«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النافذة الأولي :
جسر معلق من الذكريات

إن ذكرياتي المتلاشية كالحلم مع شارع محمد محمود كمكان قبل الثورة بسيطة وتافهة لا تتعدي الجلوس علي ناصية الشارع من الميدان. حيث كانت هنا يوماً »قهوة أسترا« ملتقي المثقفين في منتصف السبعينيات حيث الأصدقاء لابسو القمصان المشجرة. نشرب الشاي ونتكلم كثيراً، ونبحلق في حسناوات الجامعة الأمريكية كثيراً ونحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية أكثر.
والآن زحفت الثورة علي شارع محمد محمود.. انطوت صفحته القديمة في الذاكرة، وانبثقت صفحة جديدة. فهذا الشارع الآن بالنسبة لي هو الشارع المَعْبد.. بيت الموجة الثانية للثورة المصرية.. المكان المنقوش بالحكايات والرسوم ، والمعطر برائحة الدم. إنه الفضاء الجنائزي الذي سجلت علي حوائطه بالرسوم والصور المواجهات العنيفة للثورة المطالبة بمدنية الدولة، وزوال حكم العسكر. بعد أيام الوئام الأولي التي عرفت شعار.. الجيش والشعب إيد واحدة . وبفضل شهداء هذا الشارع ومصابيه.. اضطر المجلس العسكري لأول مرة إعلان برنامج زمني لتسليم السلطة لحكم مدني منتخب في مصر .
فلنهتف جميعاً لهذا الشارع .. يسقط شارع العروبة.. يسقط شارع تسعة بالمعادي.. يسقط الماضي الأسود.. يسقط شهيد ثم ينهض ثم يسقط.. ويسقط المطر الأسود.. ويسقط الجنرال في الوحل.. يسقط القمع بين الرصيف والرصيف.. يسقط الموت بين الرصيف والرغيف ..تسقط كل الشوارع .
ويحيا شارع محمد محمود .
فن يتفاعل مع الحدث
الجرافيتي هو فن الناس في الشارع.. هو فن تفاعلي مع المكان بالفطرة. لا يكتسب شرعيته إلا في وجوده في عرض الطريق ووسط الجماهير.. في قلب الأحداث معايشاً لها ومسجلاً لتطورها . فالجدار يمثل صفحة التاريخ البيضاء التي يكتبها الجرافيتي ، ثم يأتي كل عابر سبيل ليضع فوقها شيئاً من تجربته الإنسانية باللون والرسم والكتابة. وكالعادة في شارع محمد محمود تأتي السلطة محتجة لتطمس هذه الرسوم فتعيد طلائها.. وفي الصباح يعاود الفنان الجرافيتي والناس رسم هذه الحوائط من جديد، مستلهمين روح هذا الشارع التي أكسبته في دواخلنا هيبةً وجلالاً .
مازال الفجر مختنقاً من حولنا.. الثورة لم تبلغ نهايتها.. ولم تحقق أهدافها الجسورة في العيش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وأن روح الثورة التي يتسربل بها شباب الجرافيتي حية لن تموت.. الثورة مازالت مستمرة.. والقلب يدق كما العصفور ينتظر الفرج .
شهادات إنسانية كالجسر الممتد بين الشارع والصورة ..
اسمحوا لي أن أقوم برحلة عبر الزمان والمكان، لتقديم شهادات إنسانية حية تضيء الروح وجوانب التعبير في الرسوم والصور والكتابات التي تركها شباب الجرافيتي في شارع محمد محمود . من خلال لقطات سريعة كثيفة ، وعبر ومضات حية تداعت يوماً علي خبرة الذات .. وظلت قابعة هناك في أعماق الذاكرة تنتظر البزوغ .
أيها الأصدقاء .. هذه لقطات متفرقة من هذا الشارع تمثل مدخل أولي لمعرفة روح المكان ، الذي انبثقت منه هذه الرسائل البصرية التي أرسلها لنا رسامي الجرافيتي. في مشاهد تعبيرية نراها محلقة علي جدران هذا الشارع الأسطورة قبل إزالتها .
واللقطة من وجهة نظري هي نص بصري يجمع ما بين الوثائقي والتراجيدي الإنساني .. فهي تسجيل وتخليد للحظة الوعي ، وهي تقبض أو تلتقط مشهد ما ينبض بالحياة . وأظن أنه من دون هذه اللقطات تصبح محاولتنا لقراءة الرسوم والكتابات الجرافيتية في هذا الشارع رحلة في بحر الظلمات .. وخاصة بالنسبة لأفراد لم يعايشوا أحداث هذا الشارع عن قرب .
ستة لقطات إنسانية
لقد اخترت مجموعة من اللقطات الإنسانية التي جلبت من الذاكرة لأحداث شارع محمد محمود ، وحاولت تأملها لأرصد ما يقوله لي الوعي عن هذه الأحداث . كما حاولت أن أحلل ماهية هذه الانفعالات في بعض اللقطات التي أخذتني وأحدثت فيّ نوعاً من الصدمة .
وفي هذا الصدد اخترت ستة من اللقطات الإنسانية في أحداث محمد محمود تصنع وتوجد علاقة بين الحدث والصورة الجرافيتية علي حوائط هذا الشارع. وهي كسرد تمثل جسراً أو منطقة وسطي تجمع بين ما هو حقيقي مرئي وما هو ذاتي في كل واحد .
(1).. صورة حلوة وصورة مرة
كنت أشاهد الشباب والشابات صغيري السن المتهورين جثث متحركة .. مشاريع شهادة من أجل الوطن . في هذا الشارع أدركت أن هذا الشعب كسر جدار الأمن في جمهورية الخوف نهائياً .. وأدركت أيضاً أن روح الثورة لن تموت في هذا الوطن بعد الآن .
لا أصدق ما رأيته علي أرض هذا الشارع .. امرأة في الخمسينيات من عمرها تدفع ابنتها الشابة ذات الخامسة عشر ربيعاً لتتقدم الصفوف الأولي للمواجهات ، وتحضها لاقتحام المخاطر لتثأر لدم أخيها الذي استشهد ليلة الأربعاء الأسود بميدان عبد المنعم رياض .. إنها زينب رأفت المرأة المصرية الطيبة .
وسط الصخب.. انتهز الفرصة للاقتراب منها والبوح معها بالكلام: يا ست.. مش خايفة علي بنتك.. تقول لي: خايفة! ربنا هوه الحافظ .. أخوها الوحيد استشهد في الثورة .. هوة اللي كان بيعولنا من بعد ابوه ما مات.. اللي كان حيلتنا راح، ماعادش عندنا حاجة نخسرها . استشعرت بشيء من الحياء من نفسي.. وانطلقت ابنتها واختفت وسط غابة من رؤوس البشر الغاضبة .. ومنمنمة صوتية هائلة من صيحات المشتبكين.. سب وشتم وهتافات ونداءات بين الأصدقاء وصراخ نساء.. وصوت بغيض لسيارة مصفحة سوداء .. ودقات متكررة لقرع طبول الحرب علي الأسوار الحديدية .. ودبدبات بعض أحذية الجنود لابسي الخوذ .. وصوت طلقات الخرطوش تمر من جانبنا .
وسط هذا الزخم ورائحة الموت في عز الظهر .. أدركت أن النساء والبنات هن صانعات الثورة الحقيقيان . في هذا الوقت عندما تعامدت الشمس علي الرؤوس .. تعالت الأصوات بالهتاف مرة أخري .." يسقط يسقط حكم العسكر .. إحنا الشعب الخط الأحمر " .. وفي آخر النهار .. يهبط المساء .. ليبدأ في الصبح فصل جديد في حياة هذا الشارع .
(2) .. علم مصر لم ينم
غريب أمر هذه الثورة . لم تكن لها قيادة منظمة .. كانت ثورة بلا رأس . إلا أنها كانت نابضة بالحياة والذكاء .. وعرفت كيف ترسم طريقة الصراع مع السلطة . ومن تجليات هذا الأمر .. المشهد الحضاري الذي تمثل في تواجد علم مصر في مقدمة الصفوف أثناء الأحداث في الشارع يلوح به شاب وسط المتظاهرين . كان هذا العلم يتوشح بهلال يحتضن صليب سُطرت عليه كلمة حرية .. وفي الأسفل من العلم كانت راية الشهيد مينا دانيال الحمراء علي الساري ، مطبوع عليها وجهه المتطلع للأمام .. بملامحه الصارمة . وفي الأيام الخمسة لثورة شارع محمد محمود , أدهشني أن أري هذا العلم بنفس موضع كل يوم في المقدمة مع المتظاهرين وطليعة الثوار . وفي مشاهد الفيديو التي بثها التلفاز من هذا الشارع كان العلم لا يغادر موقعه حتي مع توقف الاشتباكات . وعرفنا فيما بعد أن اثنين من الشباب يتولون مسؤولية حمله.. هما طارق معوض شاب سلفي ، ومايكل كرارة شاب مسيحي . وهما الاثنان من اصدقاء مينا دانيال .
حول هذا العلم التف شباب الألتراس من ناهيا وبولاق والجيزة وشبرا ومدينة نصر.. متقدمين وسط الغاز والخرطوش يتغنون »قالوا الشغب في دمنا« .. وازاي بنطلب حقنا.. يا نظام غبي افهم بقي مطلبي .. حري .. حرية.. حرية .
(3) .. نموت ويحيا .. الوطن
علي رصيف شارع محمد محمود سرت إلي جانب رجل عجوز طاعن في السن يلبس عمامة بيضاء .. من وجهه يشع نور الصلاح .. تدمع عينا الرجل وهو مستند علي الحائط . كان يتحدث ويأكل نصف الكلام ، يحمل بين يديه منديلا محلاويا به ثلاث طلقات من الرصاص . نظر لي برفق وقال : انهم يضربون بالرصاص الحي.. قلت له : يا شيخ لا تحزن .. الله حي والصبح جي .. وأثناء الحوار ما كف اطلاق الخرطوش المتقطع . انتصف النهار .. وما توقفت موجات الشباب في الدخول والخروج من وإلي الشارع . علي الجانب الآخر من الرصيف ، شاب نحيل طويل القامة يصرخ بصوت عال : ياجبناء .. ها نحن أحياء أيها الفارون . ينفجر الشباب في الضحك من هذا النداء العقيم.. يا رفيق.. سنستريح قليلاً وسنعود . الرصاص.. الرصاص.. صوت طلقة وطلقتين.. سقط الشاب علي الأرض . وعندما كانت روحه تترجل إلي السماء نطق الشهادتين .. ومات . وفي آخر الليل .. كان صديقي رقماً من شهداء الثورة في الأخبار .
كل الوجوه في عيني ترحل .. ووجه هذا الشاب الجسور يلازمني أينما توجهت .
أيها الأصدقاء .. يموت الشباب كي يحيا الوطن .. نحن الوطن .
نحن الوطن ..
إن لم يكن بنا كريماً آمناً .. ولم يكن محترماً .. ولم يكن حراً
فلا عشنا .. ولا عاش الوطن . »الشاعر أحمد مطر« .
(4) .. تباً لك أيها الجندي
أشعر بالعار والخجل من نفسي عندما أتذكر هذا المشهد المصور المهين لنا ، الذي بثته وسائل الإعلام وشاهدته ملايين العيون حول العالم .
المشهد .. مجموعة من جنود الأمن تجمعوا حول فتاة من شابات الثورة قاموا بسحلها وتعريتها علي أرض الشارع . ضربوها بالبيادات بغباء وقسوة . وقفز واحد من هؤلاء الجبناء علي صدرها بحذائه بكل ضغينة . يا هؤلاء الذين تجمعوا حول الضحية كسرب بق ميت .. أيها العبيد .. ويا أيتها الوجوه الكئيبة التي لا تعرف الرجولة والنخوة ولا تعرف الحياء .. لا نامت أعينكم . ولا نامت كل عين باركت جريمتكم .
أما أنت أيها الجندي المقاتل فوق أجساد النساء .. أيها المخصي المفتقد لشهامة الرجال .. نتبرأ منك يا من لا تعرف حرمة الجسد .. العار سيلاحقك في كل مكان تذهب إليه .. العار عليك من أخمص رأسك إلي القدمين .
أيها الجبناء .. يا رجال من صفيح .. لا تنسوا أن تقصوا شواربكم ليلاً أمام المريا الصفراء .
أما أنتِ يا ابنتي .. عيوننا لم تشاهد إلا الستر .. لا تخجلي أيتها الشهيدة الحية .
في المساء .. القمر في محمد محمود يذهب إلي حجرته .. والشوارع في آخر الليل بلون السواد ..
أيها العبيد .. ستمضون كعتمة هذا الليل البغيض .. وسيشرق غدنا دون وجودكم .
(5) .. الغيم الأحمر
مشهد مؤلم وجارح .. جندي لا يعرف قيمة الإنسان .. علموه أن كل شيء مستباح . يمسك بغلظة يد شاب ميت ويجر جسده المتسربل بالدم الأحمر علي الأسفلت . فيسحلة لتتكحل عيون الشهيد بتراب الأرض من أثر الجر ، ليتركها بجوار صندوق للقمامة وسط المزابل والوساخات لتنضم إلي كومة من أجساد الموتي المهملة فوق الرصيف . في مشهد بلغ حداً قميئاً من القسوة والاستهانة بحرمة الموتي .
أيها الناس .. الحق أقول لكم : " لا حق لحي إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات " نجيب سرور .
أيها الجندي الممسك بيد الشهيد في قسوة .. انزع خوذتك المبللة بالدم . توضأ في الفجر واطلب المغفرة من الرحمن .
ويا أيها الجنود أشباه الرجال .. لماذا تهون جثث الشهداء وحرمتها عليكم ؟ أيخبو مع قهركم عزم الرجال وعزم الضمائر ؟
وأنت أيها الشهيد النائم علي الرصيف .. سنتذكرك في »أحلي زهرات بلادي .. في ضحكة عصفور شادي .. في لون الأرض .. في كل النسمات الحلوة .. في رفة أهداب الغنوة .. في نعس الليل في روعة آذان »الفجر وعبير الفل» »الشاعرة زينب حبش« .
انصرفت بعيداً .. ويجري خلفي شاب صغير خائفاً من لابسي الخوذ السوداء وجحافل البلطجية . انتقل من مكان إلي مكان .. تأخذني الخطي إلي ميدان طلعت حرب . لوحت لتاكسي بيدي فأقبل نحوي .. وغادرت .
أيها المطر الطاهر في السماء .. ألن تهطل علينا وتغسل هذه المرة العار الذي يلاحقنا ؟
(6) .. نساء تصنع الثورة
وسط الشارع .. ووسط هذا الصخب من أصوات الرعب الحي ورائحة الغاز الكثيف والدم وطلقات الخرطوش العمياء التي تخترق العيون والصدور .. تقف فتاة صغيرة علي ناصية الشارع بيدها حجر وتنتظر . وفتاة أخري تقف علي حجر كبير في منتصف الشارع تصور الأحداث في لقطات حية .. فتصوب الكاميرا نحو الهدف وتضغط علي الزناد . بجانبها امرأة أخري منتقبة في عنفوان الشباب تعمل بهمة كمسعفة .. تحتضن الموت القادم من فوهات البنادق . قلبها قلب فارس شجاعة بمائة رَجل . لا تبالي برصاصات الخرطوش من حولها .. تتحرك بثبات وإصرار لتضميد جريح مصاب في الرأس . ووسط هذا الحشد من بطولات النساء كانت صافرات الألتراس تنطلق لتوجيه الدرجات النارية موتسيكلات الإسعاف الدليفري ، تلك الآلات التي تتكلم بأصوات شبه بشرية . تجلي المصابين والمختنقين برائحة الغاز وبعيداً عن المواجهات الدامية .
امرأة في الستين من العمر تناشد بصوتٍ عالً رجال المحروسة . أيها الواقفون في الشوارع علي عتبات البيوت .. انزلوا واغلقوا خلفكم الأبواب .. نحن هنا في شارع محمد محمود .
تنطلق صيحات من جديد .. الجدع جدع والجبان جبان ... تضرب بالغاز تضرب برصاص .. جيلنا من الموت ما بيخافش خلاص .
وأخيراً ..
"يا أيها الأطفال .. يا أمل الثورة .. أنتم بعد طيبون .. كالندي والثلج طاهرون ..
لا تقرأوا عن جيلنا .. لا تقرأوا أخبارنا ..لا تقتفوا آثارنا ..لا تقبلوا أفكارنا
ونحن جيل الدجل والرقص علي الحبال " نزار قباني .
أيها الأطفال يا مطر الربيع .. يا سنابل الآمال .. الثورة ما زالت مستمرة .. مستمرة .
النافذة الثانية :
المناطق المظلمة في رسوم الجرافيتي
لماذا نكتب عن الجرافيتي اللامرئي بشارع محمد محمود ؟
خرجت في الصباح لا أحمل سوي بطاقتي الشخصية وهموم الدنيا علي كتفي .. ميدان التحرير يستيقظ والدكاكين تفتح أبوابها ، وفي بداية شارع محمد محمود علي الرصيف .. وسط الزحام ووجوه الناس الغلابة الباحثة عن لقمة العيش .. يسير شيخ وضيء طويل القامة يقارب الثمانين يتكيء علي عكاز. وبدون مقدمات يتحدث الرجل .. أيها الأستاذ .. أنا بتردد علي هذا الشارع كل صباح عندما يستبد بي الشوق والحنين لابني الشهيد . فهنا مشي ، وفيه نزف ، وبجوار هذا الحائط كانت خطواته الأخيرة . وفي هذا المكان لامست رأسه الأرض ، وخرجت روحه إلي خالقها يا حضرة الأستاذ أنا لا أتذكر من الحياة إلا صوته ولا أتذكر إلا وجهه .
وسط همهمات بعض الشباب وقف الشيخ أمام الحائط الأبيض مشيراً بعكازه وقال : يا أستاذ علي هذا الحائط كانت صورة ابني الشهيد بوجهه البريء كوجه الصلاة ، موجودة هنا تحت هذا الطلاء في برواز أسود ، وفوق جبينه اسمه الثلاثي . يا أستاذ لازلت أشم رائحة دمه تعطر المكان . يا أستاذ كلم السلطات .. قول لهم طلاء الجدران في محمد محمود بالأبيض حرام ، لماذا يحكمون علي صور الشهيد بالإعدام .. أريد أن أستعيد وجه ابني الشهيد علي الجدار وهو ما يفرحني . مددت يدي لأصافح هذا الرجل عتيق القسمات .. ثم ذهبت إلي منزلي لأبدأ في كتابة هذا الجزء من المقال .
رؤية وجه آخر لا مرئي
في هذا الشارع الطويل الممتد من ميدان التحرير تراكمت طبقات الطلاء الأبيض المتكرر علي الجدران .. تطمس وتغطي بكثافة الرسوم والصور والكتابات الجرافيتية ، وأصبحنا الآن نقف في هذا الشارع أمام مقابر من الجدران البيضاء . فبين طبقات طلاء من النقش والرقش تنام خبيئة حقيقية من الكتابات والرسوم المصورة للشهداء والأحداث في الثورة ، وهي وثائق حية شاهدة علي الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق هذا الشارع أثناء الموجة الثانية الثورة .
أيها الناس .. يا قارعي طبول الخوف ..
في هذا الشارع في الفجر .. وتحت الدخان وطلقات الرصاص .. صاغ شباب الثورة والألتراس والعاطلين وطلبة المدارس الثانوي مرثيتهم الجماعية من التضحيات والذكريات المريرة ، في مدونات مصورة ترسم الشهداء وقاتليهم .. هذا الشارع بيت الجرافيتي . فأينما كان ظلم في مكان فذاك موطنه .
وعندما أدرك الناس أهمية هذا الشارع في تاريخ الثورة ، وبخطر زوال كنز بصري من الرسوم يؤرخ لأحداث الثورة ومراحلها علي حوائطه . نزل الكثير منهم إلي الشوارع يسجلون الرسوم الجرافيتية بالفيديو والفوتوغرافيا قبل أن تختبيء وتختفي تحت الطلاء . هذا التوثيق الشعبي أعطي قبلة حياة لهذه الرسوم ، فانتقلت عبر الوسائط الرقمية إلي أفلام وثائقية قصيرة متاحة علي اليوتيوب يشاهدها العالم كله .
ولكي تكتمل الدائرة يمكن تسجيل بعد آخر جديد لهذه الصور ، يتمثل في رصد روحها التي لا تري بالعين فهي منطقة مظلمة مهملة تتجلي بالتأمل للصورة المرئية . والتسجيل هنا تذكر , فعل يتحدي النسيان ,عمل تحريضي وشهادة إنسانية بالكتابة الموازية للمشهد .
قبل القراءة يا صديقي .. تذكر هذه الملاحظة الصغير ..
قبل أن أستدعي ملامح تأملاتي الخاصة للرسوم الخبيئة بين طبقات الطلاء علي جدران شارع محمد محمود وإعادة بنائها من الذاكرة .. يساورني شعور بالرضا حين أقول لكم :
أن عين البصيرة وليس البصر هي التي توجه عملية القراءة لروح هذه الرسوم المختبئة بين طبقات اللون وهو ما يجعل هذه الكتابة تبتعد عن الثرثرة والتفاصيل الصغيرة للصور وفي الوقت ذاته تستدعي تجليات الوجود المرئي المكثف لها الذي يطل علينا ويلاحقنا ويوجه إدراكنا , ويكشف صدي هذه الرسوم داخلنا بفعل التخيل والاستدعاء القصدي للذكريات التي تلاحقنا من أحداث هذا الشارع .
ومن بين الرؤية والتشكيل أقدم لكم شهادتي علي ستة صور جرافيتية تم طلاؤها بالأبيض وأصبحت خبيئة علي جدران محمد محمود .
أنس .. أيها الطلسم الأخضر
مساء الخير أيها الوطن في هذا الليل البهيم .
الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح .. وها هو الضوء لم يعد يركض في خطوات الأطفال ..
هل تتذكرون صورة الطفل " أنس" والساعات المرعبة التي عشناها معه في أحداث بور سعيد ؟ هذا الفتي المكلبظ منكوش الشعر أصغر شهداء الألتراس . أنس .. اين كنت ساعة الحادثة وأنت تبكي وترتجف ؟
وسط نظرات الحزن الطويلة ، وبقع الدم الصغيرة علي ملابس هذا الفتي . كان جسد هذا العصفور مستلقي علي يد أبو تريكة لاعب الأهلي الشهير يلقنه الشهادة وبعد أن نطقها بلحظات مات .
وداعاً يا أنس ..أيها العصفور الكناري المسافر في ضوء القمر . أيها العصفور الأخضر الصغير الذي يتمخطر علي حيطان محمد محمود .. الآن يا بني أصبحت رسماً علي الحيطان تسكن هذا الشارع الطويل حيث يقبع الموتي في براويز .. أشاهد وجهك المطلي بالظل الأخضر محدد بخط أسود ثقيل .. البرواز الذي يحتويك عليه شارة سوداء بلون الحداد ، وبجوارك زهرتين من اللوتس الأبيض .. إحداهما تنتظر التفتح في النهار ، والأخري مخضبة بالضوء الاحمر .
أنس أيها الوجه الصبوح في برواز .. لقد رسم الجرافيتي لك جنيح صغير ملائكي كالوشاح الاحمر . أنس لا تخف .. بجوارك الرفاق والأصدقاء من الشهداء .. محمد جمال ، محمود سليمان ، أحمد يونس .. الكل محدد بالأسود ينتظر في البراويز ليلقي التحية علينا .
أنس .. نتذكر ضحكتك البريئة المشرقة وعيناك الضيقتان وكأنهما خط مستقيم مشقوق . كل ذنبك أنك مغرم بفريق للكرة .. ذهبت لتشجعه .. ولم تعد حتي الآن .
يا أنس نتحاشي التطلع نحوك ونخجل من عينيك التي تنظر إلي الشارع الطويل .. وتسأل عن القاتل .. ولا توجد لدينا إجابة .
أنس ..كل شيء في غرفتك يقول وداعاً .. هذا سريرك .. هذا مكان جلوسك . وفي غرفتك الصغيرة المملوءة بصور النجوم ، يسأل الضوء عن بيته , ومن بين ثيابك الرياضية المعلقة علي الجدران تشرق الشمس خجولة علي مرايل الأطفال عندما يذهبون إلي المدارس كل صباح ، وكأنهم علي موعد مع طلوع النهار .
أيها الأولاد الصغار .. هيا تعالوا .. من قبل أن يأتي المساء في القاهرة .
تباً لك أيها الأعمي
أصدقائي .. أينما توجهت في هذا الشارع الأسطورة ينفتح البصر ، وتصفو الصورة ، ويتفجر في داخلي الألوان .
أصدقائي ..لا تنسوا رسم صورة قاتلي علي الجدار باللون الأسود . اكتبوا اسمه ، ورتبته العسكرية .. ارسموا هؤلاء الجنود الجبناء وهم يصوبون بنادقهم السوداء علي العيون ، فهم يعرفون أن العيون تقرأ الذي لا يقال . ولو يحرموني من نور عيوني سأري الدنيا من عيني رفيقي .
أخي الواقف علي ناصية الشارع تحمل علماً أبيض ..
"لا تصالح .. ولو منحوك الذهب
أتري حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. هل تري ؟
هي أشياء لا تشتري .. لا تصالح »أمل دنقل« .
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين .. هل تتذكرون هذا الضابط الغاوي شهرة مثل النجوم ، الذي ظهر في الفيديو الشهير »جدع يا باشا .. جت في عين الواد« . إنه الملازم محمود الشناوي الشهير بقناص العيون عدو الثورة ، والمسجل خطر في قائمة العار علي حوائط الجرافيتي بمحمد محمود , في هذا الشارع الأصفر علي الجدار تصاوير لهذا الضابط باللون الأسود ، وفم أحمر ، و أنف أحمر .. وكتب تحت كل صورة له ابحث مع الشرطة " مطلوب حياً أو ميتاً .. حتي لا تنساه الذاكرة . تباً لك أيها الشرطي الضرير , فالعين عليها حارس .
أيها السلطان الأرمد .. عندما تغلق أبواب النهار .. أبشر بالعمي . وعندما تغرق عينيك في بحر العمي ..فالنور أسود ، والمطر أسود ، والوطن أسود ، والقلب أسود .. أيها السلطان .. اغسل يديك بالصابون الأبيض .
أصدقائي .. ربنا ما يحرمكم من نور العيون .
جنازة الشهيد
الشهداء يصعدون إلي الجنة .. مشهد جرافيتي علي سور الجامعة الأمريكية بامتداد شارع محمد محمود . داخل هذا الجدار ينام الشهداء تحت الطلاء الأبيض الجديد . ويقال بحث الشباب عن وطن حر فوجدوه علي شكل تابوت .
وفي المشهد تابوت خشبي مزركش محمول علي الأعناق ترقد فيه جثة الشهيد كالمومياء , يقول الشهيد من داخل الصندوق : لا تصمت أبداً .. إن الصمت جهالة .
يقول الشهيد : كل الألوان لها صوت فينا يتردد ، وكل الخطوط لها صوت فينا يتمدد .. أيها العابرون بجوار السور نتحدث إليكم ونحن مخضبون بالألوان علي الجدار . أيها الناس لا وقت للبكاء .. امزجوا البخور والمسك بغبار الموتي الأرجواني .. فالموت مخبوء لكم في الطرقات .. انتبهوا .. انتبهوا .. لا تصمتوا . أوليس الموت صمت . الشهداء ماتوا لم ينتظروا النياشين . " ما دار بخلد الواحد منهم حين استشهد أن الاستشهاد بطولة .. ماذا يتمني أن يأخذ من أعطي آخر ما يملك " نجيب سرور .
علي طول المدي تتكرر صور النساء الباكيات النائحات بالغناء الحزين .. أيديهم ترتفع إلي أعلي في إيقاعات متتالية تناجي السماء . هذا مشهد جنائزي يستلهم طقوس الموت عند المصري القديم علي إيقاعات الطبل وضجيجها الجنائزي الحزين .. وتردد المعددات : كان لنا سبع تهيبه السوبوعة .. والسبع مات واحنا أكلنا الضبوعة .
نسمع رجع انبعاث الصدي .. والحياة من حولنا ماضية بكل جلباتها . جنازة الشهيد اختفت من علي الحائط وكأن شيئاً لم يكن .. وكأن الثورة لم تبدأ بعد وهذا ما يؤرقني
, ونسأل الآن .. من يخيط الكفن الأسود لهذا الوطن ؟ والسؤال يؤرقني .. ألن تهطل علينا أيها المطر الابيض في الشوارع ؟ .
الشيخ الشهيد
أبا " سمية " أنا جبان أمام الكتابة عنك .. علي الحائط في الشارع الطويل قرب مكتبة الجامعة الأمريكية القديمة .. يقف رسم علي الجدار لرجل مهيب يلبس جبة العالم الأزهري يشع من وجهه تباشير الفجر ، وذابت روحه في بركة القرآن .. إنه الشيخ المعمم " عماد عفت " أبا سمية ، أحد شهداء الثورة في شارع مجلس الوزراء .. تبت اليد الجبانة التي ضغطت علي الزناد نحوك . بجوار هذا الشهيد أسمع تلاوة للشيخ محمد صديق المشناوي يقرأ آيتين من الكتاب بجوار الشهيد علي الحائط كتبت بخط كبير " وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا ، ربنآ اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً " سورة الأحزاب . آية (67،78)
في جنازة الشيخ الشهيد بكت شوارع القاهرة . ووسط نحيب الصدور يأتي من بعيد صوت ابنته الصغيرة " سمية " في الفيديو الشهير : ردوا إلي أبي . كلمات كالسكين تجرح القلوب ، وتحفر صورته علي ألف جدار .
أيها الذئاب المختبئون وسط الثوار .. أيها الجبناء انظروا إلي هذه الفراشة الصغيرة هاهي الآن صامتة .." حرمتها يد الغدر من أمان أبيها .. من ارتداء الثياب الجديدة .. من أب يبتسم يوم عرسها .. وتعود إليه إذا الزوج أغضبها .. وإذا زارها .. يتسابق أحفادها نحو أحضانه .. لينالوا الهدايا ، ويلهون بلحيته " وهو مستسلم " ، ويشدوا العمامة ... لا تصالح .. لا تصالح .. »أمل دنقل« .
سمية .. يا زهرة بيضاء صغيرة .. هؤلاء القتلة ليس لديهم بنات . هؤلاء نزعت من قلوبهم الرحمة . أيتها اليمامة الصغيرة .. سنأتي بحق أبيك الشهيد الواقف في شموخ علي الجدار بمحمد محمود .. فالوطن الآن يا صغيرتي لا يكذب ، ولكنه يتجمل .
حاملات الأنابيب
في وسط شارع محمد محمود نقف لننادي .. أيتها النساء المرسومات علي الجدار تحملن أنابيب الغاز في تتحدي وإصرار .. يا أم فاطمة وزينب وسعاد . يا ام جورج . يا أختي زكية .. يا من لا تعرفون العطور الفرنسية والخواتم الثمينة . ولا امشاط العاج وجلود الفراء ومراوح الريش . أيتها الأمهات والأخوات .. كنا في انتظاركم . أقسم بالله العظيم أعرف أنكم
صامدون لن تركعوا .. وستغلقون في وجه الظلم أبوابكم . أيتها المنتقبة الملتحفة بالسواد علي الجدار .. يا أم محمد يا من تحملين اسطوانة الغاز المكتوب عليها في المنتصف .. " التغيير " . ألن تبوحي بأحزانك ؟ بالكلام الجارح ضد الظالمين ..لا تتكلم فالضوء أحمر. أيتها البنات والأمهات الكبار الحاملات اسطوانات الغاز علي الجدار .. الالوان الزرقاء في الرسوم تفوح منها رائحة الحياة . وعندما يتواري في الغياب اللون الأزرق من علي الحوائط .. في الشارع .. البحر يموت .. وإن مات البحر الكل يموت .
أيها الجرافيتي يا من رسمت الوطن والبشر والطين .. أنا قلبي مساكن شعبية يتسع للجميع .
أمهات الشهداء
جدارية طويلة متصلة تتخللها كتابات سياسية »إنس اللي فات خليك ورا الانتخابات« في ثنايا الجدارية تظهر أمهات الشهداء في صور نصفية يتدثرن بالملابس السوداء . أتذكر أغنية فايزة أحمد .. ست الحبايب يا حبيبة ، يا أغلي من روحي ودمي .. يا حنينة وكلك طيبة . يارب يخليكي يا أمي يا ست الحبايب يا حبيبة . علي المدي أمهات مصريات .. أم الشهيد " مصطفي الصاوي " الذي مات علي رأس كوبري قصر النيل تحمل صورته بيديها ، وتعرضها لنا بإصرار . وأم أخري أعرف صوتها وملامح وجهها .. إنها أم الشهيد " مينا دانيال " الذي يلاحقنا صوتها البرتقالي وهي تقول : لن أترك حقك يا مينا . هذه المرأة المصرية التي تقول لنا في تسجيل آخر : ربنا أعطاني أمانة وخدها . وعلي الجانب الآخر من الجداريه .. الست " ليلي أم خالد سعيد " التي أطلقت الرصاصة الأولي للغضب بإصرارها علي أخذ حق ابنها من القتلة وأباطرة التعذيب في وزارة الداخلية .
أحن إلي خبز أمي .. وقهوة أمي .. ولمسة أمي . وتكبر في الطفولة يوماً علي صدر يوم .. وأعشق عمري لأني إذا مت اخجل من دمع أمي " محمود درويش " .
المساء يهبط علينا .. وفي البيت التاسع بدرب الأغا .. أنادي : يا ست الحاجة لا تنتظري علي حافة الشباك في عز البرد .. ابنك لن يأتي .. ابنك مات كما يموت الناس .. مات وتناقلوا النبأ الأليم في التليفزيونات . يا حاجة ابنك شهيد الحرية .. الكلمات تختنق والكتابة تتوقف . فيا أيها السلطان الجائر .. خلف كل ثائر يموت أحزان بلا حدود .
وأخيراً القراءة انتهت .. والسرد الذي أكتبه مازال يحلق بعيداً يتوقف أمام لمحات صغيرة ملونة علي الجدار تجلب ذكريات شاردة .. تبحث عن وجه الحقيقة وصوت الضمير .
يا شباب .. .. الثورة علمتنا العيش أحراراً . فلن نأكل قمعاً أو نشرب خوفاً .. ولن نظلم بعد اليوم .
كيف سنقاوم لصوص الحوائط الذين ابتلعوا صور الجرافيتي وتقيئوها لوناً أبيضاً علي الحيطان ؟ هل الرسم علي الحيطان بحرية جريمة ؟
لماذا نكتب عن الجرافيتي اللامرئي بشارع محمد محمود ؟
خرجت في الصباح لا أحمل سوي بطاقتي الشخصية وهموم الدنيا علي كتفي .. ميدان التحرير يستيقظ والدكاكين تفتح أبوابها ، وفي بداية شارع محمد محمود علي الرصيف .. وسط الزحام ووجوه الناس الغلابة الباحثة عن لقمة العيش .. يسير شيخ وضيء طويل القامة يقارب الثمانين يتكيء علي عكاز. وبدون مقدمات يتحدث الرجل .. أيها الأستاذ .. أنا بتردد علي هذا الشارع كل صباح عندما يستبد بي الشوق والحنين لابني الشهيد . فهنا مشي ، وفيه نزف ، وبجوار هذا الحائط كانت خطواته الأخيرة . وفي هذا المكان لامست رأسه الأرض ، وخرجت روحه إلي خالقها يا حضرة الأستاذ أنا لا أتذكر من الحياة إلا صوته ولا أتذكر إلا وجهه .
وسط همهمات بعض الشباب وقف الشيخ أمام الحائط الأبيض مشيراً بعكازه وقال : يا أستاذ علي هذا الحائط كانت صورة ابني الشهيد بوجهه البريء كوجه الصلاة ، موجودة هنا تحت هذا الطلاء في برواز أسود ، وفوق جبينه اسمه الثلاثي . يا أستاذ لازلت أشم رائحة دمه تعطر المكان . يا أستاذ كلم السلطات .. قول لهم طلاء الجدران في محمد محمود بالأبيض حرام ، لماذا يحكمون علي صور الشهيد بالإعدام .. أريد أن أستعيد وجه ابني الشهيد علي الجدار وهو ما يفرحني . مددت يدي لأصافح هذا الرجل عتيق القسمات .. ثم ذهبت إلي منزلي لأبدأ في كتابة هذا الجزء من المقال .
رؤية وجه آخر لا مرئي
في هذا الشارع الطويل الممتد من ميدان التحرير تراكمت طبقات الطلاء الأبيض المتكرر علي الجدران .. تطمس وتغطي بكثافة الرسوم والصور والكتابات الجرافيتية ، وأصبحنا الآن نقف في هذا الشارع أمام مقابر من الجدران البيضاء . فبين طبقات طلاء من النقش والرقش تنام خبيئة حقيقية من الكتابات والرسوم المصورة للشهداء والأحداث في الثورة ، وهي وثائق حية شاهدة علي الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق هذا الشارع أثناء الموجة الثانية الثورة .
أيها الناس .. يا قارعي طبول الخوف ..
في هذا الشارع في الفجر .. وتحت الدخان وطلقات الرصاص .. صاغ شباب الثورة والألتراس والعاطلين وطلبة المدارس الثانوي مرثيتهم الجماعية من التضحيات والذكريات المريرة ، في مدونات مصورة ترسم الشهداء وقاتليهم .. هذا الشارع بيت الجرافيتي . فأينما كان ظلم في مكان فذاك موطنه .
وعندما أدرك الناس أهمية هذا الشارع في تاريخ الثورة ، وبخطر زوال كنز بصري من الرسوم يؤرخ لأحداث الثورة ومراحلها علي حوائطه . نزل الكثير منهم إلي الشوارع يسجلون الرسوم الجرافيتية بالفيديو والفوتوغرافيا قبل أن تختبيء وتختفي تحت الطلاء . هذا التوثيق الشعبي أعطي قبلة حياة لهذه الرسوم ، فانتقلت عبر الوسائط الرقمية إلي أفلام وثائقية قصيرة متاحة علي اليوتيوب يشاهدها العالم كله .
ولكي تكتمل الدائرة يمكن تسجيل بعد آخر جديد لهذه الصور ، يتمثل في رصد روحها التي لا تري بالعين فهي منطقة مظلمة مهملة تتجلي بالتأمل للصورة المرئية . والتسجيل هنا تذكر , فعل يتحدي النسيان ,عمل تحريضي وشهادة إنسانية بالكتابة الموازية للمشهد .
قبل القراءة يا صديقي .. تذكر هذه الملاحظة الصغير ..
قبل أن أستدعي ملامح تأملاتي الخاصة للرسوم الخبيئة بين طبقات الطلاء علي جدران شارع محمد محمود وإعادة بنائها من الذاكرة .. يساورني شعور بالرضا حين أقول لكم :
أن عين البصيرة وليس البصر هي التي توجه عملية القراءة لروح هذه الرسوم المختبئة بين طبقات اللون وهو ما يجعل هذه الكتابة تبتعد عن الثرثرة والتفاصيل الصغيرة للصور وفي الوقت ذاته تستدعي تجليات الوجود المرئي المكثف لها الذي يطل علينا ويلاحقنا ويوجه إدراكنا , ويكشف صدي هذه الرسوم داخلنا بفعل التخيل والاستدعاء القصدي للذكريات التي تلاحقنا من أحداث هذا الشارع .
ومن بين الرؤية والتشكيل أقدم لكم شهادتي علي ستة صور جرافيتية تم طلاؤها بالأبيض وأصبحت خبيئة علي جدران محمد محمود .
أنس .. أيها الطلسم الأخضر
مساء الخير أيها الوطن في هذا الليل البهيم .
الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح .. وها هو الضوء لم يعد يركض في خطوات الأطفال ..
هل تتذكرون صورة الطفل " أنس" والساعات المرعبة التي عشناها معه في أحداث بور سعيد ؟ هذا الفتي المكلبظ منكوش الشعر أصغر شهداء الألتراس . أنس .. اين كنت ساعة الحادثة وأنت تبكي وترتجف ؟
وسط نظرات الحزن الطويلة ، وبقع الدم الصغيرة علي ملابس هذا الفتي . كان جسد هذا العصفور مستلقي علي يد أبو تريكة لاعب الأهلي الشهير يلقنه الشهادة وبعد أن نطقها بلحظات مات .
وداعاً يا أنس ..أيها العصفور الكناري المسافر في ضوء القمر . أيها العصفور الأخضر الصغير الذي يتمخطر علي حيطان محمد محمود .. الآن يا بني أصبحت رسماً علي الحيطان تسكن هذا الشارع الطويل حيث يقبع الموتي في براويز .. أشاهد وجهك المطلي بالظل الأخضر محدد بخط أسود ثقيل .. البرواز الذي يحتويك عليه شارة سوداء بلون الحداد ، وبجوارك زهرتين من اللوتس الأبيض .. إحداهما تنتظر التفتح في النهار ، والأخري مخضبة بالضوء الاحمر .
أنس أيها الوجه الصبوح في برواز .. لقد رسم الجرافيتي لك جنيح صغير ملائكي كالوشاح الاحمر . أنس لا تخف .. بجوارك الرفاق والأصدقاء من الشهداء .. محمد جمال ، محمود سليمان ، أحمد يونس .. الكل محدد بالأسود ينتظر في البراويز ليلقي التحية علينا .
أنس .. نتذكر ضحكتك البريئة المشرقة وعيناك الضيقتان وكأنهما خط مستقيم مشقوق . كل ذنبك أنك مغرم بفريق للكرة .. ذهبت لتشجعه .. ولم تعد حتي الآن .
يا أنس نتحاشي التطلع نحوك ونخجل من عينيك التي تنظر إلي الشارع الطويل .. وتسأل عن القاتل .. ولا توجد لدينا إجابة .
أنس ..كل شيء في غرفتك يقول وداعاً .. هذا سريرك .. هذا مكان جلوسك . وفي غرفتك الصغيرة المملوءة بصور النجوم ، يسأل الضوء عن بيته , ومن بين ثيابك الرياضية المعلقة علي الجدران تشرق الشمس خجولة علي مرايل الأطفال عندما يذهبون إلي المدارس كل صباح ، وكأنهم علي موعد مع طلوع النهار .
أيها الأولاد الصغار .. هيا تعالوا .. من قبل أن يأتي المساء في القاهرة .
تباً لك أيها الأعمي
أصدقائي .. أينما توجهت في هذا الشارع الأسطورة ينفتح البصر ، وتصفو الصورة ، ويتفجر في داخلي الألوان .
أصدقائي ..لا تنسوا رسم صورة قاتلي علي الجدار باللون الأسود . اكتبوا اسمه ، ورتبته العسكرية .. ارسموا هؤلاء الجنود الجبناء وهم يصوبون بنادقهم السوداء علي العيون ، فهم يعرفون أن العيون تقرأ الذي لا يقال . ولو يحرموني من نور عيوني سأري الدنيا من عيني رفيقي .
أخي الواقف علي ناصية الشارع تحمل علماً أبيض ..
"لا تصالح .. ولو منحوك الذهب
أتري حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. هل تري ؟
هي أشياء لا تشتري .. لا تصالح »أمل دنقل« .
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين .. هل تتذكرون هذا الضابط الغاوي شهرة مثل النجوم ، الذي ظهر في الفيديو الشهير »جدع يا باشا .. جت في عين الواد« . إنه الملازم محمود الشناوي الشهير بقناص العيون عدو الثورة ، والمسجل خطر في قائمة العار علي حوائط الجرافيتي بمحمد محمود , في هذا الشارع الأصفر علي الجدار تصاوير لهذا الضابط باللون الأسود ، وفم أحمر ، و أنف أحمر .. وكتب تحت كل صورة له ابحث مع الشرطة " مطلوب حياً أو ميتاً .. حتي لا تنساه الذاكرة . تباً لك أيها الشرطي الضرير , فالعين عليها حارس .
أيها السلطان الأرمد .. عندما تغلق أبواب النهار .. أبشر بالعمي . وعندما تغرق عينيك في بحر العمي ..فالنور أسود ، والمطر أسود ، والوطن أسود ، والقلب أسود .. أيها السلطان .. اغسل يديك بالصابون الأبيض .
أصدقائي .. ربنا ما يحرمكم من نور العيون .
جنازة الشهيد
الشهداء يصعدون إلي الجنة .. مشهد جرافيتي علي سور الجامعة الأمريكية بامتداد شارع محمد محمود . داخل هذا الجدار ينام الشهداء تحت الطلاء الأبيض الجديد . ويقال بحث الشباب عن وطن حر فوجدوه علي شكل تابوت .
وفي المشهد تابوت خشبي مزركش محمول علي الأعناق ترقد فيه جثة الشهيد كالمومياء , يقول الشهيد من داخل الصندوق : لا تصمت أبداً .. إن الصمت جهالة .
يقول الشهيد : كل الألوان لها صوت فينا يتردد ، وكل الخطوط لها صوت فينا يتمدد .. أيها العابرون بجوار السور نتحدث إليكم ونحن مخضبون بالألوان علي الجدار . أيها الناس لا وقت للبكاء .. امزجوا البخور والمسك بغبار الموتي الأرجواني .. فالموت مخبوء لكم في الطرقات .. انتبهوا .. انتبهوا .. لا تصمتوا . أوليس الموت صمت . الشهداء ماتوا لم ينتظروا النياشين . " ما دار بخلد الواحد منهم حين استشهد أن الاستشهاد بطولة .. ماذا يتمني أن يأخذ من أعطي آخر ما يملك " نجيب سرور .
علي طول المدي تتكرر صور النساء الباكيات النائحات بالغناء الحزين .. أيديهم ترتفع إلي أعلي في إيقاعات متتالية تناجي السماء . هذا مشهد جنائزي يستلهم طقوس الموت عند المصري القديم علي إيقاعات الطبل وضجيجها الجنائزي الحزين .. وتردد المعددات : كان لنا سبع تهيبه السوبوعة .. والسبع مات واحنا أكلنا الضبوعة .
نسمع رجع انبعاث الصدي .. والحياة من حولنا ماضية بكل جلباتها . جنازة الشهيد اختفت من علي الحائط وكأن شيئاً لم يكن .. وكأن الثورة لم تبدأ بعد وهذا ما يؤرقني
, ونسأل الآن .. من يخيط الكفن الأسود لهذا الوطن ؟ والسؤال يؤرقني .. ألن تهطل علينا أيها المطر الابيض في الشوارع ؟ .
الشيخ الشهيد
أبا " سمية " أنا جبان أمام الكتابة عنك .. علي الحائط في الشارع الطويل قرب مكتبة الجامعة الأمريكية القديمة .. يقف رسم علي الجدار لرجل مهيب يلبس جبة العالم الأزهري يشع من وجهه تباشير الفجر ، وذابت روحه في بركة القرآن .. إنه الشيخ المعمم " عماد عفت " أبا سمية ، أحد شهداء الثورة في شارع مجلس الوزراء .. تبت اليد الجبانة التي ضغطت علي الزناد نحوك . بجوار هذا الشهيد أسمع تلاوة للشيخ محمد صديق المشناوي يقرأ آيتين من الكتاب بجوار الشهيد علي الحائط كتبت بخط كبير " وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا ، ربنآ اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً " سورة الأحزاب . آية (67،78)
في جنازة الشيخ الشهيد بكت شوارع القاهرة . ووسط نحيب الصدور يأتي من بعيد صوت ابنته الصغيرة " سمية " في الفيديو الشهير : ردوا إلي أبي . كلمات كالسكين تجرح القلوب ، وتحفر صورته علي ألف جدار .
أيها الذئاب المختبئون وسط الثوار .. أيها الجبناء انظروا إلي هذه الفراشة الصغيرة هاهي الآن صامتة .." حرمتها يد الغدر من أمان أبيها .. من ارتداء الثياب الجديدة .. من أب يبتسم يوم عرسها .. وتعود إليه إذا الزوج أغضبها .. وإذا زارها .. يتسابق أحفادها نحو أحضانه .. لينالوا الهدايا ، ويلهون بلحيته " وهو مستسلم " ، ويشدوا العمامة ... لا تصالح .. لا تصالح .. »أمل دنقل« .
سمية .. يا زهرة بيضاء صغيرة .. هؤلاء القتلة ليس لديهم بنات . هؤلاء نزعت من قلوبهم الرحمة . أيتها اليمامة الصغيرة .. سنأتي بحق أبيك الشهيد الواقف في شموخ علي الجدار بمحمد محمود .. فالوطن الآن يا صغيرتي لا يكذب ، ولكنه يتجمل .
حاملات الأنابيب
في وسط شارع محمد محمود نقف لننادي .. أيتها النساء المرسومات علي الجدار تحملن أنابيب الغاز في تتحدي وإصرار .. يا أم فاطمة وزينب وسعاد . يا ام جورج . يا أختي زكية .. يا من لا تعرفون العطور الفرنسية والخواتم الثمينة . ولا امشاط العاج وجلود الفراء ومراوح الريش . أيتها الأمهات والأخوات .. كنا في انتظاركم . أقسم بالله العظيم أعرف أنكم
صامدون لن تركعوا .. وستغلقون في وجه الظلم أبوابكم . أيتها المنتقبة الملتحفة بالسواد علي الجدار .. يا أم محمد يا من تحملين اسطوانة الغاز المكتوب عليها في المنتصف .. " التغيير " . ألن تبوحي بأحزانك ؟ بالكلام الجارح ضد الظالمين ..لا تتكلم فالضوء أحمر. أيتها البنات والأمهات الكبار الحاملات اسطوانات الغاز علي الجدار .. الالوان الزرقاء في الرسوم تفوح منها رائحة الحياة . وعندما يتواري في الغياب اللون الأزرق من علي الحوائط .. في الشارع .. البحر يموت .. وإن مات البحر الكل يموت .
أيها الجرافيتي يا من رسمت الوطن والبشر والطين .. أنا قلبي مساكن شعبية يتسع للجميع .
أمهات الشهداء
جدارية طويلة متصلة تتخللها كتابات سياسية »إنس اللي فات خليك ورا الانتخابات« في ثنايا الجدارية تظهر أمهات الشهداء في صور نصفية يتدثرن بالملابس السوداء . أتذكر أغنية فايزة أحمد .. ست الحبايب يا حبيبة ، يا أغلي من روحي ودمي .. يا حنينة وكلك طيبة . يارب يخليكي يا أمي يا ست الحبايب يا حبيبة . علي المدي أمهات مصريات .. أم الشهيد " مصطفي الصاوي " الذي مات علي رأس كوبري قصر النيل تحمل صورته بيديها ، وتعرضها لنا بإصرار . وأم أخري أعرف صوتها وملامح وجهها .. إنها أم الشهيد " مينا دانيال " الذي يلاحقنا صوتها البرتقالي وهي تقول : لن أترك حقك يا مينا . هذه المرأة المصرية التي تقول لنا في تسجيل آخر : ربنا أعطاني أمانة وخدها . وعلي الجانب الآخر من الجداريه .. الست " ليلي أم خالد سعيد " التي أطلقت الرصاصة الأولي للغضب بإصرارها علي أخذ حق ابنها من القتلة وأباطرة التعذيب في وزارة الداخلية .
أحن إلي خبز أمي .. وقهوة أمي .. ولمسة أمي . وتكبر في الطفولة يوماً علي صدر يوم .. وأعشق عمري لأني إذا مت اخجل من دمع أمي " محمود درويش " .
المساء يهبط علينا .. وفي البيت التاسع بدرب الأغا .. أنادي : يا ست الحاجة لا تنتظري علي حافة الشباك في عز البرد .. ابنك لن يأتي .. ابنك مات كما يموت الناس .. مات وتناقلوا النبأ الأليم في التليفزيونات . يا حاجة ابنك شهيد الحرية .. الكلمات تختنق والكتابة تتوقف . فيا أيها السلطان الجائر .. خلف كل ثائر يموت أحزان بلا حدود .
وأخيراً القراءة انتهت .. والسرد الذي أكتبه مازال يحلق بعيداً يتوقف أمام لمحات صغيرة ملونة علي الجدار تجلب ذكريات شاردة .. تبحث عن وجه الحقيقة وصوت الضمير .
يا شباب .. .. الثورة علمتنا العيش أحراراً . فلن نأكل قمعاً أو نشرب خوفاً .. ولن نظلم بعد اليوم .
كيف سنقاوم لصوص الحوائط الذين ابتلعوا صور الجرافيتي وتقيئوها لوناً أبيضاً علي الحيطان ؟ هل الرسم علي الحيطان بحرية جريمة ؟
النافذة الثالثة :
الجرافيتي .. فن الجماهير
ازدهر فن الجرافيتي في مصر بعد أحداث ثورة 25 يناير وأصبح واحداً من وسائل التعبير التي أفرزتها الثورة . وكعادة المصري القديم سجل بعض الشباب الثائر مشاعرهم الدفينة بين الناس ، وفي عرض شارع متفرع من ميدان التحرير بوسط القاهرة . إنه الشارع الشهير محمد محمود الذي استمد قوته قديماً من اسم صاحبه محمد محمود باشا (1878-1941) الرجل الصعيدي ابن أسيوط ، ووزير الداخلية المعروف باستخدامه القوة المفرطة في قمع الشعب .
في هذا الشارع اكتست الجدران والحوائط برسوم الجرافيتي بكل ما تحمله من ألم و أمل في مستقبل أفضل . فصارت هذه الرسوم والصور شاهداً علي فقأ العيون والقتل بالرصاص وتخليد الشهداء . وهو ما أكسب هذا الشارع الهيبة والجلال في ضمير الشعب المصري .
والسؤال المهم هو : ما أهمية وجدوي الصورة الجرافيتية الآن ، ونحن نعيش عصر الصورة الرقمية ؟
بالقطع نحن نعيش في عالم حي من الصور ، بل عالم من الصور الحية .. أو لنقل .. عصر الصورة . ولكن أهمية الصورة الجرافيتية وبخاصة في شارع محمد محمود ترجع إلي كونها شهادات إنسانية فريدة في مجملها لا تكذب ، وتؤرخ لما حدث في هذا الشارع بأمانة . إنها جزء من عملية التوثيق الحي للثورة المصرية . وهذه النظرة للجرافيتي تطرح تساؤلاً آخراً مهماً هو : أليست الصور من الفوتوغرافيا والفيديو تسجل وتوثق شهادات حية حقيقية أيضاً ؟
أليست الصورة لا تكذب ؟
صحيح أن الصورة شاهد ، لكنها شاهد علي شيء لم يعد موجوداً ومن السهل تزويرها . وعندما أقول أن الصورة لا تكذب فهذا محض افتراء . وهناك مثال شهير لتزييف الصورة قامت به جريدة الأهرام في سقطة مهنية - ليست بريئة - يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2010م ، تمثل في نقل صورة الرئيس العجوز المخلوع مبارك الذي كان في مؤخرة الصورة ، ليصبح بقدرة قادر في المقدمة قائداً لمسيرة أربعة زعماء خلفه في الصورة المزيفة ، والتي ضمت : أوباما ، نتنياهو ، الملك عبد الله ملك الأردن ، ومحمود عباس .
الصورة الجرافيتية لا تكذب !
الصورة الآن يمكن أن تصنع تاريخاً مزيفاً ، ويمكن أن تسجل لحظة تاريخية لم تقع أصلاً في نطاق الزمن . لكن الصورة الجرافيتية صادقة لا يمكن أن تزيف الحقيقة لأنها لقطة مشهرة تراقبها أثناء الولادة الجماهير الشاهدة والمعايشة للحدث في الشارع ، والتي يمكن أن تصحح محتواها بالتغيير لو كانت تحمل مفاهيم كاذبة .
إن الجرافيتي اليوم في مصر بعد الثورة لم يعد فقط مرادفاً لحرية التعبير والحق في الاحتجاج بعد عقود من القهر والظلم وتكميم الأفواه ، بل أصبح موازياً للثورة ، يسير علي دربها ويسجل أحداثها ، ويكتسب كل يوم مساحة من المصداقية والأرض الجديدة في الشارع المصري . لقد تداخل الجرافيتي في الحياة اليومية الآن ، وأصبح بحق .. فن الجماهير .
الآن .. اسمحوا لي بالسؤال عن ماهية الجرافيتي ..
والسؤال عن الماهية ربما يكون مؤشراً لحالة ارتباك داخلي . والارتباك لا يكون مزموماً دائماً .. فقد يكون عنواناً لأحاسيس مختلطة ، وانفعالات متناقضة تمثل بداية تكوين رؤية لم تكتمل لهذا الفن في مصر . وبعيداً عن طبيعة نشأته تاريخياً ينخرط مصطلح الجرافيتي داخل مجموعة من المفاهيم تُستدعي عند أي تعريف له وهي :
الجرافيتي .. هو فن الجماهير وحركات التظاهر . يخاطب الناس في الشارع من خلال رسائل بصرية مباشرة من رسوم وصور وكتابات لها معني ومفهومة . يتم وضعها لتري بوضوح علي السطوح المفتوحة مثل الجدران والأبنية والأبواب وأسفل الجسور وعند كل منعطف في شوارع المدينة .
الجرافيتي .. هو فن يقوم علي تغيير الملامح العامة للسطوح المفتوحة من خلالا تأثيرات تتم باستخدام بخاخ اللون او القلم المحدد الفسفوري أو بالطباشير أو بتقنية السلك سكرين والاستنسل أو بالفرشاة والرول للفنانين المحترفين ، من أجل انتاج رسوم وتصاوير وكتابات فنية معبرة ، تجد صدي في الذاكرة الجمعية للناس في الشارع .
الجرافيتي .. فن سريع الزوال يحمل فكرة فنائه في بنيته . فهو مشتبك مع الشرعية ، ودائماً في مواجهة مع القانون والسلطة والقوي الراديكالية في المجتمع . الكل متربص به .. يقفون له خلف الجدران بالمرصاد .. هو فن في حالة من الكر والفر دوماً ، وصراع لا ينتهي من أجل البقاء .
الجرافيتي .. دائماً ما يتحدي فكرة الملكية الخاصة للحوائط والأسوار في المدينة .. لا يأخذ إذن من أحد سواء المالك أو السلطة بالرسم . ولذلك فهو مهدد دائماً بالرغبة في التخلص منه في أقرب فرصة .
الجرافيتي .. لا يسكن إلا الشوارع ، وعنوانه هو اللا منتظر . وهو لن يكون يوماً طبالاً أو زماراً لأحد إلا للحقيقة . لذلك عندما يضع الفنان الجرافيتي رسومه علي الحائط فهو يعلم جيداً أنه يبني عشاً لطائرٍ في جحر الثعبان .
الجرافيتي .. هو فن الشارع والناس الغلابة ، لا يعترف بالأكاديمية . ويفقد معناه إذا تم حفظه في عرض متحفي مغلق . هو شيء حي يوجد وسط الجماهير .. يمكن الحذف منه والإضافة عليه .. وهو ليس شيئاً نفيساً بالقياس المادي ينبغي حمايته والحفاظ عليه في مكان آمن .
ويجب أن ننوه أن حالة الصراع هذه والمناخ التصادمي مع السلطة هي جزء من خاصية هذا الفن . فهو يعطيه قوة دفع .. دورات من الموت والميلاد من جديد . إنه حركة تعبير متدفقة تنتشر وتزدهر وتأخذ قوة دفع هائلة مع القهر والمنع والإزالة . وعندما تمحو " الأيدي الخفية " آثار الرسوم علي الحوائط وتعيد طلاء رسائل الرفض والثورة باللون الأبيض ، تتحول الجدران إلي صفحات ناصعة تغوي الجرافيتي بالرسم عليها من جديد . لذلك عندما أزالت إدارة الجامعة الأمريكية الجداريات التي سجلها المتظاهرون وفناني الجرافيتي خلال أحداث محمد محمود في نوفمبر 2011م ، عادت جداريات أخري أكثر جمالاً وأكثر جرأة علي ذات الحوائط . فالجرافيتي فن متجدد حي لا يموت .
خصائص الفن الجرافيتي
لقد تحول الجرافيتي في مصر من مجرد وسيلة اجتماعية للدعاية إلي أداة سياسية وصوت للثورة بين الجماهير يعبر عن مراحل تدفقها . وهذه الطفرة في التحول والتسارع في الانتشار ساهمت في دخول هذا الفن دائرة الغموض . ولذلك اسمحوا لي باستدعاء بعض نمازج هذا الفن التي توضح خصائصه ، والأفق السياسي الذي ينطلق منه في مصر بعد الثورة .
يتميز هذا الفن بالجرأة والروح النقدية اللاذعة : وتمثل هذا في جدارية أسفل كوبري 6 أكتوبر بالزمالك .. مشهد يتنبأ بلحظة المواجهة غير المتكافئة بين الشعب والمجلس العسكري . فيصور الجرافيتي دبابة كبيرة بكل بأسها وجبروتها تصوب مدفعها الكبير علي حامل الخبز الشهير المواجه لها راكباً دراجته الهوائية المتهالكة .
تتميز الرسوم الجرافيتية بسهولة الفكرة ومباشرة المعني البصري . وفي رسالة إلي السلطة نفذها فناني الجرافيتي تحت شعار " مفيش جدران " تم رسم جدارية علي الحاجز الخرساني الذي أغلق شارع الشيخ ريحان ليفصل المتظاهرين عن وزارة الداخلية . تمثل رسماً منظورياً يوهم المشاهد بامتداد الشارع علي الكتل الاسمنتية لتصل الرسالة البصرية إلينا بأن الشارع لا يزال مفتوحاً .
يتداخل الجرافيتي مع الأحداث وحياة الناس اليومية ويصل إليهم في الشارع . ومن النماذج المحببة إلي نفسي جدارية علي سور مدرسة ليسيه الحرية بشارع محمد محمود . تحية إلي كل الوجوه والعيون التي فقدت الإبصار او أصيبت في أحداث 19 نوفمبر الدامية . وهي لمجموعة من المصابين فقدوا أبصارهم مدي الحياة بسبب الاطلاق المباشر والمتعمد للرصاص المطاطي علي حدقات العيون . هؤلاء المصابين يمثلون العديد من أطياف المجتمع .. فمنهم شاب من الألتراس ، وسلفي ملتحي ، وفتاة مصرية ، ووجه نعرفه لأحمد حرارة الرمز . والكل في الجدارية يضع أربطة الشاش والقطن علي الوجوه والعيون .
هذه أهم الخصائص التي تميز هذا الفن الذي لا تقتصر رسومه أو كتاباته علي الفنانين فقط . وهذا ما يميز هذا الفن ويجعل له خصوصية فريدة . فالكل يساهم في إنشاءه من الثوار والمتظاهرون والمارة من الناس أياً كانت قدراتهم الفنية .
وهناك العديد من الشباب كان مهتماً قبل الثورة بأشكال الجرافيتي ، أو أشكال الفن الاحتجاجي بمصر , إلا أن هذه التجارب لم تشكل ظاهرة أو تيار فني يعتد به . وقد خرج من رحم الثورة العديد من فناني الجرافيتي فرادي ومجموعات نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر .. الحلبي ، جنزير ، سادبندا ، التنين ، وشارلزعقل ، زفت ، عمار ، علاء ، فرعون ، بيبو ، هناء ، ومحمد خالد .
بيد أن رسامي هذا النوع من الفن غالباً جنود مجهولين لا يهمهم كثيراً أن تحمل أعمالهم توقيع أصحابها . وهم يخفون هوياتهم ويتخذون أسماء مستعارة لعدم البطش بهم أو التعرض للملاحقة القانونية بتهم نشر ملصقات ، وتخريب واجهات المباني العامة . وحدث هذا مع " علي الحلبي " صاحب جرافيتي " الرقص علي أنغام الثورة " . أو مثلما حدث مع " إياد " صاحب جرافيتي " إوعي يغرك دقنك " .
اختفاء الجرافيتي
بعد منتصف ليل الثلاثاء 18 سبتمبر عام 2012 م عند الفجر في شارع محمد محمود ، قام عمال بسطاء بتوجيه من هيئة نظافة وتجميل القاهرة ، وتحت حماية عربات الشرطة التي تراصت بجوار الرصيف . بإزالة رسوم الجرافيتي بهذا الشارع في إطار الحملة المبذولة لإعادة النظافة والمظهر الجمالي للمكان . وهذا التبرير صدمني .. فهو حق يراد به باطل .. فما تم هو جريمة حضارية ، ومدلوله بالغ السوء ينم عن الجهل بقيمة هذه الرسوم ، وبحرية التعبير دون خوف التي منحتنا إياها الثورة .
بالله عليكم .. ماذا سنكتب عن هذا الفعل اللا معقول ؟
يعتقد النظام العميق للدولة المصرية أن دهان الحيطان بالطلاء الجديد سيمحو من الذاكرة حالة الثورة . وان غسل الحيطان باللون الأبيض سيغسل يد السلطة من اللون الأحمر من دماء الشهداء التي سالت علي أسفلت هذا الشارع .
عجباً من رسم علي الجدران يرعب دولة .. عجباً من ذلك الذي يفزع من صوت الحق علي الجدران .
فهل ستموت الصورة في شارع محمد محمود كما يكون الموت للبطل في نهاية الأفلام العربية الأبيض والأسود ؟
يا سادة .. المصري الحقيقي لا يخجل من الرسوم . لا يخاف شيوع اللون في حياة الناس .
نريد مهرجاناً دولياً لفن الجرافيتي بعيداً عن الأطر الرسمية ومهرجاناتها التي فرغت فن الجرافيتي من مضمونه الاحتجاجي المتمرد علي السلطات .
نريد مهرجاناً عالمياً يجتمع فيه فناني الجرافيتي المحليون والأجانب مع الناس في ورش عمل . تتخذ من الشوارع التي احتضنت أحداث الثورة كعبة لجرافيتي العالم الأحرار .هذا المهرجان سيترك لنا في نهاية الأمر متحفاً مفتوحاً متجدداً من الصور الجرافيتية ، هو بمثابة مزاراً سياحي يوثق بالرسوم والكتابات منعطفات الثورة المصرية .
ازدهر فن الجرافيتي في مصر بعد أحداث ثورة 25 يناير وأصبح واحداً من وسائل التعبير التي أفرزتها الثورة . وكعادة المصري القديم سجل بعض الشباب الثائر مشاعرهم الدفينة بين الناس ، وفي عرض شارع متفرع من ميدان التحرير بوسط القاهرة . إنه الشارع الشهير محمد محمود الذي استمد قوته قديماً من اسم صاحبه محمد محمود باشا (1878-1941) الرجل الصعيدي ابن أسيوط ، ووزير الداخلية المعروف باستخدامه القوة المفرطة في قمع الشعب .
في هذا الشارع اكتست الجدران والحوائط برسوم الجرافيتي بكل ما تحمله من ألم و أمل في مستقبل أفضل . فصارت هذه الرسوم والصور شاهداً علي فقأ العيون والقتل بالرصاص وتخليد الشهداء . وهو ما أكسب هذا الشارع الهيبة والجلال في ضمير الشعب المصري .
والسؤال المهم هو : ما أهمية وجدوي الصورة الجرافيتية الآن ، ونحن نعيش عصر الصورة الرقمية ؟
بالقطع نحن نعيش في عالم حي من الصور ، بل عالم من الصور الحية .. أو لنقل .. عصر الصورة . ولكن أهمية الصورة الجرافيتية وبخاصة في شارع محمد محمود ترجع إلي كونها شهادات إنسانية فريدة في مجملها لا تكذب ، وتؤرخ لما حدث في هذا الشارع بأمانة . إنها جزء من عملية التوثيق الحي للثورة المصرية . وهذه النظرة للجرافيتي تطرح تساؤلاً آخراً مهماً هو : أليست الصور من الفوتوغرافيا والفيديو تسجل وتوثق شهادات حية حقيقية أيضاً ؟
أليست الصورة لا تكذب ؟
صحيح أن الصورة شاهد ، لكنها شاهد علي شيء لم يعد موجوداً ومن السهل تزويرها . وعندما أقول أن الصورة لا تكذب فهذا محض افتراء . وهناك مثال شهير لتزييف الصورة قامت به جريدة الأهرام في سقطة مهنية - ليست بريئة - يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2010م ، تمثل في نقل صورة الرئيس العجوز المخلوع مبارك الذي كان في مؤخرة الصورة ، ليصبح بقدرة قادر في المقدمة قائداً لمسيرة أربعة زعماء خلفه في الصورة المزيفة ، والتي ضمت : أوباما ، نتنياهو ، الملك عبد الله ملك الأردن ، ومحمود عباس .
الصورة الجرافيتية لا تكذب !
الصورة الآن يمكن أن تصنع تاريخاً مزيفاً ، ويمكن أن تسجل لحظة تاريخية لم تقع أصلاً في نطاق الزمن . لكن الصورة الجرافيتية صادقة لا يمكن أن تزيف الحقيقة لأنها لقطة مشهرة تراقبها أثناء الولادة الجماهير الشاهدة والمعايشة للحدث في الشارع ، والتي يمكن أن تصحح محتواها بالتغيير لو كانت تحمل مفاهيم كاذبة .
إن الجرافيتي اليوم في مصر بعد الثورة لم يعد فقط مرادفاً لحرية التعبير والحق في الاحتجاج بعد عقود من القهر والظلم وتكميم الأفواه ، بل أصبح موازياً للثورة ، يسير علي دربها ويسجل أحداثها ، ويكتسب كل يوم مساحة من المصداقية والأرض الجديدة في الشارع المصري . لقد تداخل الجرافيتي في الحياة اليومية الآن ، وأصبح بحق .. فن الجماهير .
الآن .. اسمحوا لي بالسؤال عن ماهية الجرافيتي ..
والسؤال عن الماهية ربما يكون مؤشراً لحالة ارتباك داخلي . والارتباك لا يكون مزموماً دائماً .. فقد يكون عنواناً لأحاسيس مختلطة ، وانفعالات متناقضة تمثل بداية تكوين رؤية لم تكتمل لهذا الفن في مصر . وبعيداً عن طبيعة نشأته تاريخياً ينخرط مصطلح الجرافيتي داخل مجموعة من المفاهيم تُستدعي عند أي تعريف له وهي :
الجرافيتي .. هو فن الجماهير وحركات التظاهر . يخاطب الناس في الشارع من خلال رسائل بصرية مباشرة من رسوم وصور وكتابات لها معني ومفهومة . يتم وضعها لتري بوضوح علي السطوح المفتوحة مثل الجدران والأبنية والأبواب وأسفل الجسور وعند كل منعطف في شوارع المدينة .
الجرافيتي .. هو فن يقوم علي تغيير الملامح العامة للسطوح المفتوحة من خلالا تأثيرات تتم باستخدام بخاخ اللون او القلم المحدد الفسفوري أو بالطباشير أو بتقنية السلك سكرين والاستنسل أو بالفرشاة والرول للفنانين المحترفين ، من أجل انتاج رسوم وتصاوير وكتابات فنية معبرة ، تجد صدي في الذاكرة الجمعية للناس في الشارع .
الجرافيتي .. فن سريع الزوال يحمل فكرة فنائه في بنيته . فهو مشتبك مع الشرعية ، ودائماً في مواجهة مع القانون والسلطة والقوي الراديكالية في المجتمع . الكل متربص به .. يقفون له خلف الجدران بالمرصاد .. هو فن في حالة من الكر والفر دوماً ، وصراع لا ينتهي من أجل البقاء .
الجرافيتي .. دائماً ما يتحدي فكرة الملكية الخاصة للحوائط والأسوار في المدينة .. لا يأخذ إذن من أحد سواء المالك أو السلطة بالرسم . ولذلك فهو مهدد دائماً بالرغبة في التخلص منه في أقرب فرصة .
الجرافيتي .. لا يسكن إلا الشوارع ، وعنوانه هو اللا منتظر . وهو لن يكون يوماً طبالاً أو زماراً لأحد إلا للحقيقة . لذلك عندما يضع الفنان الجرافيتي رسومه علي الحائط فهو يعلم جيداً أنه يبني عشاً لطائرٍ في جحر الثعبان .
الجرافيتي .. هو فن الشارع والناس الغلابة ، لا يعترف بالأكاديمية . ويفقد معناه إذا تم حفظه في عرض متحفي مغلق . هو شيء حي يوجد وسط الجماهير .. يمكن الحذف منه والإضافة عليه .. وهو ليس شيئاً نفيساً بالقياس المادي ينبغي حمايته والحفاظ عليه في مكان آمن .
ويجب أن ننوه أن حالة الصراع هذه والمناخ التصادمي مع السلطة هي جزء من خاصية هذا الفن . فهو يعطيه قوة دفع .. دورات من الموت والميلاد من جديد . إنه حركة تعبير متدفقة تنتشر وتزدهر وتأخذ قوة دفع هائلة مع القهر والمنع والإزالة . وعندما تمحو " الأيدي الخفية " آثار الرسوم علي الحوائط وتعيد طلاء رسائل الرفض والثورة باللون الأبيض ، تتحول الجدران إلي صفحات ناصعة تغوي الجرافيتي بالرسم عليها من جديد . لذلك عندما أزالت إدارة الجامعة الأمريكية الجداريات التي سجلها المتظاهرون وفناني الجرافيتي خلال أحداث محمد محمود في نوفمبر 2011م ، عادت جداريات أخري أكثر جمالاً وأكثر جرأة علي ذات الحوائط . فالجرافيتي فن متجدد حي لا يموت .
خصائص الفن الجرافيتي
لقد تحول الجرافيتي في مصر من مجرد وسيلة اجتماعية للدعاية إلي أداة سياسية وصوت للثورة بين الجماهير يعبر عن مراحل تدفقها . وهذه الطفرة في التحول والتسارع في الانتشار ساهمت في دخول هذا الفن دائرة الغموض . ولذلك اسمحوا لي باستدعاء بعض نمازج هذا الفن التي توضح خصائصه ، والأفق السياسي الذي ينطلق منه في مصر بعد الثورة .
يتميز هذا الفن بالجرأة والروح النقدية اللاذعة : وتمثل هذا في جدارية أسفل كوبري 6 أكتوبر بالزمالك .. مشهد يتنبأ بلحظة المواجهة غير المتكافئة بين الشعب والمجلس العسكري . فيصور الجرافيتي دبابة كبيرة بكل بأسها وجبروتها تصوب مدفعها الكبير علي حامل الخبز الشهير المواجه لها راكباً دراجته الهوائية المتهالكة .
تتميز الرسوم الجرافيتية بسهولة الفكرة ومباشرة المعني البصري . وفي رسالة إلي السلطة نفذها فناني الجرافيتي تحت شعار " مفيش جدران " تم رسم جدارية علي الحاجز الخرساني الذي أغلق شارع الشيخ ريحان ليفصل المتظاهرين عن وزارة الداخلية . تمثل رسماً منظورياً يوهم المشاهد بامتداد الشارع علي الكتل الاسمنتية لتصل الرسالة البصرية إلينا بأن الشارع لا يزال مفتوحاً .
يتداخل الجرافيتي مع الأحداث وحياة الناس اليومية ويصل إليهم في الشارع . ومن النماذج المحببة إلي نفسي جدارية علي سور مدرسة ليسيه الحرية بشارع محمد محمود . تحية إلي كل الوجوه والعيون التي فقدت الإبصار او أصيبت في أحداث 19 نوفمبر الدامية . وهي لمجموعة من المصابين فقدوا أبصارهم مدي الحياة بسبب الاطلاق المباشر والمتعمد للرصاص المطاطي علي حدقات العيون . هؤلاء المصابين يمثلون العديد من أطياف المجتمع .. فمنهم شاب من الألتراس ، وسلفي ملتحي ، وفتاة مصرية ، ووجه نعرفه لأحمد حرارة الرمز . والكل في الجدارية يضع أربطة الشاش والقطن علي الوجوه والعيون .
هذه أهم الخصائص التي تميز هذا الفن الذي لا تقتصر رسومه أو كتاباته علي الفنانين فقط . وهذا ما يميز هذا الفن ويجعل له خصوصية فريدة . فالكل يساهم في إنشاءه من الثوار والمتظاهرون والمارة من الناس أياً كانت قدراتهم الفنية .
وهناك العديد من الشباب كان مهتماً قبل الثورة بأشكال الجرافيتي ، أو أشكال الفن الاحتجاجي بمصر , إلا أن هذه التجارب لم تشكل ظاهرة أو تيار فني يعتد به . وقد خرج من رحم الثورة العديد من فناني الجرافيتي فرادي ومجموعات نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر .. الحلبي ، جنزير ، سادبندا ، التنين ، وشارلزعقل ، زفت ، عمار ، علاء ، فرعون ، بيبو ، هناء ، ومحمد خالد .
بيد أن رسامي هذا النوع من الفن غالباً جنود مجهولين لا يهمهم كثيراً أن تحمل أعمالهم توقيع أصحابها . وهم يخفون هوياتهم ويتخذون أسماء مستعارة لعدم البطش بهم أو التعرض للملاحقة القانونية بتهم نشر ملصقات ، وتخريب واجهات المباني العامة . وحدث هذا مع " علي الحلبي " صاحب جرافيتي " الرقص علي أنغام الثورة " . أو مثلما حدث مع " إياد " صاحب جرافيتي " إوعي يغرك دقنك " .
اختفاء الجرافيتي
بعد منتصف ليل الثلاثاء 18 سبتمبر عام 2012 م عند الفجر في شارع محمد محمود ، قام عمال بسطاء بتوجيه من هيئة نظافة وتجميل القاهرة ، وتحت حماية عربات الشرطة التي تراصت بجوار الرصيف . بإزالة رسوم الجرافيتي بهذا الشارع في إطار الحملة المبذولة لإعادة النظافة والمظهر الجمالي للمكان . وهذا التبرير صدمني .. فهو حق يراد به باطل .. فما تم هو جريمة حضارية ، ومدلوله بالغ السوء ينم عن الجهل بقيمة هذه الرسوم ، وبحرية التعبير دون خوف التي منحتنا إياها الثورة .
بالله عليكم .. ماذا سنكتب عن هذا الفعل اللا معقول ؟
يعتقد النظام العميق للدولة المصرية أن دهان الحيطان بالطلاء الجديد سيمحو من الذاكرة حالة الثورة . وان غسل الحيطان باللون الأبيض سيغسل يد السلطة من اللون الأحمر من دماء الشهداء التي سالت علي أسفلت هذا الشارع .
عجباً من رسم علي الجدران يرعب دولة .. عجباً من ذلك الذي يفزع من صوت الحق علي الجدران .
فهل ستموت الصورة في شارع محمد محمود كما يكون الموت للبطل في نهاية الأفلام العربية الأبيض والأسود ؟
يا سادة .. المصري الحقيقي لا يخجل من الرسوم . لا يخاف شيوع اللون في حياة الناس .
نريد مهرجاناً دولياً لفن الجرافيتي بعيداً عن الأطر الرسمية ومهرجاناتها التي فرغت فن الجرافيتي من مضمونه الاحتجاجي المتمرد علي السلطات .
نريد مهرجاناً عالمياً يجتمع فيه فناني الجرافيتي المحليون والأجانب مع الناس في ورش عمل . تتخذ من الشوارع التي احتضنت أحداث الثورة كعبة لجرافيتي العالم الأحرار .هذا المهرجان سيترك لنا في نهاية الأمر متحفاً مفتوحاً متجدداً من الصور الجرافيتية ، هو بمثابة مزاراً سياحي يوثق بالرسوم والكتابات منعطفات الثورة المصرية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.