تراجع أسعار الذهب اليوم الجمعة 30 مايو في بداية التعاملات    إصابة جندى إسرائيلى بجروح خطيرة فى معارك جنوب قطاع غزة    أخبار مصر: دهس سائق سيارة نقل لابنه النائم يهز الشرقية، نص مقترح ويتكوف عن حرب غزة، نصيحة الخطيب لإمام عاشور بشأن الزمالك    اليابان تقرر رفع العقوبات على سوريا بشكل جزئى    رويترز: هدنة 60 يوماً وتبادل أسرى بين حماس وإسرائيل    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 30- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أول رد رسمي من الأهلي على ضم كريستيانو رونالدو في كأس العالم للأندية    الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس خلال أيام عيد الأضحى    بعد وفاتها.. من هي الفنانة سارة الغامدي؟    أسعار اللحوم الجملي والضاني اليوم الجمعة 30-5-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    زلزال بقوة 4.8 درجة يضرب إقليم ألباى الفلبينى    أسعار طبق البيض اليوم الجمعة 30-5-2025 في قنا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 30-5-2025 في محافظة قنا    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق مصر السويس الصحراوي    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة    وليد عبدالعزيز يكتب: الحلم.. سيارة مصرية 100%    الإفتاء: الأضحية المعيبة لا تُجزئُ عن المضحي    حاسوب فائق سمي تيمنا بعالمة الكيمياء جينيفر دودنا يعزز الذكاء الاصطناعي    لتغيير مفهوم رحلة اليوم الواحد، تفاصيل إقامة معارض أثرية في روسيا    اليوم.. الأوقاف تفتتح 20 مسجداً جديداً بالمحافظات    «مكتب شكاوى المرأة».. مأساة «سمر» تتحول لقصة فيلم مُلهم لضحايا العنف    «الجينوم الرياضي».. أولى الخطوات العلمية والعملية نحو مربع الدول العظمى    فوائد الزنجبيل، لتقوية المناعة وصحة الدماغ وجمال البشرة    كان نايم.. مصرع شاب دهسًا بسيارة والده في العاشر من رمضان    "قبل ريفيرو".. ماذا قدم المدربين الإسبان مع النادي الأهلي؟    إنييستا: إنريكي موهوب.. وإنتر يمتلك لاعبين كبار    «قرار الأهلي».. رد مفاجئ من سيد عبدالحفيظ على مزاعم بيع زيزو    مدحت العدل يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن شكوى جمعية المؤلفين.. ما علاقة حسين الجسمي؟    إمام عاشور يوجه رسالة ل حسام حسن    ياسر إبراهيم يسخر من احتفالات بيراميدز بالدوري    نتيجة الصف الثاني الابتدائي 2025 الترم الثاني بالاسم في جميع المحافظات .. الروابط الرسمية للاستعلام الآن    هيشتغل إلى 2.30 صباحا، تعديل تشغيل قطار العاصمة الكهربائي اليوم بسبب حفل ضخم بالنهر الأخضر    نجاحات متعددة.. قفزات مصرية في المؤشرات العالمية للاقتصاد والتنمية    البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين الانتخابات    ترامب: يجب تمكين الرئيس من حماية الاقتصاد الأمريكي    بعد إمام عاشور.. (3) لاعبين ينتظرون عفو حسام حسن    أسامة كمال: 600 يوم من الإجرام الإسرائيلي وغزة لا تزال تتنفس وتكتب التاريخ بالدم    حزب "الجبهة الوطنية" يطلق مؤتمرًا موسعًا لريادة الأعمال في بورسعيد    ديوان عام محافظة الجيزة يعلن توفر عدد من الوظائف    بالأسماء، وزير البترول يصدر حركة تكليفات وتنقلات لبعض رؤساء شركات القطاع    ريا أبي راشد: مسرحية «ريا وسكينة» سبب تسميتي بهذا الاسم (فيديو)    رئيس "حماية المستهلك": 550 موظفا بالجهاز لخدمة 110 ملايين مواطن    موعد أذان الفجر اليوم الجمعة ثالث أيام ذي الحجة 1446 هجريًا    هل يجوز الجمع بين نية صيام العشر من ذي الحجة وأيام قضاء رمضان؟    "الإفتاء توضح" بعد الجدل الدائر.. حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟    أوروبا تضغط على إسرائيل لوقف مجازر غزة    مصرع شاب في انقلاب سيارة على طريق أسيوط – الوادي الجديد    ضبط 3431 أسطوانة غاز و1000 لتر سولار قبل بيعها في السوق السوداء بالبحيرة    بعد قرار الحكومة.. موعد إجازة عيد الأضحى 2025 في مصر رسميًا    والدة إبراهيم شيكا: "عايزة كل قرش في ورث ابني ومراته بصمته في المستشفى"    الإمساك.. الأسباب الشائعة وطرق العلاج بوصفات طبيعية    تجاهل تنظيف منطقة في الأذن قد يعرض حياتك للخطر.. تحذير خاص لأصحاب «النظّارات»    متحدث الأوقاف: صكوك الأضاحى بدأ فى 2015 ووصلنا إلى 10 ملايين أسرة    وكيل أوقاف الفيوم يشهد فعاليات كتاب مسجد على مفتاح.. صور    وزير الأشغال العامة الفلسطينى: نشكر مصر على دعمها للقضية الفلسطينية    «الإسعاف»| 123 سنة إنقاذ.. 3200 سيارة حديثة و186 مقعدا لاستقبال البلاغات يوميًا    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف بيدس يكتب :في يوم الأرض .. الله معكم
نشر في الأهالي يوم 30 - 03 - 2019


بقلم أشرف بيدس:
في يوم الأرض حدودنا تبدأ من ذكريات الأجداد حتي حلم الصغار.. ويمتد المشهد الفلسطيني الصلب، أحيانا المترهل، بطول الخريطة الأفقية للوطن الكبير والصغير.. فعلي الأرض بقايا مناضل قديم..!! وأطفال يحاولون وضع جماجم ابائهم علي شواهد الكلمات الصماء الناشقة، علها تعطي معاني جديدة، عوضا عن نقاط الحروف التي تاهت.. في يوم الأرض تسرق الأوطان تحت مظلة أممية لا تعترف بمبادئ الحق والعدل.. إن ما يعرض علي المسرح البلاستيكي الآن، هو أسوأ العروض الارتجالية علي الإطلاق، لا رقابة, لا أخلاق, لا نص, لا ممثلين, مشهد عشوائي يديره الفشلة الحشاشين.. ومن يقترب قليلا من مكان العرض لن يسمع سوي صراخ هزلي لأنصاف موهوبين ومتشنجين، ورغم أنهم يعلمون بأن المسرح خاو من الجمهور فإنهم يواصلون العرض، لابد أن يستمر العرض..!! فيا أيها السادة المجمعيون المتحذلقون الحريصون علي قواعد الصرف والنحو ورابطة العنق المستوية، أكثر من حرصكم علي انتشال اللغة من دهاليز التخلف .. لم يعد هذا الزمان زمان النحو بل أصبح زمان النحر والعهر وحروف النصب والنهب والسلب..و..و..
في يوم الأرض تتعالي الأصوات .. تشق غياهب الظلام والسكون.. تفضح الصمت المريب الذي يأبي أن يفضح .. تصول وتجول .. تروح وتجئ.. تعبر عن سخطها وحنقها وغضبها للأصنام والأحجار والتماثيل الحجرية.. تخرج الأصوات ليلا تقطع الشوارع الساكنة الصامتة والميتة أحيانا، حتي أنها تصيح في المقابر والمدافن عسي أن يجيب الموتي علي السؤال.. تعدو وتغضب وتنتحب لتوقظ الجنون المستكين؛ لكن الصحراء خالية من البشر والطير.. لا يوجد غير العدم .. تحدث ضجيجا وضوضاء في بلاد الطرشان .. وتهتف وتعلن عن رفضها للخنوع والانكسار والانقسام والذل والهوان والركوع.. ولا ترضي سوي الموت واقفة ..فتموت واقفة !!
- الإعلانات -
يأتي الصباح كل صباح، في ذكري يوم الأرض أو صبرا وشاتيلا أو دير ياسين أو جنين أو أو أو.. ما اكثر ايامنا السوداء البيضاء.. في كل صباح تصرخ في الأفق المشنقة تفرز أسئلة حائرة، ملحة، تحصد بها الرءوس والأرواح، وتنهي كل فرص التسوية، وتأبي الإجابات أن تستجيب في هذا الجو الملبد بالغيوم.. تتراكم الأسئلة.. وتدق النواقيس بدون توقف، فلا إجابات شافية كافية ، ولا هدوء يريح الأعصاب.. فمازالت الأحداث علي فوهة بركان، تتصاعد وتتفاعل وتتفجر ما بين الحين والحين.. ولازالت الأسئلة تتوالي، تندفع، تثور، تغضب، وتلفظ ما بداخلها.. فتنتشي الجرائد بمانشيتات قاتمة كالحة سوداء ..
الرثاء لغة المستضعفين ونحن أقوياء, لا نكتب مراثي الحكايات عندما يصادرون أحلامنا وضحكاتنا وزيتوننا وقمحنا وملحنا، ويهدمون منازلنا ومساجدنا ومدارسنا، وبعد ذلك يبنون جداراً يفصلنا عن الحياة، عن الهواء، يحكمون قبضتهم علينا، ويكملون بناء الجدار الثاني والثالث والرابع.. ثم يضعون علي الجدران بوابات حديدية تمنع الدخول والخروج.. سجن كبير نعيش فيه طلقاء أحراراً.. لا نكتب مراثي, نحن نكتب التاريخ لأمة تجهل القراءة والكتابة حيث تكثر الشخصيات غير الحقيقية.. الممسوخة.. المنسوخة.. المعادة ، التي عندما تتكلم لا تسمعها ليس من فرط أدبها، ولكن من شدة بهتها.. تناور .. تخادع ..تكذب .. تسرق .. تنهب.. تهدم.. تكذب.. تتجمل.. تتهم الآخرين بعيوبها وسوءاتها ، تفتعل الضحكات الصفراء، والابتسامات الماكرة واللفتات الملتوية.. تتلون كالحرباء بألوان عدة، تجيد التخفي والتنكر، وتستطيع أن تمكر وتتحايل وتتدعي بغير حق.. تلطخ الجمال وتقبحه، وتجمل القبح وتبرزه.. تقلب الموازين المعدولة، وتحرف النصوص، وتزيف الواقع، شخوص اعتادت علي ممارسة الأفعال الفاضحة دون حياء ، بل أنها تتباهي بأنها حيوانية عدوانية همجية بربرية..
في يوم الأرض تجوب الدبابات الأزقة بحثا عن أطفال مفزعين ، حتي تفزعهم أكثر ، وتطلق عليهم طلقاتها النارية ، فتفتك أجسامهم، وتفتك أحلامهم وتجعلهم بقايا متناثرة علي الطرق.. أعضاء بشرية للفرجة .. ثم يحتالون بعد ذلك ويفككون أعضاء الصبية ليرمموا بها أطفالهم.. فيصير اطفالنا اقوياء, وتشوه اطفالهم لأن ما سرقوه مفخخ وموقوت.. فلن نبرح الأمكنة حتي وإن وصل الظلم مداه.. لن نبرح .. لا نعرف أرضا غير تلك الأرض التي رويناها من دمائنا .. إن شئتم ارحلوا أنتم بغير رجعة.. فلا أحد يريد منكم شيئا.. ولا ننتظر أن تعطونا شيئا.. فأنتم لا تملكون أي شئ!! وأنتم كلمات مطموسة من قاموس أيامنا، وأنتم جمل اعتراضية لا تكمل معاني الحكايات.. مازال النهر يفيض عطاء.. لم يجف ..تعتصرنا الأيام وتخرج ما تبقي، ننصهر داخل الحكايات واللحظات نكشف الخبايا ، ونتفحص الوجوه.. نصبر سنين طويلة .. لكننا لا نيأس .. يطول صبرنا وتعتل ذاكرته وتصدأ همته لكننا لا نيأس.. إنما نيأس إذا أتي عام جديد يحمل بشارة كاذبة أو مزيدا من الدمار والخراب .
في يوم الأرض.. بيوتنا مليئة بالصور المعلقة علي الجدران للشهداء والأحباب .. نلقي عليهم كل ساعة التحية، ونعدهم باللقاء.. لا نهاب الموت.. فهو يسكن ويأكل معنا.. وأحيانا يلهو مع الأطفال في الشارع والحارة والمدرسة.. افتحوا صفحات الأيام.. واقرأوا جيدا السطور الأخيرة.. فليس كل كلامنا شعراً، وليست كل حروبنا صغيرة.. افتحوا صفحات الأيام وتفحصوا الوجوه والشخوص والعبارات المريرة.. واقرأوا بأي لغة تجيدونها عبرية أو بربرية أو عنصرية.. فالكلمات علي الأحداث تشهد .. لا تحريف ولا تجريف ولا تخريب.. افتحوا صفحات الأيام تنبؤكم، لكي تعرفوا، وأنتم تعرفون جيدا فمازالت مرارتنا في حلوقكم وأحشائكم وفي تفاصيل نهاركم ولياليكم.. مدينتنا تكبر كل يوم وتنمو.. ليس صحيحا أنكم تسرقون أوطاننا.. فهذا خيال .. رغم العراقيل الأسمنتية والبوابات الإلكترونية مدينتنا تكبر كل يوم وتنمو.. في الأحداق تكبر.. في عقد ياسمين يلتف علي عنق وفاء ونضال.. في ضفيرة طفلة ترتدي ثوب العيد .. في تكبير مؤذن من فوق مئذنة مكسورة .. في بكاء عجوز تنتظر النصر في وشاح شتوي .. مديتنا يا سادة تكبر عندما يلتقي الندي ببرعم ينمو ويترعرع ويزدهر علي قبر شهيد ..
في يوم الأرض.. الأرض العطشي تتوسل مجري للماء، والبذر المغروس في احشائها يتفتت حسرة .. الريح المرة تجتاح المدن الحانية وتقسو علي الابناء..تنطفئ قناديل الرحمة في الوطن المظلم، ولا يبقي سوي وقع أقدام العسكر ومحاسيم التفتيش.. لا شئ تغير.. لا شئ تبدل.. فمازلنا نقرأ الأحداث بعين عابرة.. تجهل ما بين السطور وما تحتها وما فوقها..ومازال الهزل الدولي المتصنع والمتنطع يمارس معنا كل يوم أساليبه القمعية ، ومازال الشرطي المتغطرس يفرض قوانينه العرفية، ويسن القوانين الشاذة.. في جنازات الحياة تسير النعوش في شوارع الموت قاصدة جبانات الوطن ومدافنه.. تخترق الصمت الموحش، وتفتح الطريق لأول خيوط الصباح ، فالشمس لا تفتح عينيها إلا علي تلال وطني، وتغمضها علي حقول الزيتون.. حتي الليل عندما يفرد ستائره في مغارب الدنيا يطمئن أن وطني قابع في مكانه يرتشف الشاي المسائي ويحكي حكايات الشهداء، ومن الليل الداكن المغموس في السواد إلي الفجر الفضي المتزين في ثوب الزفاف الأبيض تشع أنوار الصباح الرمادية علي فلسطين، وتبدأ دورة الأرض من جديد، فيدور النهار في الليل ويتعاقبان ، وأحيانا يتقابلان فيندمجان، ويتوحدان.. وينطلق من فوق المآذن .. حي علي الفلاح حي علي الكفاح،، وتدوي أجراس الكنائس لتعلن عن بداية ضحكة طفلة تلهو بعروستها وتقوم بتمشيط شعرها ليبدأ معا صباح يوم جديد..
في يوم الأرض.. ترصدنا عيون البصاصين في كل مكان، تتحسس وقع الأقدام ، تكتب التقارير السرية، والتفاصيل الحياتية، متي نصحو، متي ننام، متي نأكل ومتي ندخل دورات المياه.. ترصدنا بالليل وبالنهار، وتكشف عن عوراتنا داخل شاشات المراقبة، وتضع أجهزة التجسس في صدورنا حتي تحصي علينا الأنفاس والكلمات والآهات، وما أكثر الآهات والأنات، تتخفي في رذاذ المطر، وفي ضفائر البنات، تتعقب كل شئ حتي عندما نموت في شوارع الحكايات ، تكتب بأن المدعو فلان.. رفعت عنه المراقبة لأنه لم يعد له وجود، فيشطب من القائمة السوداء.. وتستخرج له شهادة إعفاء من الحياة ومن العذاب ومن القهر والذل والهوان.. ما اثقل الوشايات في الزمن القبيح عندما تتحول إلي سياط نجلد بها انفسنا.. لا شئ اصعب من أن تتعقبني قدماي فتبلغ عن خط سيري .. وعن عنوان أيامي ومخزون خبزي ودوائي .. ينبت من رحم الأرض المروية بدماء الشهداء بعض من شوك يجرح أيدي الصغار وأقدام العجائز .. ما أقبح أن يوجد بيننا خائن أو خائف، فيدنس الثوب الفضفاض ، ويتاجر بالارض والعرض..
في يوم الارض تخرج المظاهرات.. تندد وتشجب وتعلن رفضها وسخطها وحنقها.. ترفع اللافتات والشعارات .. وتطلق الحناجر والأبواق والأصوات الزاعقة الناعقة الهاتفة في زمن الطرشان .. زمن أبكم أصم لا يري ولا يسمع ولا يتكلم إلا في إطار أولياته ومطامعه وأهدافه.. لا مكان للأحلام الصغيرة والشعوب الصغيرة .. والأيادي القصيرة.. فهذا وقت الكبار التتار .. وهذا أوان خطف الأرزاق والفتيان، وهذا وقت وأد البنات.. نولد لكي نموت.. ونحيا لكي نموت .. ونموت لكي نموت.. لكن الخضرة تبقي في ساحات البيت وفي الشارع الكبير تذكرنا.. تجتر من العمر الذكري.. وتقص أقاصيص الحكايات للأزهار والنحل والفراشات وللدنيا .. نخشي أن يأتي يوم نخجل فيه من أنفسنا.. يدور حجر الرحي .. يطحن قمح القلوب وحبات الوطن.. يعصر الأفئدة ويعصف بالأمنيات، ويستبيح الظلم والغطرسة.. ويبدل مجري النهر ليصب في القلب صيحات الشهادة والتكبير..
للموت معنا حكاية عجيبة.. وصداقة قديمة، دائمة مستديمة.. فهو يزورنا كل صباح كل مساء في مواقيت الصلاة، وفي أفراح البنات.. في يوم الارض وفي يوم السماء.. يحفظ وجوهنا وملامحنا وساعات لعبنا ولهونا ، يعرف متي نخرج ومتي نعود، حتي تلك الأماكن السرية التي نزاول فيها نواقصنا يعرفها جيدا، يعرف أماكن الحانات والبارات ولديه اسرار الشفرات والجوالات والحقائب الحديدية.. يأتينا بغير ميعاد ، أصبح البيت بيته، وكأنه أحد أفراد الأسرة المواظبين علي موائد الغداء والعشاء، تعودنا عليه واعتاد هو وجوهنا.. أحيانا نسأل أنفسنا في دهشة إذا مرت ساعة دون مشاهدته في أحد الأرجاء .. ونقول اللهم اجعله خيرا..تدور الساعة المعلقة علي الجدران الصماء الصامتة.. تهرول عقاربها وتجري دون توقف تخترق الوقت، تهرب من عين الحارس والسجان.. لكن ميعاد الوعد لم بأت بعد.. فالساعة المعلقة تدور عقاربها بأوامر صارمة، لا يجدي معها الهزل أو الهذيان.. تتآكل شموع النار وتخفت.. لكن الشمعة الحبلي بالنور تتوقد تتأجج بقبس من نور إلهي لا يطفئه صراخ الأشباح..
من 1967 وحتي 2019 نصف قرن وعامين.. ولم تمتلئ بطونهم بعد.. يختنق الحلم.. لكنه لا يلفظ أنفاسه الأخيرة .. تجف آبار المياه .. وتأكل الدبابات العشب، ويعيث المحتل في الأرض فسادا.. يقتلع الزيتون، ويغتال الحمائم.. ويقتل الأطفال والنساء بدم بارد. لكننا نجتر من ذاكرة الأيام .. الزاد.. أحيانا يكون الزاد بطعم العلقم.. لكنه يذيب مسافات الإحباط والانكسار.. تثور الأرض الحبلي بدم الشهداء.. الموت يصلبنا..يقوينا.. يجعلنا كالصخر.. لا نخشي تكنولوجيا الأباتشي أو فوضي الكلاشينكوف.. لا نخشي أجهزة الرصد الملوثة.. أو محاسيم الفلاشا المصطنعة.. لا نخشي حصارات المحصورين ولا طوق المطوقين ولا عنصرية العنصريين.. ورغم ضيق المكان وشح الزمان، وقلة الحاجة، تتواصل الأجيال تلو الأجيال، يرضعن من صدر الأرض وصايا الآباء، فمنهم شبل سيرفع الراية علي الأقصي إن عاجلا أو أجلا.. في عصر الاستثناء والكلمات المطاطة.. يتكاثف دخان الانفجارات ليملأ المكان، يخنتق الهواء، ولا يبقي سوي البارود نتنفسه، من تحت التراب، من فوق التراب تتعانق الأجساد في الأجساد.. تتحسس حبات تراب الوطن..من وجع القهر إلي وجع الحرمان تتراكم أوجاع الوطن.. وتتمزق الأحشاء في الأحشاء، ويصير الأبيض أسود، والأسود ترنيمة موت، ويغدو الوطن أغنية لكل الأوطان، ونشيداً بتغني به الأحرار، هل صار الموت خياراً أبديا؟! أم أن الأيام القادمة تحمل بشاير حطين.. هل في الأفق صلاح الدين، أم أن شعبي ألف صلاح الدين..
في يوم الأرض..
ينام الليل في عيوننا، ولا نغفو ، تتعثر الأقدام في الجثث الملقاة يمينا ويسارا.
تتوه مفردات اللغة في دهاليز المعاجم، تبحث في القواميس عن معني للوطن.. ..
تباع الأناشيد القومية علي أرصفة اليتامي ودكاكين العجائز.. وعديد الأمهات..
تباح الأشياء والأعراض، وتنبت في القسوة أناشيد البطولة..
تلف الأيام بعضها، الماء مالح والقمح مالح..
هل غدونا مواطنين حتي إشعار آخر.. أم صرنا في الزمن الغاشم مؤجلين..
تضيق الرحلة .. لكن تنمو في الاحداق الفكرة ، تبني ما تهدم وتلملم الأشلاء المبعثرة..
لا شئ يكسرنا.. فنحن ضد الكسر، وعبث اللاهين..
لابد أن نسير حفاة علي الأشواك وعلي الجمر.. عراة في البرد والصقيع.. جوعي في زمن الحصاد، عطشي ما بين النهر، لابد أن نسير، هذا قدرنا، ونحن له مؤمنين، نلملم بقايانا، ونعصر الريح ونصعق الخطر، نستأنس الوحشة، ونروض المحن، ندفن الموتي، ونسير في الجنازات ومواكب الشهداء.. نقتلع الحزن من قلوبنا المعصورة شجنا..ننفض عن كواهلنا التراب، وننزع أطواق الشوك الملفوفة حول رؤوسنا، نكسر القيد الحديد، لابد أن نسير، طوعا أو قسرا فلم يعد لركبنا وقوف.. هذا قدرنا.. نموت ألف مرة، لكننا لا نفني، أحيانا يدغدغ الخوف عظامنا لكنه لا يفقدنا توازننا، تؤلمنا السياط المطلوقة في أجسادنا والمعربدة داخل أحشائنا لكنها لا تضعفنا، بل تقوينا وتزيدنا إصرارا وتحديا..
يهجر أطفالنا المدارس والملاعب والساحات، ليعيدوا ترتيب الأشياء، وكتابة أرقام البيوت وتسمية الشوارع باسمائهم..
أيها المطرودون من دوائر الضوء وحدود الأوطان والجغرافيا الأممية.
أيها الواقفون دوما داخل الدوائر الجمركية للتفتيش والمتابعة..
أيها الواقفون في طوابير المرور إلي بوابات الوطن
الممنوعون من الصرف والتعداد والحقوق وبطاقات الهوية
المزروعون في قرص الشمس المحترق..
الباحثون عن الوطن المغصوب..
الهاربون من أجهزة الرصد، وملاحقة المخبرين..
في يوم الأرض .. الله معكم .. الله معكم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.