قد يعتقد البعض أن الاضطراب الاقتصادى الذى تشهده أوروبا يبعث برسالة عاجلة إلى الجدل الدائر فى أمريكا بشأن الميزانية. فالعجز المالى والديون الحكومية الكبيرة هى، قبل كل شىء، المصدر الأساسى لمشكلات أوروبا، وهى المشكلات نفسها التى ابتليت بها الولاياتالمتحدة. لكن هذا غير صحيح. فمعظم الأمريكيين، بدءا من الزعماء السياسيين، لا ينظرون إلى ما يحدث فى أوروبا بوصفه دراما أوروبا ذات صلة بأوضاعهم بصورة أو بأخرى. ويتحاشى الأمريكيون بحزم الدخول فى حوار واقعى حول الدور المطلوب من الحكومة. ما حجم هذا الدور؟ وهل عليها أن تحابى كبار السن أم الشباب؟ وهل يكون الإنفاق الاجتماعى على حساب الإنفاق العسكرى؟ وهل الحكومة الأكبر حجما تحد من النمو الاقتصادى من خلال العجز الأكبر أم الضرائب؟ لا أحد يشارك فى هذا الجدل، لأنه إذا أدير بحماس فسيخيب آمال الليبراليين والمحافظين على حد سواء. فى مواجهة الزيادة الضخمة فى الإنفاق التى تعكس حالة تكاليف السكان المسنين وأعباء صحية مرتفعة على الليبراليين الإقرار بضرورة تقليل المساعدات والإنفاق. ومع إدراكهم لضرورة ارتفاع إجمالى الإنفاق الحكومى حتى بعد هذه التخفيضات (سيتلقى عدد أكبر من الناس المساعدات، حتى لو انخفضت مستويات المساعدات)، فعلى المحافظين الإقرار بالحاجة إلى فرض ضرائب أعلى. وسيتعالى صراخ المؤمنين الحقيقيين من اليسار واليمين على حد سواء. إن غياب الجدية تحدده كلمتان مفقودتان: «موازنة الميزانية». فهما كلمتان محرمتان. فى فبراير الماضى، شكل الرئيس أوباما الكونفدرالية الوطنية للمسئولية المالية والإصلاح (ولنطلق عليها مفوضية العجز). ومهمتها هى اقتراح الإجراءات التى من شأنها خفض العجز إلى مستوى «أسعار فائدة الدين» فى فبراير 2015، «لتثبيت نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى عند مستوى مقبول». هل فهمتم شيئا؟ كلا. حسنا، ليس مفروضا أن تفهموا. فكل الجلبة المثارة حول تثبيت «نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى» ومعالجة مدفوعات الفوائد هى مجرد أمثلة من لغة الميزانية. وهى لغة «خبراء»، تستخدم فى تخفيف حدة الجدل وإقناع الناس بأن «هناك شيئا يُنجز»، فى حين أنه يجرى إنجاز القليل أو لا شىء. وعلى سبيل المثال، يهدف أوباما إلى الوصول بالعجز فى 2015 إلى نحو 500 مليار دولار، برغم افتراض التعافى الاقتصادى التام (نسبة البطالة: 5.1%). ويفترض أيضا أن «تقدم المفوضية توصيات تحسن بشكل معقول من الأوضاع المالية على المدى الطويل، بما فى ذلك إحداث تغييرات فى مواجهة استحقاقات الإنفاق المتزايدة»، وتحقيق وصاية لينة. لكن لا حديث بالفعل عن الوصول إلى ميزانية متوازنة. وفى قاعات الدرس، من الممكن الدفاع عن الحد من نسبة الدين الحكومى إلى إجمالى الناتج المحلى. وتكمن الفكرة فى طمأنة المستثمرين (يعرفون أيضا ب «أسواق المال») بأن عبء الدين لن يزيد وأن الإقراض سيستمر بأسعار فائدة منخفضة. لكن هذا المنطق غير ممكن عند التطبيق. فمن المحتم أن تواجه الحكومات الركود الشديد، أو الحروب، أو غير ذلك من الحالات الطارئة التى تستدعى اقتراض مبالغ ضخمة. ولتثبيت الدين بالنسبة لإجمالى الناتج المحلى، علينا خفض الدين بنسب أكبر فى الأوقات المواتية، ما يعنى ضرورة موازنة الميزانية (أو تحقيق فوائض محدودة) بعد تعافى الاقتصاد من الركود. ومن المثير للاهتمام، أن التجربة الأوروبية تكذِّب إمكان تحقيق التوازن بين الدين وإجمالى الناتج المحلى. فقد كان من المفترض أن تلتزم البلدان الستة عشر فى منطقة اليورو بالوصول بالدين إلى 60% من إجمالى الناتج المحلى. وقبل الأزمة المالية، اختلت هذه النسبة بصورة كبيرة. ففى الفترة من 2003 2007، بلغت ديون ألمانيا 66% من إجمالى الناتج المحلى، بينما بلغت هذه النسبة 64% فى فرنسا، و105% فى إيطاليا. وعندما حلت الأزمة، قفزت نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى؛ وبحلول 2009، أصبحت هذه النسبة 73% فى ألمانيا، و78% فى فرنسا، و116% فى إيطاليا. وتتمثل فضيلة توازن الموازنة فى أنها تدفع الناس إلى حساب فوائد الحكومة مقارنة بأعبائها. وهو معيار بديهى يتوصل إليه الناس بحدسهم. وإذا كانت مفوضية العجز جادة فيجب أن تحدد لنفسها هدفا هو وضع ميزانية متوازنة فى 2020، حتى تتيح مهلة لتقليل الفوائد وزيادة الضرائب. وعليها أن تدعو مؤسسات البحث (من مؤسسة هريتيدج فى اليمين إلى مركز أولويات الموازنة والسياسة فى اليسار) وجماعات المصالح (من غرفة التجارة إلى الجمعية الأمريكية للمتقاعدين) لتقديم الخطط لبلوغ هذا الهدف. ويمكن لرؤاها المتنافسة أن تكون نقطة انطلاق لحوار تأخر طويلا حول دور الحكومة. ويبدو أن الخلافات تحول دون هذا؛ فمفوضية العجز تعمل على معالجة العلاقة بين الديون وإجمالى الناتج المحلى وتستهدف تحقيق «توازن أولى» (مستبعدة تسديد الفوائد)، لأن هذا أسهل سياسيا. ولنأخذ هذا فى الاعتبار. ففى عام 2020، سيكون العجز 1.254 تريليون دولار فى ظل إنفاق يبلغ 5.67 تريليون دولار، كما يتوقع مكتب الموازنة بالكونجرس. ويتطلب سد الفجوة زيادة الضرائب بمقدار كبير للغاية أو خفض الإنفاق بصورة كبيرة. لكن يدخل فى هذا العجز مبلغ 916 مليار مخصصة لتسديد الفوائد. وتجاهلها «يحل» على الفور ثلاثة أرباع المشكلة. إن فحوى الرسالة التى توجهها أوروبا هو أن هذا النهج أثبت فشله التام. وتظل المراوغات الرائعة من الناحية الفكرية مراوغات. وبرغم أن الأسواق المالية قد تتغاضى لسنوات عن اقتراض الحكومة، فإن الثقة يمكن أن تتبدد بصورة غير متوقعة. فيتراجع المقرضون أو يصرون على معدلات فائدة قاسية. وعندها، ستفرض ضغوط الأسواق تقشفا صارما، فخفض الفوائد أو زيادة الضرائب أشد قسوة مما قد تضطر الحكومات إلى فرضه من جانبها. ونحن قريبون من هذا المصير بسبب الجمود وخداع النفس.