أثري المكتبة العربية بإبداعاته.. فكره النفيس، فقدم للإنسانية أروع مكوناتها المعرفة، الثقافة التي تزخر بها كتبه ومنح حياتنا اليومية مواقف من ذهب تمتزج مع نسائم الشروق وأريج قهوتنا الصباحية مختزلة من خلال عموده في ثوان رحيق سفرته الموسوعية هو أنيس منصور المحتفي دوما بالحياة وبكل جديد.. قديم يكتشفه فيتقاسم معنا خبيئته المجوهرة. فمنح كل من تتوق نفسه إلي خارطة التنوير مايشتهيه. لقد أنفقت سنوات عمري أقتفي أثر كتاباته وتوغله في ربوع الثقافات والحضارات الكونية المتعددة بتحليله العميق في مجالات السياسة، العلم، الأدب، الميتافيزيقا، الفن، العقيدة، الفلسفة والاجتماع، يقطف أزهار المعرفة بين الأمس ، اليوم وغدا. وأذكر من بين الكتب التي شغفت بها واقتنيتها عبر هذا الكنز اليومي أو صندوق الدنيا الثمين السيرة الذاتية للوأندرياس سالومي تلك الأنثي ذات الألق الفكري المبهر التي هام بها ريلكة، نيتشه وبجلها فرويد. أنيس منصور هو بمثابة انسكلوبيديا دافقة بالحياة يتقن التواصل .تجاوز الخريف ليستقر في الربيع الأبدي فهو شاب تتجدد نضارته الروحية والفكرية من خلال الفضول المعرفي والولع بثروات العقل الإنساني وبحثه الدؤوب في العوالم الكامنة والخفية. فالذي يحدد الشباب هي الرغبة، الولوج إلي الدنيا الصادحة بالتجليات التي تصيغها البشرية ومن ثم ليس بغريب أن يصبح أنيس منصور أيقونة للشباب فهو ثوري، يدك كل نهار (deja vu)أو المعروف مسبقا والتقليدي ويبدو أنه يعيش في عالم مواز ينفرد بذاته النهمة دوما للنهل والتحليق في آفاق النشوة الساحرة للمجهول ذي القيمة النادرة ودائما وأبدا خارج المنظومة الراكدة. وأذكر ما سطره تشيخوف وهو لاينطبق علي أنيس منصور لأنه سيظل دوما يكتنز الشباب: »لماذا تعبنا؟ ولماذا ونحن بعد في البداية نكون متوقدين، جريئين، نبلاء، مؤمنين وما أن نصل إلي سن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين حتي نصبح مفلسين تماما؟ ولماذا ينطفيء أحدنا بالسل، ويطلق الآخر رصاصة علي رأسه ويبحث الثالث عن النسيان في الفودكا والورق، ولكي يكبت الرابع الخوف والكآبة يطأ بصفاقة صورة شبابه الطاهر الرائع؟ ولماذا لا نحاول وقد سقطنا مرة أن ننهض، وإذ نفقد شيئا لانبحث عن غيره؟ لماذا؟« وربما تكون إصابته (بالأنسومنيا) أي الأرق الليلي فهو لاينام »إلا قليلا« ثمرة رغبته الملحة في إنفاق كل لحظاته الحياتية في القراءة والبحث. عرفنا من خلاله الفلسفة الوجودية عندما دلف ذات يوم إلي دنيا جان بول سارتر وقرينه الأنثوي سيمون دي بوفوار وكان كتاب سارتر (الغثيان) و(الوجود والعدم) أما في حالة أنيس منصور فهو الوجود النبوغ والوهج. ولقد ترجم رواية (امرأة من روما) لألبرتو مورافيا، (اللامبالون) أما أجمل ما قرأت في مجال العشق والغيرة فرواية (الملل) لمورافيا فهي من أعمق ما سطر عن عذابات الهوي فالألم في العشق يشعر العاشق بتأجج الحياة والوجود فسيسليا بطلة (الملل) تتقن المراوغة فالجنس المتاح يفقد لذته والعشق في المضمون يجهض المتعة فأجمل الأشياء والمشاعر إذا داهمها الملل، التملك ، الرتابة، واليقين تترهل وتفقد رونقها وبالتالي يشحب الوجود ويتجرد من جوهره.أنيس منصور لايجامل في كتاباته فهي تضاهي السيف بل أشبه بنصل سكين. أما أسلوب أستاذنا فهو مرصع بالفتنة، يحاكي الغواية الموسيقية يتبع دوما حالة من (الكريشيندو) أي التصعيد فيستهل (بالأداچيو) أي الإيقاع المتمهل ثم ينتقل إلي (بريستو) الايقاع السريع اللاهث فهو يبدأ من الثلج ليتحول إلي النار المستعرة فيصحبنا إلي الذروة في الجوهر والتعبير. عموده اليومي محملا بصحوة منعشة، دفعة لاستيقاظ الوعي والحض علي الانغماس في رقصة الحياة المسكرة، تانجو ملهم بين الكاتب البديع والقارئ المتطلع لسحر المعرفة، جاذبية وكاريزما أنيس منصور الذي هزم الزمن غريمنا الأزلي وأردد ماكتبه نجيب محفوظ في الحرافيش: »عاشر الزمان وجها لوجه بلا شريك بلا ملهاة ولا مخدر واجهه في جموده وتوقفه وثقله، إنه شيء عنيد، ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس، إنه جدار غليظ مرهق، متجهم ، غير محتمل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل، كأننا لانعمل ولانصادق ولانحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن، الشكوي من قصره ومروره أرحم من الشكوي من توقفه«.