قديما حينما كان يقبل أي مواطن علي شراء شقة، عادة ما كان يلجأ إلي اختيار الأماكن الحيوية في مصر، التي تمثل عنصر الأمن والحماية ومنها علي سبيل المثال المنطقة المتاخمة لوزارة الداخلية في شارع الشيخ ريحان والتي ترتفع فيها أسعار الوحدات السكنية، لأنها كانت تعد من أكثر الأماكن أمنا للمواطن المصري، إلا أن الوضع الآن بات مختلفا وتحولت النعمة إلي نقمة بعد أن أضحت هذه الشوارع ساحات للعراك بين المواطنين وقوات الأمن. دوام الحال من المحال.. فقد تحول جيران الهنا إلي جيران سوء، وأصبح قاطنو هذه المناطق وأصحاب المحال التجارية والمطاعم يعانون أشد المعاناة النفسية والبدنية التي يتعرضون لها بعد أن تحولت هذه الأماكن إلي ساحات حرب. »آخر ساعة« قامت بجولة في عدة مناطق مختلفة تعرض قاطنوها للضرر بسبب الأحداث. أبرزها كان شارع الشيخ ريحان وشارع محمد محمود، واللذان يتوجدان بالقرب من وزارة الداخلية ... أجرينا لقاءات مع سكان هذه الشوارع ...في البداية يقول مجدي (05 عاما) أنه من جيران وزارة الداخلية، وأنه يعيش في أحد الشوارع المجاورة لوزارة الداخلية، مؤكدا أن الوضع لا يمكن تحمله بأي وضع كان، فقديما كانت هذه الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية من أكثر الأماكن أمنا في مصر، ولكن أنا لم اطق التواجد في شقتي منذ بداية الاشتباكات لأني لم أتحمل رائحة الغاز المسيل للدموع التي تحتوي علي مواد تتسبب في التهابات بالعين وإضرار جسمانية بالغة. لذلك انتقلت للإقامة في منزل أحد أقاربي بالمعادي بدلا من الخنقة والألم والمشاهد الدموية التي أراها كل يوم. وفي منزل الحاج محمد محمود (55 عاما) كان الوضع أشد قسوة " نحن لم نفتح البلكونات، خوفا من أذي الطلقات والرصاص الحي والمطاطي، ولم نتحمل البقاء في المنزل الذي لم أخرج منه في حياتي. ويضيف: إن الوضع في هذه الشوارع مخيف جدا، والأمن لا يرحم المواطن المصري كما كان في الماضي، وأنا راجل مسن ومعي أسرتي ابني وابنتان، وقررنا أن نرحل لأن أولادي يذهبون إلي جامعات ولا يستطيعون الذهاب في ظل انعدام الأوضاع الأمنية . إبراهيم محمد (33 عاما) قال: قوات الأمن أصبحت لا تفرق الآن، والوضع بات مخيفا، لذلك نحن نعاني أشد المعاناة من تدهور الأوضاع الأمنية، وضرب قوات الأمن للمتظاهرين، فضلا عن دموية هذه الاشتباكات. ويضيف: الوضع بات لا يتحمل، خاصة أن من يقف حتي في نافذة المنزل لاستطلاع الأوضاع قد يتعرض لخطر الإصابة أو الاختناق. وقال: »بجد عيني علي دي البلد اللي حالها بقي لا يسر عدو ولا حبيب«. الخوف أصبح يساور كل قاطني الشوارع المتاخمة لوزارة الداخلية من دموية الأحداث في ميدان التحرير، وتزايد معدلات الاختناق والاغماءات. صوت عربات الإسعاف وأصوات طلقات الرصاص الحي والمطاطي أصبحا بمثابة أشباح مفزعة تخطف أحلامهم وتفزعهم وتسبب لهم آلاما نفسية كبيرة. الطفل محمد سعيد (01 سنوات) قال أنا موش عارف أروح المدرسة، أنا خايف، البلد ديه بقت وحشة أوي، هي الناس بتقتل بعض ليه؟! أنا موش عارف العب ولا أنزل وموش بعرف أنام الليل من أصوات عالية بسمعها وصريخ ناس ،أنا مش عاوز أسكن هنا تاني " بينما يقول إبراهيم محمد (54 عاما).. إن روائح الغاز تسبب آلاما كبيرة جدا لنا ، وأن المخاوف تتركز في الغالب علي الأطفال الصغار الذين لا يستطيعون تحمل هذه الروائح وتسبب لهم الاختناق . شارع محمد محمود كان من أكثر الشوارع التي شهدت ثورة أخري ضد الظلم وعمليات القمع، بعد أن سقط العديد من الشهداء في هذه الساحة، دفاعا عن الثورة. سكان هذا الشارع رحلوا وأخلوه بعد أن وضعت الداخلية حواجز أمنية ومنعت الناس من العبور، فأصبح الشارع لا يسع سوي روائح الغازات الكريهة والقنابل المسيلة للدموع وجثث الشهداء. أحمد إبراهيم (22عاما) لا يتحمل أحد العيش في هذا الشارع أو تحمل روائح الغاز فهذه الشوارع تحولت إلي ساحات للمعارك وتراشق الحجارة بين المواطنين وقوات الأمن. كما أن الاشتباكات لا تهدأ ولكنها دائما ما تتجدد بين حين وآخر فالأوضاع ملتهبة، وأصوات الرصاص لا تهدأ كما أن هذه المنطقة أصبحت الآن عرضة للبلطجية الذين يقومون بضرب المتظاهرين. ويضيف: إننا الآن لا نأمن علي أولادنا أو أبنائنا في هذه المناطق، لذلك عدد كبير من سكان هذه المناطق رحل وغادر المنطقة. فلم يعد أي إنسان يتحمل ما يحدث في هذه المناطق الآن من تدهور للأوضاع الإنسانية والمعيشية خاصة أن القنابل المستخدمة تتسبب في إحمرار وحرقة في العين، بالإضافة إلي حالات ضيق تنفس وغثيان، نتيجة للمواد السامة الموضوعة في هذه القنابل. عدد من التجار قرروا إغلاق محلاتهم في وسط البلد ففي جولتنا في شوارع وسط البلدالتقينا بعدد من التجار المتضررين من موقع محلاتهم التجارية في وسط البلد بالقرب من الأحداث . يقول ماجد عامل في أحد محلات الملابس في شارع طلعت حرب: القمع المستمر من قبل قوات الأمن للمتظاهرين، ساهم مساهمة كبيرة في انخفاض المبيعات ويتمني أن الحكومة توجد مكاناً آخر غير وسط البلد لما له من آثار سلبية علي التجار والتزاماتهم المالية. ويطالب ياسر ياسين أحد أصحاب محلات بيع العطور، المنظمين لهذه المسيرات بأن يتقوا الله في أوضاع التجار حيث سوف يقوم مجموعة من التجار باللجوء إلي القضاء من أجل رفع دعوي قضائية علي كل من يساهم في تنظيم هذه المسيرات التي قال أنها لا تحقق إلا الفوضي في وسط البلد وانخفاض مبيعاتهم ما رتب عليهم الالتزامات المالية للتجار وبالتالي تهديد مصالحهم وانخفاض مبيعاتهم وتمني علي الأحزاب أن تجد مكانا غير وسط البلد للتعبير عن مطالبهم. أما سامر الشربجي صاحب محل بيع مواد منزلية أكد أن المبيعات خلال يوم الجمعة قبل أن تبدأ المسيرات كانت تعوض باقي أيام الأسبوع، مضيفا كنا نستطيع الالتزام تجاه التجار الرئيسيين الذين نقوم بالشراء منهم نظرا لإقبال المواطنين والوافدين من الجنسيات المختلفة يوم الجمعة بالنزول إلي منطقة وسط البلد من أجل التسوق إضافة إلي وجود السياح الأجانب لكن مسيرات أيام الجمعة ساهمت مساهمة كبيرة في تدني المبيعات خلال هذا اليوم. واضطر أحمد خلف صاحب محل ملابس في ميدان طلعت حرب إلي غلق المحل حيث تسبب في خسائر كبيرة خاصة أن المحل بالإيجار وتكون عليك التزامات وعمال وبائعين لذلك يفكر في الهروب من الميدان. بينما هناك محلات خسرت آلاف الجنيهات بسبب الأحداث وحتي لو لم نغلق المحلات فهناك كارثة أخري وهي أن حجم الإقبال نفسه يقل علي الشراء وعادة نحن لا نقوم بإغلاق المحلات لمجرد أننا سمعنا أن هناك مظاهرة وإنما نفتح عادي جدا وبشكل طبيعي وإذا ساءت الأحوال نكون مستعدين لغلق الأبواب ولذلك لو لاحظت وقت المظاهرات كانت أبواب أغلب المحلات فاتحة نصف فتحة لأن هناك حالة خوف لا يمكن أن ننكرها. يقول محمد (عامل في أحد محلات الكشري في وسط البلد) إن رائحة الغاز السامة وضرب القنابل المسيلة للدموع تجعلنا لا نستطيع العمل، بالإضافة إلي مشاهد القتل والاغماءات، كما أن هناك ضعفا في حركة الشراء . ويضيف: إن وزارة الداخلية وقوات الأمن المصري فقدت مصداقيتها في الشارع المصري مع تكرار أحداث التحرير بنفس السيناريو كلاكيت تاني مرة. ويضيف: إن البلد الآن يمر بمرحلة تحولية نحو الديمقراطية عليه تحمل آثارها وتوابعها السلبية ولكنه في نهاية الأمر خطوة لابد منها نحو الديمقراطية وغد أفضل لأبنائنا. ويؤكد أن البلد عاني علي مدار ثلاثين عاما من فساد وسرقة ونقطة التحول جاءت إلينا ولا يجب التراجع فيها نحو غد أفضل. بينما يقول إبراهيم أحمد (عامل بأحد محلات الملابس) : إن حركة المبيعات قد توقفت تماما، وأننا نخاف حاليا من تعرض محلاتنا للسرقة، لذلك نغلق أبواب المحلات أحيانا خوفا من أي محاولات للسرقة. ويشير إلي أن الفترة الحالية من أسوأ الأوضاع التي تعيشها مصر مع حالة الانفلات الأمني وانعدام الأمن من الشارع المصري . ويضيف إن البلاد لم تشهد في تاريخها سوءا للاوضاع أسوأ من الفترة الحالية، بالإضافة إلي تزايد حالات القتل والسرقة. وعلي صعيد آخر، قرر عدد من البنوك وشركات الصرافة القريبة من ميدان التحرير وباب اللوق وشارع محمد محمود المؤدي إلي وزارة الداخلية قد أغلقت أبوابها منذ بدء تجدد الاشتباكات تحسبا لأي عمليات نهب أو سلب أو تخريب. وقالت مصادر مصرفية إن بعض البنوك أغلقت أبوابها منذ تجدد الاشتباكات بعد تصاعد الأحداث بين المتظاهرين وقوات الأمن. وأوضح مصدر مسئول بالبنك الوطني للتنمية إن إدارة البنك قررت غلق فرعي عمر مكرم وباب اللوق، كما قررت قصر العمل بباقي فروع البنك حتي الساعة الواحدة ظهرا فقط وأشار مسئول بالبنك الأهلي سوستيه جنرال إلي أنه تم غلق فرع البنك بمنطقة باب اللوق فقط تحسبا لتصاعد الأحداث. وعلي صعيد آخر، شهد عدد كبير من مديريات الأمن في مناطق مختلفة في مصر اشتباكات بينها وبين المواطنين احتجاجا علي ممارسات وزارة الداخلية في البلاد. فقد شهدت مديريات أمن الإسكندرية والسويس والإسماعيلية والقاهرة تعديا من قبل المواطنين مع استمرار عمليات القمع التي تمارسها وزارة الداخلية. إسماعيل محمد (23عاما) يسكن بجوار مديرية أمن القاهرة، يقول إننا أصبحنا في حالة ترقب بين لحظة وآخري لأي عمليات أو اشتباكات تحدث بين الداخلية وبين المواطنين، أو بين البلطجية ومديريات الأمن. والحال أصبح لا يرثي له مع تصاعد أحداث العنف في البلاد، بالإضافة إلي أننا أصبحنا لا نشعر بالأمان ننتظر بين حين ولحظة سماع أصوات إطلاق النار. بينما يقول سامي عبد العزيز (54 عاما) أننا نتعرض لظلم حقيقي فبعد أن كانت وزارة الداخلية أو مديريات الأمن تمثل لنا مصدر ثقة الآن أصبحت وبالا علينا تجلب لنا المتاعب، حتي أيام الثورة حينما تم اقتحام مديريات الأمن تعرضنا لمشاكل عديدة، بعد هروب البلطجية من السجون، وغياب الأمن .