، فهو من أنشأ الحارة التي شهدت جميع أحداث الرواية، وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها، يصفه (محفوظ) في روايته بالآتي: - "هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خرب ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي، كان رجلاً لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره". - "كان فتوة حقاً، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيماً". - "وهو يبدو بطوله وعرضه خلقاً فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط". - "وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء، وأنهم حياله لا شيء". إن هذه الأوصاف وغيرها لتكشف عن ملامح الجبلاوي، لكنك تظل أمام صورة عامة مهيبة، ترك لك (محفوظ) ملْأها بخيالك، فهو لم يتعمق في ملامحه الجسدية إلا بذكر طوله الجبار وقوته الرهيبة وصوته العميق، لا يكاد يظهر فيه عيب، سوى أن الناس يعتقدون أنه معتزل في بيته لا يفارقه وأنه لم يعد يسمع شكواهم ومظالمهم، لكنه يخالف ظنونهم بأن يكلف كل فترة واحداً من أبناء الحارة بأن يدير الوقف لصالح الناس وأن يتخلص من الفتوات الجبابرة الذين عاثوا في الحارة فساداً.. وهذا الغموض الذي يكتنف الشخصية أتاح الكثير من التقاطعات التي يمكن تأويلها على نواحٍ مختلفة، فمن الناس من أصرّ على أن الجبلاوي بجبروته وعدله وخلوه من النقائص يمثل الذات الإلهية قطعاً، خاصة أن الأحداث التي تجري للشخصيات الأخرى في الرواية تتضافر مع الحقائق التاريخية والدينية التي جاءت في سيرة الرسل الكرام، ومن الناس من ادّعى أن الرواية لها تأويل سياسي، فالجبلاوي يمثل (عبد الناصر) والرواية تحاكم خطايا الثورة، بل إن مقتل (الجبلاوي) في النهاية هو تنبؤ بمقتل الرئيس في نهاية المطاف! وأنا أتفق مع من ذهب إلى أن (الجبلاوي) رمز لفكرة الدين داخل الإنسان، وأن ظهور شخصية (عرفة) -حيث إنها رمز للعلم- في نهاية الرواية، وقيامها بقتل (الجبلاوي) ثم ندمها على ذلك وإصابتها بالاضطراب وعدم التوازن، دليل على الصراع الفكري الحاد الذي شهدته تلك الفترة بين العلم والدين.. المادة والغيبيات.. معجزات التكنولوجيا والمعجزات الروحانية، وهو صراع نشهد تطوراته الآن بين أقطاب العلمانية ومناصري التدين. ولو أننا تأملنا فكرة الرواية جيداً، لوجدنا الحل الشافي لهذا الصراع، فالإنسان لا يمكن أن يستقيم إلا بمصالحة العلم مع الدين، فإذا ما ظل يرى جوانب الاختلاف بينهما دون أن يرى جوانب الاتفاق فلن يتمكن الإنسان من بناء مستقبله إلا على حساب عقله أو سلامه النفسي، وهو ما حدث لعرفة، فعندما أدرك أن (الجبلاوي) قد سامحه، امتلك القدرة على مجابهة فتوات الحارة وأن يحمل أهلها على مناصرته ضد الظلم والجهل. هذا هو (الجبلاوي) ببساطة، رمز الاعتدال والوسطية، وهو الذي سنقضي عمرنا كله نبحث عنه دون أن نستطيع العثور عليه! على الهامش: • يؤمن البعض أن قصة (زعبلاوي) في مجموعة (دنيا الله) هي شهادة الميلاد الأصلية لشخصية (الجبلاوي). • رغم صدور قرار بمنع نشر الرواية في الأهرام، إلا أن (هيكل) أصر على استكمال النشر حتى صدور الحلقة الأخيرة من الرواية. • مع كل الضجة التي صدرت حول (أولاد حارتنا) والتأويل الديني للرواية، تجاهل الجميع قصة (التنظيم السري) والمنشورة في مجموعة قصصية بنفس الاسم، وهي لمحة عبقرية من أستاذنا الكبير الذي عبّر عما يريد أن يقوله في رواية ضخمة ممنوعة من النشر من خلال قصة قصيرة لا تسترعي انتباه الكثيرين!