تحدثنا أمس عن مفهوم العلمانية، فى الغرب، وخلصنا إلى أنها تعنى اللادينية، واليوم يكمل الدكتور يوسف القرضاوى الداعية الإسلامى المعروف حديث العلمانية، ويتحدث عن العلاقة بين الجانبين: الإسلام والعلمانية. يقول القرضاوى: إن العلمانية لا تقف من الإسلام موقفا محايدا، ولا يمكن أن تكون «محايدة» كما زعم بعض العلمانيين العرب، فهذا بالنسبة للإسلام مستحيل، لأن الإسلام يواجهها بشموله كل جوانب الحياة الإنسانية: مادية ومعنوية، فردية واجتماعية، وهى لا تسلم له بهذا الشمول، فلا مفر من الصدام بينهما. ويضيف: «فالنصرانية قد تقبل قسمة الحياة والإنسان شطرين: شطر للدين، وشطر للدولة، أو بتعبير الإنجيل: شطر لله وشطر لقيصر، فتعطى ما لقيصر لقيصر، وما لله لله». والإسلام يأبى إلا أن يوجه الحياة كلها بأحكامه ووصاياه، وأن يصبغها بصبغته، وهى صبغة الله (ومن أحسن من الله صبغة) (سورة البقرة:138)، ويضفى عليها من روحه الصافية، وهى روح ربانية الغاية، أخلاقية المنزع، إنسانية المضمون. ولا يقبل الإسلام إلا أن يصحب الإنسان بتوجيهه وتشريعه فى رحلة الحياة منذ أن يولد، وإلى أن يموت، بل قبل أن يولد، وبعد أن يموت، ولا يرضى الإسلام أن يكون لغيره القيادة، وعليه الطاعة والاتباع! والعلمانية تريد من الإسلام أن يكون تابعا لها، يأتمر بأمرها، وينتهى بنهيها، لا أن يأخذ موقعه الطبيعى والمنطقى والتاريخى، آمرا ناهيا، حاكما هاديا. إنها تباركه وترضى عنه، إذا بقى محصورا فى الموالد والمآتم، فى دنيا الدراويش والمجاذيب، فى عالم الخرافة والأساطير، أما أن يتحرك ويحرك، ويوجه الشباب، ويقود الجماهير، ويفجر الطاقات، ويضىء العقول، ويلهب المشاعر، ويصنع الأبطال، ويربى الرجال، ويضبط مسيرة المجتمع بالحق، ويقيم بين الناس الموازين القسط، ويوجه التشريع والثقافة والتربية والإعلام، ويعلم الناس أن يدعوا إلى الخير، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ويقاوموا الانحراف والفساد، فهذا ما لا ترضى عنه العلمانية بحال. وتريد العلمانية من الإسلام أن يقنع بركن أو زاوية له فى بعض جوانب الحياة، فعلى الإسلام أن يقنع «بالحديث الدينى» فى الإذاعة أو فى التليفزيون، و«بالصفحة الدينية» فى الصحيفة يوم الجمعة، وب«حصة التربية الدينية» فى برامج التعليم العام، وب«قانون الأحوال الشخصية» أى عليه كما يقول القرضاوى أن يقنع بذلك، ولا يمد عينيه إلى ما هو أكثر من ذلك، بل عليه أن يشكر العلمانية التى أتاحت له أن يطل برأسه من هذه النوافذ، أو تلك الزوايا! والإسلام بطبيعته يرفض أن يكون له مجرد ركن فى الحياة، وهو موجه الحياة وصانعها. يرفض أن يكون مجرد ضيف على العلمانية، وهو صاحب الدار! من هنا يصطدم الإسلام بالعلمانية، ولابد فى أكثر من مجال، يصطدم بها فى كل شعبة من شعب تعاليمه الأربع الرئيسية: العقائد، والعبادات، والأخلاق، والتشريع. وللحديث بقية غدا بإذن الله.