أحاول عبر أسفاري أن أغوص في المجتمعات امتداد خريطة العالم في التعاملات اليومية والقيم الأخلاقية ومعني الحرية الشخصية، ولا أفكر في الغرب بضيق أفق ظنا أن الغرب "ديسكو وعري وشواذ"، أفكر في العناصر التي جعلت من بلاد كثيرة هبت من رقدتها عقب حروب أو دمار زلازل أو أوبئة حصدت الأرواح.. ذلك ان ما أريد أن أستنبطه هو حصار الأزمة والإفلات من توابعها، ومعني هذا أن الروح لا تنكسر.. وكمصري أحمل حضارة خمسة اَلاف سنة، لا يروقني أن أعتمد علي ذلك وأنام في العسل.. نعم، لي تاريخ وحضارة ولكن ما طعم خسارة اليوم، ومانوعية سلوكنا اليومي؟ اللافت للنظر أن الفرد الأوروبي حر، يمارس حريته الشخصية دون مصادرة، ولكنه "غير منفلت".. إن المواطنة عنده عالية ولذلك يحترم دائما حدوده وحدود الدولة التي تبغي سعادته بشرط أن يؤدي واجباته المنصوص عليها والمعترف بها.. النقود مثلا، هي وسيلة لدي الدولة للتعاملات اليومية، فأنت في ألمانيا أو النمسا لا تستطيع أن تقف في وسط شارع وتحرق عشرة يورو.. غير مسموح لك بهذا، بل وتقبض الشرطة عليك، لأن الفلوس تملكها الدولة وتضخها في الأسواق حتي ولو كانت بين أصابعك أو في جيبك أو بنكك.. بيد أنه من الطبيعي أن يقف مصري ويحرق ورقة بمائة جنيه أمام الناس لأي سبب دون أن يقترب منه أحد.. فإذا حاول أحد أن يعترض قائلا "دي نعمة يا راجل وحرام عليك اتبرع بها لملجأ يا عمنا".. رد الرجل بصوت وحشي: وأنتو مالكم؟! دي فلوسي وأنا حر فيها! وهذا يكشف لنا نظرتنا للنقود.. فقد يحرق الرجل الورقة ذات المائة جنيه بعود ثقاب أو يدسها في ثدي راقصة بعد أن تردد وراءه عبارات عنترية.. فإذا اعترض عاقل، ردوا عليه "ده جو شرقي وبعدين ده رزق".. غريبة، إننا نتصور أن النقطة للراقصة طقوس شرقية يستوجب المحافظة عليها.. وغريبة لكي نفلت من الانتقادات نقول إنه "رزق"، فعندما نقول "رزق" معناها قدري فنصمت.. وفي أوروبا لو ذهبت زوجة ومعها أطفالها إلي مقر الشرطة وطلبت منع زوجها من المقامرة فإن الشرطة تمنع الزوج المقامر حفاظا علي حياة الأسرة.. بينما لا تستطيع زوجة مصرية أن تشكو زوجها المقامر، فسوف يرد "دي فلوسي وأنا حر فيها" وبالمثل، إذا ذهب جار أوروبي للشرطة ليشكو صباح جيرانه أثناء خلافاتهم الزوجية، فإن الشرطة تسارع لفرض غرامة مالية طبقا لقانون احترام الجار.. ولو حدث هذا في بيت مصري لقال الرجل "ده بيتي وأنا حر" وهي إجابة حاسمة في بلادنا الميمونة دون اعتبار للجيرة أو يحزنون! ماذا يعني هذا؟ يعني اختلاف مفاهيم الحرية الشخصية.. فالأوروبي تسقط حريته عند سور حريتك.. أما في بلادنا فأنت حر تفعل ما شئت في الوقت الذي تشاء وبالطريقة التي تشاء، دون أن يعترض أحد، وباستطاعة الابن أن يشكو أباه إذا كان يعود ثملا ويهين أمه وأخوته وتتدخل الشرطة لحماية الابن من الأب الثمل.. ولو حدث هذا في مصر لقال الناس باستنكار: "الولد المفعوص يشكي أبوه ده عيب". فإذا قلت للأب الثمل: فلوسك وصحتك وكرامة زوجتك وأولادك.. رد علي الفور: دي فلوسي وأنا حر.. وصحتي وأنا حر.. ومراتي وعيالي وأنا حر فيهم.. وهو رد يحسم الأمر علي الطريقة المصرية. وبمناسبة الطريقة المصرية أشعر بخجل عندما يقول لي أوروبي إذا سمع كلاكس أو تجاوز راكب سيارة من أمامه أو كسر إشارة: إنها علي الطريقة المصرية.. وكأن هذا النمط من السلوكيات المتخلفة مصرية الهوي! هل أنا مثالي؟ الإجابة: لا، لكن الأغلبية الكاسحة تلتزم بالقواعد.. وقلة قد تنحرف وتلقي عقابها ولو كان عضوا في البرلمان الأوروبي. هل نحن متحضرون؟ نعم بالتاريخ، لكننا "متخلفون" في الواقع المعاصر. هل تعداد السكان الضخم وراء هذا التخلف؟ الإجابة: الهند أضعاف أضعافنا وأفقر، لكن أطفال الهند يرضعون لبن التحضر في التعليم وهم بعد في مقاعد الحضانة. هل التعليم من أسباب التقدم أو التخلف؟ الإجابة: نعم، نعم، نعم.