لعله ليس هناك نموذج يجسد التناقض الصارخ بين الشيء ونقيضه في السياسة العربية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي. هذا الحزب الذي رفع شعارات جميلة وبراقة تستهوي النغمة القومية العالية، وهل هناك أروع من هذا الشعار الذي رفعه الحزب عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة من المحيط إلي الخليج، وشعارات أخري لاحقة مثل حرية وحدة اشتراكية. وكان علي الشعوب العربية أن تنتظر حتي يصل حزب البعث إلي الحكم لتكتشف الهوة الواسعة بين الأقوال والأفعال تلك الهوة التي تراها في المجتمعات المغلقة والأمنية حيث تسود شعارات نبيلة علي السطح، بينما تمتلئ الأعماق بالموبقات والخطايا البشعة التي تسفح كل القيم الإنسانية والتي يصدق عليها مقولة في رائعة محفوظ ثرثرة علي النيل كل القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب. وأيام الجامعة في أواخر الخمسينيات، والزخم السياسي الذي كانت تمتلئ به قاعات المحاضرات وأروقة الجامعة وحدائقها، يشترك فيها شباب في عمر الورد من بنين وبنات سافرات فاضلات ليس علي عقولهن حجاب أو نقاب، يبحثون عن مصر المستقبل، مصر التي هي ملك لكل أبنائها وبناتها. في تلك الفترة المهمة والفاصلة والتي كان لها ما بعدها كانت هناك أحلام كثيرة قابلة للتحقيق وعلي رأسها الحلم ببناء مصر الدولة العصرية والديموقراطية المتقدمة بعيداً عن أشكال الاستغلال الاستعماري وأيضاً بعيداً عن أشكال الاستنزاف المحلي، كما كان هناك حلم تحقيق وحده عربية أو علي الأقل سوق وتكامل عربي مشترك في جميع المجالات السياسية والاقتصادية يدافع عن الحقوق العربية المشروعة وعلي رأسها إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وكنا ندخل مع زملائنا البعثيين في الجامعة في مناقشات واسعة حيث كانوا يطلقون علينا الشعوبيون لأننا كنا نعتقد أن الوحدة العربية لابد وأن تتم علي أساس ديموقراطي واحترام خصوصية كل شعب عربي، بينما كان البعثيون يرفضون القول بوجود شعب مصري وشعب سوري وشعب عراقي فهناك شعب عربي واحد في مصر وسوريا والعراق. هؤلاء الذين كان البعض ينظر إليهم علي أنهم دعاة الوحدة وفرسانها حين تهيأ لهم الحكم في بلدان عربية سفحوا كل القيم التي نادوا بها، بل ودخلوا في صراع ديناصوري قاتل فيما بينهم، أعني البعث العراقي والبعث السوري وما كان يطلق عليه بالقيادة القومية والقيادة القطرية. ولم ينجح بعث صدام حسين إلا في تفريق الأمة العربية وليس توحيدها، ليس هذا فقط، بل إن نظام صدام حسين لم يكن عراقياً يعبر عن كل طوائف وفئات الشعب العراقي، بل يسيطر علي الحكم ولمدة تزيد علي 35 عاماً شريحة ضعيفة أشبه بالقبيلة بل وضاق الحكم حتي أصبح عائلياً ينحصر في صدام وعشيرته وأهله يحتلون كل المناصب الرئيسية والحساسة. وجري نفس الشيء في سوريا، فأقلية تمثل شريحة مذهبية ودينية لا تمثل أكثر من 8% من الشعب السوري تنفرد بالحكم بداية من رئاسة الجمهورية حتي المحافظين ورئاسة الأجهزة الأمنية. الغريب والمثير أن أعنف صراع جري بين البعثيين أنفسهم، خاصة البعث العراقي الحاكم والبعث السوري الحاكم صراع دموي بالرسائل الملغومة وبالقنابل والاغتيالات والعربات المفخخة واتهم كل منهما الآخر بالعمل لصالح الاستعمار وأعداء الأمة العربية. البعث السوري يحكم علي ميشيل عفلق مؤسس البعث بالإعدام بل ويوجه إليهم الاتهام باغتيال صلاح البيطار أحد أقطاب حزب البعث، والبعث العراقي يتهم البعث السوري بالتواطؤ مع الرجعية ويتبادل البعثان في العراق وسوريا إرسال الطرود الناسفة ليس هذا فقط، بل ويجري كل منهما تطهيراً دموياً لتصفية العناصر المناوئة من داخله. ففي سوريا يحكم علي قادة بعثيين تاريخيين بالإعدام مثل صلاح جديد وإبراهيم ماخوس ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين، والقائد المناضل صدام حسين يقوم بنفسه باغتيال عدد من القادة التاريخيين للبعث العراقي مثل عبدالخالق السامرائي ومنيف الرزار وغانم عبدالجليل وعدنان الحمداني.. المشكلة الأهم والأخطر في كل ذلك ليس الهوة التي فصلت بين الشعارات والتطبيقات العملية، وليست حتي في الصراع الدموي بين النظم البعثية والذي أراق الكثير من الدماء، ولكن الأخطر من كل هذا أن هذا العبث البعثي الأمني كانت ومازالت له آثاره السلبية والمدمرة علي الشعوب العربية والإسلامية. فهناك الحرب العراقية الإيرانية التي قادها صدام لأكثر من ثماني سنوات واستنزفت الكثير من القدرات المادية والبشرية للبلدين أكثر من مليون قتيل، 800 مليار دولار وكانت أمريكا تسلح الطرفين وتستفيد علي طول الخط. ثم قام النظام البعثي العراقي بغزوه الكويت وتفريق الأمة العربية كلها وضرب بذلك جوهر مفهوم الأمن العربي الذي كان قائماً، وهناك المجازر التي جرت للأكراد في الشمال ومأساة قرية حلابشة التي أبيدت بالنابالم والغازات السامة، ثم مذبحة الجنوب التي راح ضحيتها مئات الآلات من العراقيين.. وكسبت أمريكا وإسرائيل علي طول الخط. وفي سوريا تكررت هذه المآسي بشكل أو بآخر وقصفت الميج السورية مدينة حماة مما أدي إلي مقتل 25 ألفاً من الأطفال والنساء وسكان المدينة رداً علي مظاهرة تطالب بالديموقراطية، بينما دخلت القوات الإسرائيلية بيروت في ظل وجود مكثف للجيش السوري، الذي لم يطلق دانة مدفع واحدة ضد إسرائيل، وامتلأت السجون والمعتقلات بالمعارضين السياسيين علي كل لون.. الشيوعيون والليبراليون والإخوان المسلمون والأكراد وفصائل بعثية متمردة. ثم جري تعديل الدستور السوري ليتولي الطبيب بشار الأسد رئاسة الجمهورية خلفاً لوالده، بل وضغطت سوريا من خلال تواجدها العسكري والأمني في لبنان لتعديل الدستور اللبناني والتجديد للرئيس إميل لحود، ثم جاء اغتيال الحريري ليكشف سوءات النظم الأمنية العربية وليعطي الفرصة لانطلاق الغيلان لفرض سيطرتهم وهيمنتهم علي العالم العربي ممثلاً في الرئيس الأمريكي جورج بوش وجماعته اليمينية المحافظة. ويتساءل كل عربي مخلص ألم يأن الأوان لاكتساح أيديولوجياً الخوف والرعب والاغتيال وإهداراً أمن الإنسان العربي حتي تستطيع أن نعرف وأن تقاوم.