أثق ان حصول د. احمد عكاشة علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم هو نوع من تكريم العلم لنفسه، لان احمد عكاشة شرب اغلب آلامنا ولم يسمح لها ان تهزمه، بل اصر علي ان يضع عبر مشوار العمر طريقا للخلاص من تلك الآلام لا لنحيا مخدرين او منفصلين عن الواقع، ولكن لنعيش ونحن نملك جسارة هزيمة الكروب وتحويلها الي طاقة من الحيوية تدفعنا الي تطوير الحياة بذاتها. ولقد احسن ابراهيم المعلم حين اعاد طباعة كتاب "ثقوب في الضمير" الذي كتبه د. عكاشة كي يكشف لنا امراضنا غير المرئية، والتي نلمس آثارها المدمرة او المعوقة في حياتنا وجاء اصدار الكتاب مرافقا لفوز د. عكاشة بجائزة الدولة. وحين ارقب رحلة الرجل عبرصداقة من عمر طويل ومديد بإذن الله لكل منا فأنا اجد الابتسامة تمر علي عديد من المشاهد الحيوية، تبدأ من محاولة د. عكاشة لازالة غبار عدم التقدير للمريض النفسي ومحاولة شرح الحقيقة التي نهرب منها جميعا حين نظن ان "غيرنا" هو المريض بينما نجيد نحن اخفاء آهاتنا واوجاعنا النفسية وكشف د. عكاشة ببراعة عن حقائق الحياة نفسها بما فيها من كروب ثم تركنا ونحن نتأمل جسارته في عملية الكشف تلك ليدخل في رحلة لفحص المخ البشري ومحاولة معرفة اسرار تلك المادة الهلامية ذات التعاريج والممتلئة بكهرباء موسيقية وتدير حياة اي كائن بشري، وتحفظ له الخبرات ونقيس من خلالها درجات ذكاء الانسان ومشواره مع قدره الشخصي. وبينما هو يقوم بتلك الرحلة لم ينس ان يلتفت الينا ليذكرنا بضرورة ان يشهد كل منا علي ما يمر بنا من اوجاع فليس منا بريء واحد كما اننا جميعا بشكل او بآخر ضحايا ومتهمون في ان واحد، ومهمة كتابة شهادتنا علي انفسنا وعلي العصر الذي نعيشه هو محاولة للتفريغ الانفعالي كي نعيد معرفة قدراتنا ونعيد الحسابات كي نقلل من الكروب، فنصل الي مستوي يليق بنا من جودة الحياة، لان الحياة في حد ذاتها حين تحيطها خناجر الكروب من كل جانب تفقد جدارة تسميتها باسم الحياة، فهي دون الموت منزلة، بل هي الجحيم في ذاته. واذا كانت هناك خمسة عشر عاما تفصل بين صدور الطبعة الاولي من "ثقوب في الضمير" وبين الطبعة الثانية، فمن المؤلم ان نقول ان كل ما نبه اليه احمد عكاشة لم نأخذ نحن طرقا جادة للخروج من متاهات الضياع الذي نعيشه ونتركه يحاصرنا من كل اتجاه، ويكفي ان ننظر الي مستشفي الصحة النفسية بالعباسية وما آل اليه كي نري كيفية النظر الي بعض من اهالينا الذين اصابهم المرض النفسي، وفكرت الدولة في بيع الارض المقام عليها المستشفي منذ مائة عام، لان سعر الارض طبعا مرتفع، وهي يمكن ان تكون صفقة جيدة ومتميزة، ناسين او متناسين ان المصريين هم اول من كرم المريض النفسي، لانهم ايضا اول من كرموا الانسان بالحياة اللائقة واقتراح فكرة الخلود كي يواجه بها يأس اقتراب النهاية المحتمة لكل منا وهي الموت. ويتجول قلم د. عكاشة في اوجاعنا، وتصدر الطبعة الثانية من الكتاب بعد خمسة عشر عاما، ويعود السؤال: هل كتب د. عكاشة هذا الكتاب لنقرأه ونجلد انفسنا لساعات او لحظات ثم تعود ريمة لعادتها القديمة ؟ طبعا لا. لقد كتب الرجل الكتاب شهادة منه تطلب منا ان نصلح انفسنا فهل نستطيع؟ ام نحتاج الي اعادة طباعة الكتاب بعد خمسة عشر عاما اخري لنجد نفس الاوجاع ونفس الامراض، وكأننا نؤمن بالبقاء في سجن من الاوجاع؟