كنت أستمع إلي أحد البرامج الإذاعية عن الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، فتداعي إلي ذهني أول لقاء بيني وبين الشاعر الكبير، عندما كنت أود أن أعمل في الصحافة وتوجهت إلي مجلة روزاليوسف، وأنا أحمل توصية من الروائي الكبير محمد عبدالحليم عبدالله إلي الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس وقابلني الكاتب الكبير بترحاب شديد، وعندما ناقشني في العمل الصحفي، قلت له إن الصحافة بالنسبة لي هي البوابة الذهبية لعالم الأدب، يومها ابتسم الكاتب الكبير واستدعي الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور حتي أتمرن علي يديه، وجلست مع الشاعر الكبير فترة زمنية طويلة، غير أن القدر شاء أن أعمل في مؤسسة أخبار اليوم علي يد الصحفي اللامع أنيس منصور.. وفوجئت بعد فترة بالشاعر صلاح عبدالصبور يرسل لي كهدية كتابه (كتابة علي وجه الريح) وهو كتاب عبارة عن قراءة في أدب (أبوالعلاء المعري أبو حيان التوحيدي أحمد شوقي، برتراند راسل دستوفيسكي سان جون برس أرابال اليوث إيليا أبو ماضي شكسبير فلوبير فولتير كازانتزاكي).. وقرأت الكتاب، وكان مبهرا بالنسبة لي، فكاتبه بجانب أنه شاعر كبير، فهو مثقف عظيم.. وقد أثلج صدري إهداؤه الجميل هذا، وماكتبه من إهداء لشخصي، وتوقفت عند حديثه عن (الجبال الإغريقية) وهو يتحدث فيه عن الشعراء الإغريق الذين عاشوا في الإسكندرية، ومنهم الشاعر (كفافيس) الذي ولد في الإسكندرية، وعاش بها ستين عاما، ومات ودفن فيها عام 1931، وتحدث في هذه الدراسة عن عظمة هذا الشاعر وإبداعه، ويقول صلاح عبدالصبور وهو يتحدث عن سفره إلي الاسكندرية في أوائل الستينات بعد ثلاثين عاما من موت الشاعر: وبعد سنوات قلائل كنت في الاسكندرية في أوائل الستينات، وسهرت ليلة مع شاعر سكندري عجوز، وفاجأني بأنه كان يعرف كفافيس، ويعرف بعض من عرفوه أكثر منه، كانوا شبابا وكان شيخا، وأصبحوا الآن شيوخا يقضون غروب شيخوختهم علي أحد المقاهي القديمة، وقصدنا إلي ذلك المقهي، وجلس بينهم حتي انفتح باب القول ومال إلي ذكر هذا الشيخ الشاعر العزب المنشرد النفس فإذا بهم يقولون: كان رجلا غريبا، كان صعلوكا لايؤبه له لاتدري إن كان شاعرا، ولكنه كان يجلس علي المقهي كل مساء، يشتري أوراق اليانصيب، ويداعب باعتها.. النهاية لم يكن رجلا محترما.. وسألني أحدهم، وقد اكتسي بلهجة الجد الشديد. هل كان شاعرا حقا؟ لابد أنه كان شاعرا مادمت تؤكد ذلك.. »أيتها الشهرة، أيها البريق الزائل، لقد أعطيت سقراط وكفافيس الكثير، ولكن هذا الكثير كله لم يشفع لهما عند غمار مواطنيهما.. أيها المشهورون: كفكفوا من غلوائكم، ولا تمشوا في الأرض مرحا« ..و.. ما أجمل الذكريات في عالم يتحول فيه كل شيء إلي مجرد ذكريات!