شيء لا يصدق.. مصر التي كانت سلة قمح للامبراطورية الرومانية، وكانت حتي عهد الملك فاروق توزع قمحا منحا وعطايا.. الاَن تشكو فقرا في القمح، بل صار كل همها إيجاد مناطق خارج الحدود حتي تسد الفجوة الرهيبة سواء كان في كندا أو حتي السودان. ربما كانت من نتائج زيارة وزير الاستثمار د. محمود محيي الدين للسودان مؤخرا لطرح بعض المشروعات المشتركة وإجراء دراسة لزراعة مليوني فدان قمح باستثمارات مشتركة بين البلدين ورغم الارتياح الشديد لهذه الخطوة فإن البعض لايزال يتذكر الاتفاقيات السابقة التي لم تر النور ووئدت في مهدها بسبب الصراعات والنزاعات الداخلية في السودان التي أسهمت في عدم خروج مثل هذه الاتفاقيات سواء التبادل المشترك في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أو اتفاقية الحريات الأربع في الثمانينيات، بالإضافة إلي المخاوف من استخدام جزء من حصتنا المائية في زراعة هذه الأراضي. وبقراءة سريعة لتاريخ أزمة القمح التي جعلتنا نلجأ إلي السودان لزراعة القمح في أراضيها نجد أن الفجوة بلا شك مخيفة وتداعياتها أخطر كثيرا مما يتخيل كثيرون.. فالمعاناة من أزمة إنتاج القمح بدأت منذ 50 عاما، وذهبت كل الجهود الحكومية لسد هذه الفجوة سدي. فمع بداية السنوات الأولي لخمسينيات القرن الماضي كان الإنتاج يعادل استهلاك المصريين، ثم بعد يولية 1952 تم خفض سعر القمح عن الذرة، مما أدي إلي وجود تحول في النمط الغذائي، فتم الاعتماد علي القمح بشكل أساسي.. وهنا كانت الفجوة. وفي عام 1955 وصلت كميات القمح المستوردة إلي حوالي مليون طن، ومن وقتها استمر اعتمادنا علي استيراد القمح من الخارج، خاصة مع تواصل تراجع إنتاجنا المحلي، لدرجة أن نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح في عام 75 بلغت نحو 37% فقط، وكان الإنتاج المحلي ما يعادل 8.1 مليون طن فيما كان استهلاكنا 5 ملايين طن، ثم انخفض الاكتفاء الذاتي إلي 36% ثم ارتفع مرة أخري عام 79 ليصل إلي 37%. ويتوالي التراجع ليصل إلي 22% عام 1985 فيما بلغ الاستهلاك المحلي 2.8 مليون طن، وظلت هذه النسبة علي نفس المعدل لمدة 3 سنوات متتالية ثم ارتفعت إلي 26% عام 88. ومع أوائل التسعينيات قفز إلي 41% من استهلاكنا، حتي وصل إلي 45% عام ،93 ثم 57% عام ،95 وثبت حتي عام ،2000 ثم انخفض إلي 55% عام ،2002 ووصل مؤخرا استهلاكنا من القمح إلي نحو 12 مليون طن في العام. الأمل الوحيد الذي يضع عليه الخبراء في شئون القمح والزراعة هو تنفيذ مشروع مليوني فدان يتم زراعتها في السودان، حيث وقتها قد يتغير الأمر والوضع علي حد قولهم، لأن الأوضاع الداخلية غير مستقرة حتي الاَن. ربما علي حد قول عبد الرحمن خير الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية بحزب التجمع أن تنفيذ مشروع زراعة مليوني فدان علي الحدود المصرية السودانية سيحدث نقلة كبيرة في الاعتماد علي استيراد القمح من الخارج، بل توفير فرص العمل لمئات الشباب المصريين، ولكن هذا كله مرهون بالتنفيذ الفعلي للمشروع. وأضاف أن كل الخوف أن يتكرر سيناريو الاتفاقيات والمشروعات السابقة التي صادفها الفشل نتيجة الصراعات الداخلية في السودان التي كانت اللاعب الرئيسي في عدم إتمام مثل هذه المشروعات. فلانزال علي حد قوله نتذكر اتفاقية التبادل التجاري التي تمت في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ولم تخرج للنور، ثم اتفاقية الحريات الأربع "حق العمل والإقامة والتملك والانتقال" في الثمانينيات التي كان مصيرها نفس نهاية اتفاقية التبادل. فبكل تأكيد وفقا لما يراه خير نريد تكاملا اقتصاديا، ولكن هذا التكامل يتوقف علي حسن النوايا بين الطرفين، فجميع المساحات الزراعية الصالحة للزراعة بالسودان تقدر بالملايين من الأفدنة، وإذا نجح المشروع المصري الخاص بزراعة القمح في السودان فستتغير الكثير من الأمور للصالح العام المصري خاصة والعربي عامة، فالسودان تعتبر "سلة غذائية" للعالم العربي لو أحسن استغلال أراضيها. وأضاف أن إتمام مشروع قناة جونجلي الذي يواجه العراقيل بين الحين والاَخر نتيجة للنزاعات سيعمل علي توفير حصة كبيرة من المياه، حيث ستوفر أكثر من 30 مليار متر مكعب. كما أن هناك علي حد قوله مساحات شاسعة علي الحدود في وادي حلفا وأبو حمد صالحة للزراعة.