لا شك أن تطبيق الشريعة كاملة غير منقوصة هو المطلوب. ولا شك أن كل خطوة تنقل بها واقعاً سيئاً إلي واقع أقل سوءاً هي خطوة إيجابية يجب الترحيب بها وهو ما يعرف بفقه الممكن. لكن الآفة الكبري التي أصابت بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أنه يحاول أن يجعل الممكن هو عين المطلوب. وهذا يمثل تحريفاً للشريعة وتضيعاً لثوابتها. وإخضاعاً لها لسلطان الواقع المعاش. هذا ما ذهب إليه علماء الأمة سلفاً وخلفاً نظرية وتطبيقاً. فقد ذهبوا إلي القول بان مرحلية الحركة لا تعني مرحلية التصور.. فالشريعة التي نسعي إلي تطبيقها في واقع الحياة اليومية منهج متكامل الأركان. متماسك البنيان. قائم علي تصور كلي للأحياء والأشياء وعلاقاتهما بالكون المحيط بهما.. تصور يجمع بين الدنيا والآخرة في سلسلة محكمة الحلقات لانفصام لها.. غير أن أحكام هذه الشريعة عند التطبيق تحكمها شروط القدرة وتتحكم فيها موانع الاستطاعة وهو ما يعرف بالممكن.. لأن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتحقيقها.. ودرء المفاسد وتقليلها.. فإن عجزنا عن درء المفاسد كلية مع القدرة علي درء بعضها وجب.. وان عجزنا عن تحقيق المصلحة كلها مع القدرة علي تحقيق بعضها وجب.. وهذا لا يعني أن نعتبر أن تحقيقنا للممكن هو عين المطلوب. لا ولكن هذا هو المتاح وهذا هو الميسور الذي ينبغي أن لا يسقط بالمعسور. ومثال ذلك عند أهل العلم كالآتي: هب أن جماعة من الغرقي في بحر متلاطم الأمواج. فالمسلك الصحيح لإنقاذهم هو وضع منارات واضحة علي شاطئ النجاة. ثم النزول إليهم بقوارب الإنقاذ وكل من استطعنا نقله إلي الشاطئ فهو خطوة في الطريق الصحيح ومؤشر علي قرب السلامة والاقتراب من العافية والبعد عن مظآن الهلكة المحققة. ولذا فمن يمتنع عن ذلك بحجة أن هذه الخطوة لن ترفع عنه الخطر بالكلية فهو مخطئ ومثل بمثل في الخطأ من اعتقد أن النجاة التامة قد حصلت له بمجرد هذه الخطوة. لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.. كما يقول الفقهاء. مثلاً آخر يقرب الفهم: هب أن صبياً ارتفعت درجة حرارته حتي دقت نواقيس الخطر وتم إدخاله العناية المركزة وبدأ الأطباء يتعاملون مع الحالة بالمتاح من العقاقير حتي بدأ مؤشر الحرارة في التوقف عن مواصلة الارتفاع هنا يبدأ الأطباء يستبشرون ويبشرون أهل المريض بأنه تخطي المرحلة الحرجة وهو في طريقه متماثل للشفاء والعافية وهو ما نسميه في اللحظة الآنية بالممكن ولكن لا يعني أن نجاح الأطباء في إجبار مؤشر الحرارة علي التوقف عند الأربعين مثلاً هو عين المطلوب إطلاقاً فالمطلوب هو أن يعود المؤشر إلي درجة الحرارة الطبيعية لجسم الكائن الحي.. هذا المثل يفسر حرفياً حالة الغبطة والسعادة والسرور التي انتابت ابناء الحركات الإسلامية في مصر والعالم الإسلامي بتجربة حزب التنمية والعدالة التركي ذي الواجهة الإسلامية بقيادة السيد رجب أردوغان. فهذه الغبطة لا تعني أن الحزب قد نجح في تحقيق المطلوب كاملاً بمقياس الشريعة لا وإنما تعني أن الحزب استطاع أن يحقق الممكن في سبيل الوصول إلي تحقيق المطلوب شرعاً.. فكون أدروغان قد نجح في تحويل دفة الأمور من علمانية محاربة للدين تراه البديل الحصري والوحيد لها ولذا فهي تستهدفه بالعداء وتعمل علي إقصائه ومحاربته بكل السبل إلي علمانية لا تراه عدوها الأول والأصيل إنما تري إمكانية التعايش مع الدين جنباً إلي جنب علي طريقة العلمانية والديانة النصرانية تحت شعار دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر!! وإن كنا نري أن ما يصلح مع الديانة النصرانية لا يصلح مع الإسلام باعتبار أن الإسلام لا يعرف هذا الانفصام النكد بين الشرائع والشعائر بين المسجد وبين كل مناحي الحياة!! لكن نعود ونقرر أن اغتباطنا لما وصل إليه ألي اليوم هو اغتباط أهل المريض الذين بشرهم الأطباء بأن الحرارة قد توقفت عن الارتفاع وبدأت أولي مراحل الهبوط والعودة إلي الوضع الافتراضي.. إذا لا يعني أن الحالة التركية هي النموذج الأمثل أو المثال الأكمل أو المطلوب الكامل لا بل هو الممكن الميسور المتاح في طريق الوصول إلي المطلوب التام.