كان الكثيرون من مفكري العلوم الاجتماعية يعتبرون ثورة يوليو 1952 الحلقة الثالثة من حلقات الثورة الوطنية المصرية في العصر الحديث، لكن أحدا لم يعتبرها الحلقة الأخيرة، بسبب النقص الجوهري الذي لم تحققه الثورة، ونعني الديمقراطية، وهو المبدأ الذي كان يقتضي ثورة «أو حلقة جديدة» رابعة من حلقات الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية، وهذا ما حدث في ثورة 25 يناير 2011، التي كان شعارها الأول «الحرية». والحق أن ثورة يوليو 1952 – من الزاوية الثقافة والشعرية – كانت نقلة كبيرة في مسار التطور السياسي الاجتماعي الثقافي المصري والعربي علي السواء، إذ كانت بؤرة لمجموعة من الثورات والاستقلالات والانقلابات الوطنية في العالم العربي، سبقتها أو لحقتها بقليل، مثلما وقع في سورية والعراق ولبنان قبل 1952، وفي الجزائر والسودان بعد 1952. من هذه الزاوية نقول: شكلت ثورة يوليو 1952، إذن، قوة دفع هائلة لنشوء ونمو وصعود حركة الشعر العربي الحر، بما رفعته الثورة من شعارات وتوجهات وإجراءات تجاه حرية الوطن وكرامة المواطن والعدالة الاجتماعية ومقاومة المستعمر والمحتل، وتذويب الفوارق بين الطبقات والانحياز إلي البسطاء، وإعلاء «القومية العربية»، والتقدم والاشتراكية، ورفض الاستغلال والإقطاع والاستعباد، وغير ذلك من قيم وأهداف ورؤي، رأي فيها شعراء التجديد القادمون تجسيدا لأحلامهم أو تشكيلا لها، بما يستجيب لأشواق هؤلاء الشعراء الذين يريدون تحطيم الأطر القديمة وخلق أطر جديدة، من الحرية والعدل والتقدم والفكر، علي الأصعدة جمعاء. عندما قامت ثورة 1952 لم يكن قد مر أكثر من أربع سنوات علي صدور قصيدة «الكوليرا» لنازك الملائكة، وقصيدة «هل كان حبا» للسياب، كلتاهما صدرت عام 1947 بصرف النظر عن مسألة سبق أيام قليلة لنازك أو للسياب، فالمسألة ليست مسألة دقائق معدودة، بل هي مشروع حفر متصل. لكن ثورة يوليو 1952 هي التي أعطت «الشرعية الثورية» لما سبقها من قصائد الشعر الحر، ولما لحقها من موجات شعرية حرة، اندلعت مدعومة بنظام سياسي «ثوري» يتراسل مع هذه الموجات، تأثيرا وتأثرا، يعطيها مددا وحماية وتشجيعا وموضوعات ومنابر، ويأخذ منها «شرعية جمالية»، حتي بدا الأمر كأن ثورة يوليو هي حركة الشعر الحر المجدد بين الأنظمة السياسية، وكأن حركة الشعر الحر هي ثورة يوليو بين الأشكال الشعرية القديمة. من هنا حدث تناظر، أو تجادل، بين شعارات الثورة (ثورة 1952 وسائر الثورات العربية) وبين المضامين الأساسية لحركة الشعر الحر: التحرر، العدالة، الفقراء، العروبة، كرامة الفرد، البناء والعمل، كراهية الاستعمار، العمال والفلاحون، التضامن النضالي العالمي مع سائر الشرفاء. ولم يختل هذا التناظر «أو التجادل» إلا في قضية واحدة هي الديمقراطية وكبت الرأي وقمع المختلف، ذلك أن هذه الثورة المصرية الوطنية «وسائر الثورات العربية الشبيهة» علي الرغم من إنجازاتها الوطنية والاجتماعية، ضاقت بالرأي الوطني الآخر، منطلقة من أنها تملك الحق الوحيد والحقيقة الوحيدة، فكان القمع والاعتقال والاستبداد، حتي بلغت المفارقات ذروتها حينما كانت الثورة المصرية ترفع شعارات «الاشتراكية» بينما آلاف الاشتراكيين يقبعون في السجون والمعتقلات، تحت تعذيب وحشي أودي بحياة بعض من خيرة هؤلاء الاشتراكيين! لذلك برزت – إلي جوار الموضوعات السابقة في مضامين الشعر الحر – موضوعة السجن والزنزانة والمحقق والتعذيب، في شعر البياتي في العراق وأدونيس وشوقي بغدادي ومحمد الماغوط في سورية، وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل في مصر، وعبداللطيف اللعبي في المغرب. فها هو أحمد عبدالمعطي حجازي «مصر»، في أوج الانتصارات الاشتراكية والأناشيد الساخنة، عام 1962، يصبح ملتاعا: «لو أنني – لا قدر الله – سجنت ثم عدت جائعا يمنعني من السؤال الكبرياء فلن يرد بعض جوعي واحد من هؤلاء هذا الزحام.. لا أحد» وها هو محمد الماغوط «سوريا» ينعي حاله تحت قيادة «الأنظمة الوطنية»، فيقول: «دموعي زرقاء/ من كثرة ما نظرت إلي السماء/ وبكيت/ دموعي صفراء/ من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية/ وبكيت/ فليذهب القادة إلي الحروب/ والعشاق إلي الغابات/ والعلماء إلي المختبرات/ أما أنا فسأبحث عن مسبحة/ وكرسي عتيق/ لأعود كما كنت/ حاجبا قديما علي باب الحزن/ مادامت كل الكتب والدساتير والأديان/ تؤكد أنني لن أموت/ إلا جائعا أو سجينا». الأواني المستطرقة بتعبيرات الحقل السوسيو – ثقافي نقول: يمكن أن نعتبر ثورة عرابي 1881 هي ثورة البرجوازية الكبيرة العسكرية، وعلي ذلك كان نتاجها في الشعر هو: نهوض البارودي بمهمة استعادة العافية والمتانة والرواء لبنية العمود التقليدي للشعر العربي، بعد مراحل انحدار طويلة، وتابعة في إتمام المهمة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران والزهاوي والرصافي والجبل والخوري وغيرهم. ويمكن أن نعتبر ثورة سعد زغلول 1919 هي ثورة البرجوازية المتوسطة المدنية، وعلي ذلك فإن نتاجها في الشعر هو «الحركة الرومانتيكية»، داخل العمود التقليدي، التي تمثلت في مدرسة «الديوان» العقاد وعبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني» ومدرسة «أبوللو» «أبوشادي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وأبوالقاسم الشابي» ومدرسة «المهجر» «جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبوماضي وإلياس أبوشبكة». تجسدت النقلة المهمة التي أنجزتها الرومانتيكية «بمدارسها الثلاث» في الانطلاق من الذات تجاوبا مع الثورة البورجوازية المتوسطة التي أعلت قيمة الفرد، بحيث يغدو الشعر تعبيرا عن الشعور، مؤكدة قول شكري «ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان»، وأن الشعر هو «محاكاة الداخل» لا «محاكاة الخارج» كما كانت الحال عند التقليديين السابقين. وقد تساوق مع هذه المفاهيم الجديدة تحريك بسيط لشكل العمود السابق، لتتكون القصيدة من عدة مقاطع يلتزم كل مقطع فيها بوزن مختلف وقافية مختلفة، متخلين بذلك عن وحدة الوزن والقافية طوال النص، كما كان الحال في الشكل القديم. ويمكن أن نعتبر ثورة يوليو 1952 هي ثورة البرجوازية الصغيرة المصرية والعربية، وعلي ذلك فإن نتاجها في الشعر هو «حركة الشعر الحر» التي خطت شوطا أكثر جذرية من الحركة الرومانتيكية السابقة: - من حيث المضمون: إذ دخلت موضوعات جديدة بأثر الثورة والحالة الاجتماعية الجديدة تبنت ما يمكن تسميته «الرومانسية الثورية»، فيها انطلاق من «الذات» لكنها الذات الممزوجة بالجماعة، وفيها محاكاة للداخل لكنه الداخل المخلوط بالخارج، الواقع الاجتماعي والشعب وهموم الوطن. - من حيث الشكل: إذ اعتمدت تعدد الوزن وتراوح القافية، وإسقاط وهم اللغة التي هي شعرية ونقية بذاتها، والتحول إلي الأداء البسيط الميسور البعيد عن المعاجم الغليظة، وذلك لإنزال الشعر من السماء إلي الأرض، مع ما يرفد ذلك كله من تلاقح، أو تناص، مع الثقافة واللغة والأساطير الغربية. - من حيث «فلسفة الإنشاء الشعري ذاتها»: إذ جسدت حركة الشعر الحر مبدأ الإثبات أبديا خالدا لأي صيغة شعرية، لأن الصيغ اقتراح العصور التاريخية والاجتماعية مسقطة بذلك قداسة أي إطار إبداعي ودوامة السرمدي، مؤكدة أن صيغة الشعر الحر هي صيغة العصر الحديث، مثلما كانت صيغة العمود التقليدي هي صيغة العصور التقليدية السابقة. يجب، هنا، أن أستدرك موضحا أن ما أجريته من موازاة بين الطور السياسي الاجتماعي لثورة يوليو «وغيرها» والطور الشعري لحركة الشعر الحر «وغيره» ليست موازاة حديدية تطابقية حرفية صماء، فقد تكون النتيجة سببا والسبب نتيجة، الأصح هو أن العلاقة بينهما هي علاقة جدلية تفاعلية سريعة أحيانا، وبطيئة أحيانا، مباشرة تارة وغير مباشرة تارة، لكن الثبات هو حالة «الأواني المستطرقة» التي حكمت الصلة بين ثورة يوليو والثقافة الإبداعية المحيطة بها، والشعر علي رأسها، وما التعميمات والمبالغات التي سبقناها، سوي رسوم توضيحة واسعة لتبيان ذلك الحبل السري في جدلية الفاعل والمفعول. حاضرة في الميدان ستون عاما مرت علي ثورة يوليو 1952، لكنها لاتزال حاضرة، وقد جسد هذا الحضور نفسه أبهي تجسيد أثناء ثورة 25 يناير 2011، التي يعتبرها مفكرون عديدون الحلقة الرابعة من حلقات الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية، التي كانت حلقتها الأولي هي ثورة عرابي 1881، وحلقتها الثانية هي ثورة سعد زغلول 1919. كان حضور ثورة يوليو في ثورة يناير متنوعا: صور ناصر «مع رموز الثوار العالميين كجيفارا» ترتفع في المظاهرات والمسيرات والمليونيات، ناصريون يشاركون في الثورة «بل إن واحدا من أبرز الرموز الناصرية، هو أيضا واحد من أبرز رموز يناير 2011، وتقصد «حمدين صباحي»، الأناشيد والأغاني التي صنعت في الخمسينيات والستينيات تحية لثورة يوليو أو تجسيدا لها، هي التي تنطلق في ميدان التحرير وفي مقار الأحزاب، لاسيما حينما يقول عبدالحليم حافظ بكلمات صلاح جاهين ولحن كمال الطويل: «صورة، كلنا كده عايزين صورة صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة صورنا يا زمان واللي حيخرج من الميدان عمره ما هيبان في الصورة» كانت ثورة يوليو تطوف بالوجدان، إذن، كلما هتف متظاهرو يناير 2011 للعدالة الاجتماعية، متذكرين سعي ناصر لتذويب الفوارق بين الطبقات، وكلما هتفوا للكرامة الإنسانية، متذكرين العزة الوطنية التي غذاها ناصر في المصريين. بل إنهم كانوا يتذكرونها كلما هتفوا للحرية، لأن الحرية كا نت هي النقيصة الكبري لثورة يوليو، وهي كعب «أخيل» الذي انضربت منه الثورة كلها، فكأن متظاهري 25 يناير 2011 كانوا يريدون أن يسدوا نقص يوليو 1952. ولذلك اتصل أدباء يوليو «الذين دعموها واصطلوا بنارها وسجونها» اتصالا وثيقا وعضويا بثورة 2011، وكأنهم فيها يستكملون طلبهم القديم والدائم «الحرية» الذي لم يتحقق منذ الخمسينيات، ويستعيدون بعض المبادئ التي تحققت بشكل جزئي ومشوه أثناء ثورة يوليو: كالعدالة الاجتماعية التي لم تتعد في يوليو «رأسمالية الدولة»، وككرامة الإنسان التي رفعتها يوليو في الخارج لكنها تحطمت بفعل المخابرات والعسس في الداخل. كان طبيعيا، إذن، أن يكون في الصدارة من ثورة يناير كتاب ناضلوا ضد «الضلع الناقص» في ثورة يوليو في العقود السابقة، مثل بهاء طاهر وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد وسعد هجرس وأحمد فؤاد نجم وأحمد عبدالمعطي حجازي وأحمد بهاء شعبان وغيرهم كثيرون. ثورة يوليو حاضرة «بحسناتها وسيئاتها» في الضمير المصري الراهن، وفي وجدان الثوار المعاصرين، علي الرغم من محاولات مناضلي الظلام وفقهاء الظلام طمسها أو تغييبها أو طردها من الذاكرة المعاصرة. ثورة يوليو حاضرة في اللحظة الحاضرة: فمعظم من ثاروا في 25 يناير من طلاب هم أولئك الذين تعلموا بفضل مجانية تعليم عبدالناصر، ومعظم من ثاروا من عمال هم العمال الذين ملكهم عبدالناصر حصة في مصانعهم بينما السادات ومبارك باعا هذه المصانع وتركوا العمال في الصقيع، ومعظم من ثاروا من الفلاحين هم أولئك الفلاحون الذين ملكهم عبدالناصر أرض الإقطاعيين في الإصلاح الزراعي بينما السادات ومبارك نزعا عنهم هذه الأرض لإعادتها للإقطاعيين المساكين، لكي يتضور الفلاحون أو يهاجروا إلي بلد أكثر حنانا عليهم، والموظفون الذين ثاروا هم أولئك الموظفون الذين سكنوا في الشقق الشعبية التي بناها ناصر وتمتعوا بالتأمين الصحي وبالدخل الذي يكفي الحياة الطبيعية، وصاروا في العقود الثلاثة الأخيرة يعيشون في العشوائيات ويموتون في المستشفيات الاستثمارية ويشتغلون أكثر من «عمل» لكي يوفوا مطالب الحياة. ثورة يوليو حاضرة كلما ظل جيلي، جيل السبعينيات، حاضرا، فنحن الجيل الذي نشأ مع وقوع الثورة، وتعلم في مدارسها المجانية، ودخل منظماتها الشبابية الفاشلة، التي دفعت المرء منا إلي أتون التجربة، وعولج في مستشفياتها الحكومية المؤهلة، ودخل جامعاتها التي كانت مقصورة علي أبناء الأثرياء، ثم صرنا شعراء ننتقد ثورة يوليو. ثورة يوليو حاضرة، كلما شاعت فاحشة من فواحش سرقة الأسرة المباركية المالكة وحاشيتها لأموال مصر بالمليارات، إذ ساعتها يتذكر الناس الرئيس الذي اقترض من البنك قرضا شخصيا لكي يزوج بنته، فيعرفون الفرق بين الزهد و«الدناوة» ويقولون سرا أو جهرا: الله يرحمك يا ناصر، أو يرددون سرا أو جهرا بيت نزار قباني: «قتلناك يا آخر الأنبياء»!