مثير للانتباه إلي حد كبير هذا التجاهل الذي أبدته أسواق المال الدولية للتعهدات التي وردت في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش بشأن التزامه بإجراء إصلاحات مالية مهمة خلال الفترة القادمة، تتضمن الاصلاحات خفض العجز في الميزانية الأمريكية إلي النصف بحلول 2009 والسيطرة علي عجز الحساب الجاري الذي ارتفع إلي 164 مليار دولار في الربع الثالث من العام المالي، وخلال اليومين التاليين لخطاب حالة الاتحاد أحد أهم الخطابات التي يلقيها الرئيس الأمريكي كان أداء الدولار متوترا ولم يكسب أكثر من بنط واحد ليغلق الأسبوع الماضي عند 129.72 سنتاً مقابل اليورو، وعلي 103.25 ين مقابل الدولار وهو أداء أقل من المتوقع بعد التعهدات الحاسب التي أبداها الرئيس الأمريكي والتي كان من شأنها بلا شك دعم الدولار. الجانب الاقتصادي في خطاب بوش كان موحيا وتضمن كثيرا من التفاصيل التي تشير إلي المضي قدما في سلسلة من البرامج المتعلقة بترشيد الانفاق الحكومي الأمريكي علي نحو يرضي المراقبين الذين هالهم وصول العجز في الميزانية الأمريكية المقترحة لهذا العام إلي 427 مليار دولار علي الرغم من أن هذا العجز لا يزيد علي 2.4% وهو أقل علي أية حال من العجز في الميزانية الالمانية أو الفرنسية وبعض الدول الأوروبية المهمة مع عدم إهمال الفارق بالطبع، وقد يقال إن هذه ليست المرة الأولي التي تتحدث فيها الادارة الأمريكية عن نيتها خفض عجوزاتها في الميزانية والحساب الجاري غير أن هذه كانت أوضح نبرة سياسية تم بها تناول الأمر وظهر تضامن الكونجرس مع الرئيس في هذا التوجه الذي يهتم به العالم كله لأن الاقتصاد الأمريكي يمثل الآن 22% من حجم الاقتصاد العالمي وحركته وعملته تؤثران علي الجميع وليست شأنا داخليا للولايات المتحدة بأي حال. ولم يكن هذا هو التطور الوحيد بشأن الدولار الذي تجاهلته الأسواق العالمية الأسبوع الماضي ففي يوم الاربعاء أعلن المجلس الاحتياطي الفيدرالي رفع الفائدة علي الدولار ربع نقطة مئوية لتصل إلي 2.5% وليتسع الفارق بين فائدة الدولار واليورو إلي نصف في المائة لصالح الدولار وهو فارق كبير بالمعايير النقدية وكان من شأنه أن يحدث أثره في رفع قيمة العملة الأمريكية خاصة وأن هذا الرفع اقترن بتصريح لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آلان جرينسبان يدعم فيه مصداقية الحكومة حول توجهها للحد من عجز الميزانية والحساب الجاري، ومعروف أن تصريحا لجرينسبان يؤدي فورا لتحريك الاسواق هبوطا أو صعودا ولا ننسي أن الدولار تدهور إلي 135 سنتا لليورو بعد تصريح أطلقه قبل شهرين أبدي فيه قلقه من تفاقم العجز الجاري. كما تجاهلت الأسواق الاسبوع الماضي تقريرا مهما ولافتا أصدرته مؤسسة موران ستانلي توقعت فيه ارتفاع الدولار وذكرت أن العملة الأمريكية مقومة حاليا بأقل من قيمتها بنسبة تصل إلي 19.7% مقابل اليورو هذا التقرير يأتي داعما لتصريحات وردت علي لسان المسئولين في البنك المركزي الأوروبي ورؤساء كبار كشيراك وشرودر الذين عبروا عن سخطهم مرارا بسبب تدهور الدولار المستمر وأثره علي اقتصاديات أوروبا والعالم ومع ذلك فإن استجابة التعاملات لكل هذه الاشارات جاءت ضعيفة علي نحو غريب.. حتي الآن. الحديث عن الدولار الضعيف وأسبابه بات مملا ولا شك أن هناك مبررات حدثت وكانت وراء هذا الضعف والحديث حوله ولا شك أن هناك طرفا رابحا في هذا الوضع ولا شك أن الاقتصاد الأمريكي كسب كثيرا من تدهور العملة غير أن استمرار هذا التدهور لم يعد في صالح أحد بعد المستويات التي بلغها وهو أيضا لم يعد في صالح الولاياتالمتحدة نفسها وهذا ما نوه إليه الخبراء والسياسيون مؤخرا ويبدو الآن أن الأهداف الأمريكية من وراء ترك الدولار القوي يضعف قد تحققت وأننا ندخل الآن في مرحلة تسعي فيها الإدارة الأمريكية إلي استعادة بعض ما فقدته عملتها منذ عام 2003 والذي خسر فيه الدولار 26% من قيمته وأدي أيضا إلي خسائر بالمليارات لمستثمرين وبعشرات المليارات لدول تربط عملتها بالدولار الأمريكي وكما أن تدهور الدولار كانت له خسائره الرهيبة فإن التوجه المعاكس - إن صح أنه بدأ الآن - سوف تكون له خسائره التي يجب التحسب لها خاصة فيما يتعلق بالمديونيات بالعملة الأمريكية بين الدول النامية والفقيرة والتي ستتكبد الآن خسائر دفع فائدة أكبر عن مديونياتها تبعا للتوجه الحالي نحو رفع أسعار الفائدة الأمريكية. وتشير التكهنات إلي أن الفائدة علي الدولار سوف تواصل ارتفاعها لتصل في نهاية العام الحالي إلي 4.25% وهو معدل مرتفع جدا مقارنة بأسعار الفائدة السائدة حاليا بين العملات الرئيسية وسوف يكون لهذا التوجه مزاياه بالنسبة للدول المرتبطة بالدولار كما سيكون له خسائره أيضا فيما يتعلق بالديون والتجارة .. ما العمل ومقادير العولمة فرضت علي الذين لا ناقة لهم ولا جمل دفع غرامات باهظة لألعاب السوق الدولية التي تدور بين الديناصورات ويديرها الحيتان في صراع حديث وغير مسبوق في التاريخ ومع ذلك فإن أمواجه وتقلباته تدفع الاسماك الصغيرة إلي خارج حدود الأمان!