سألنى بعض الأصدقاء عن دلالة عنوان هذا الباب «أدبيات» وهل يوحى بالرغبة فى الاقتصار على الشئون الأدبية والنقدية، أم يسمح بالخروج عن «حدود الأدب» بتناول قضايا ثقافية وفكرية عامة، كما تشير لذلك الصيغة المختارة، فلكل شأن فى الحياة أدبيات وما يتعلق به من شجون. والواقع أننى أكثر ميلا إلى محاولة رد الاعتبار فى صحافتنا المفعمة بالحيوية والنزق أحيانا إلى أدب الخطاب بالتركيز على خطاب الأدب وبعث أريجه فى ذاكرة القراء. وربما كان من الملائم حينئذ التذكير ببعض الملامح المميزة لهذا الخطاب وضرورة إذكائه. فمسيرة الفكر الإنسانى كلها يمكن قراءتها عبر تحليل دور الخطاب الأدبى فيها، حيث تتمثل فيه بتركيز مكثف مجموعة الخواص المجسدة للإبداع الإنسانى فى حركته الدائبة. وربما كانت السمة الأولى لهذا الخطاب هى كفاءته فى تشكيل الوعى عبر اللغة، وتنمية طرائقها فى صناعة العقل، فالأدب هو الذى يبادر بتسمية الأفكار والمشاعر، ويبرز طاقتها فى توجيه الحياة وتعقيل معطياتها. من هذا المنظور بوسعنا أن نعتبر الأدب متحفا للغة، نرى فيه آثارها الحضارية، وإنجازاتها الجمالية، كما نشهد مراحل نموها وهى تحتضن الأكوان وتعمر فضاءاتها المعرفية والفنية. واللغة الأدبية بمثابة خطاطة تفصيلية نقرأ فيها خارطة الجينات الوراثية فى الفكر الإنسانى، كما نشهد فيها بواكيرها المستقبلية. لكن اللغة الأدبية ليست هدفا فى حد ذاتها، فقيمتها الحقيقية تكمن فيما تقدمه من أشكال التخيل الإنسانى ومظاهر الإبداع فى تمثيل الحياة وتشكيلها. إننا نرى فى الأدب كيف تولد الصور فى رحم التصورات، ثم كيف تعود لإثرائها فى حركة متبادلة، والخيال هو الذى يفك حصار الإنسان ويحرر طاقته، هو الذى يضاعف رقعة الأرض التى يقف عليها وبقعة السماء التى تظلله آلاف المرات، هو الذى يعطى البشر قوة الوحوش وتحليق النسور وإمكانات قهر قيود الزمان والمكان. الخيال الأدبى هو الذى قاد حركة الخيال العلمى فأصبحا شاهدين على تفوق الإنسان وانتصاره المتنامى على الطبيعة وعلى ذاته، وهو أبرز أسلحته لصناعة الحضارة وصيانتها على وجه البسيطة. على أن ما يميز الخطاب الأدبى إنما هو قدرته على الاحتفاظ بالعلامات الكبرى فى حصاد الثقافات، بنقل رموز العقل والوجدان، العلم والفن إلى كلمات تبعث فى الروح رصيد المتبقى من العصور الماضية، وتحيى فى الخاطر نكهة الوجود المتغيرة، بدون هذا الرصيد الرمزى تخرس الحجارة، وتصمت الآثار، وتنطمس روح التاريخ. من الكلمات نعرف كيف تتراكم خبرات الحياة، وتتولد الأساطير، وتسيطر العقائد على أفق البشر، وإذا لم يكن بوسع الإنسان فى كل الأحوال أن يمارس حياته بدون طقوس ورموز، فإنه لا يستطيع أن يدركها أو يحلل فاعليتها بدون فاعليات الخطاب وربما نقترب أكثر من خواص الخطاب الأدبى، فى منجزاته وتحولاته ونحن نستعرض أنواعه ووظائفه الفنية بما يكشف عن أهم آلياته وتقنياته. ولن نستطرد فى هذا السياق للإفاضة فيما هو معلوم متداول، فغايتنا من هذه الكلمات تقديم صورة مصغرة لجدلية البوح والتحريم وما بينهما من مسافة توجز مسعى الإنسان لامتلاك كلمته ومصيره ووعيه بالكون من حوله. وإذا كان الخطاب الأقدم للأدب كما يرى الباحثون هو الشفاهى المتمثل فى الشعر المغنى، والحكاية المروية، والأمثولة المتداولة، والأساطير القابعة فى أعماق الروح، فإنه مراوغ مرن، يثرى فى عمليات التناقل، ويتحول ليتكيف مع المواقف المختلفة، ينمو ويتطور، يطفو على سطح المجالس أو فى لحظات الخلوة والاستبطان، وقد يخبو فى طيات الذاكرة. لكنه يظل دائما عزاء للفرد وغذاء للجماعة، صانعا لمزاجها القومى وراسما للخيط الشفيف الذى يربط بين أفرادها على اختلافهم. ولعل أكبر أخطار الخطاب الشفوى هو سرعة التحول وشبح الاندثار، لأنه يتغير مع كل استخدام جديد، فحريته موضع اختبار يومى، وقدرته على الصمود محدودة، فمن لا ىقوى على تحمل مسئوليته يهرب للصمت حينا. ريثما يدهمه إغراء المشاركة. إنه يخضع للضمير الفردى فى مناورته مع الرقابة السلطوية، لنأخذ أغانى الأعراس فى الريف المصرى نموذجا لشجاعة هذا الخطاب فى بعض تجلياته، نجدها مفعمة بلذة الشهوة ووصف مفاتن الجسد، فهى تهيئ الشباب لاقتطاف زهرة العمر دون حياء مصطنع، وتوقد فى نفوسهم جذوة تفجير الطاقة دون قيود رادعة، مكتسبة مشروعيتها من ضرورة البقاء فى تجلياتها الغريزية الأولى. ولنتذكر أيضا حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن تخضع للتدوين المتعدد، ففيها خلاصة خبرة الشعوب العربية وربما الشرقية بالحياة الحميمة والخيال الخصب، بعلاقات الأفراد والجماعات ومنظومات قيمهم وأساطيرهم المتوارثة. بحيث أصبحت مرآة هويتهم دون تزييف وبصمة روحهم التى دمغوا بها مروياتهم. ولئن كان هذا التراث الشفهى مهددا فى الماضى، وقد اندثر الكثير منه الذى ندَّ عن التدوين المكتوب، فإن تقنيات العصور الحديثة من تسجيلات صوتية ومرئية ورقمية تعد التراثات الشفوية أو العفوية المعاصرة بمصير أفضل، إذ يبدو أنها قادرة على مقاومة المحو ورفض تعطيل الذاكرة. وإن كانت آليات الرقابات الداخلية والخارجية لاتزال تحاول استصغاءها بوسائل عديدة، لكن مصيرها فى الأغلب سيكون أسعد من مصير التراث القديم. لكن التراث المدون فى الخطاب الأدبى هو الذاكرة المحفورة، والرصيد الباقى، لا تناله أيدى العبث والمحو، إلا أن يتعرض للحجب والمطاردة، وهو يتمثل فى عد مستويات: الإنتاج الشعرى المصفى بالكتابة فى الدواوين والموسوعات، وفيها يتجلى الإبداع اللغوى والتخييلى، برموزه ورؤاه فى ذروة توهجه الجمالى، وتحققه الفنى. المدونات السردية، من قصص وحكايات قديمة، أو روايات وقصص فنية محدثة، وهى تسجل العوالم التى تمثلها الإنسان فى ثقافة محدودة، وخلق بها شكل الوجود مرات متكاثرة، ليسجل رؤيته له، ومعناه المستقر فى ضميره. النصوص الفائقة فى المسرح والمقال والكتابة الأدبية التى تحتفظ بالحد الأدنى من شعرية اللغة والفن، وهى مغامرات إبداعية فى الفكر والثقافة. وإذا كانت نسبة ما تستبقيه الذاكرة الأدبية من هذا الإنتاج كله وتمنحه شيئا من الحضور الدائم الذى نسميه الخلود لا تتجاوز عدة أعمال من كل مائة، حسبما تشير إليه دراسات علم اجتماع الأدب المحدثة فإن السدود التى تعوق تدفق هذا النهر كله تنتظم على مراحل. يكمن أولها فى ضمير المبدع ذاته عندما يساوره الشك فى قيمة إبداعه، ويقلقه التساؤل عن جدواه، أو يخشى مغبة تحمل مسئوليته، ولا يقتصر هذا على النقد الذاتى المشروع فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى محاولات وأد الفكر، ربما إشفاقا على النفس أو خشية من صراع الآخرين، أو سوء تقدير لهم. ولنأخذ نموذجا واحدا على ذلك من تاريخ الأدب العربى، وهو أبوحيان التوحيدى، أكبر كتاب القرن الذهبى وهو القرن الرابع الهجرى، إذ كان على مشارف التسعين من عمره، وقرر فى ثورة على النفس والآخرين أن يحرق كتبه كلها، ومع أن حسن الحظ قد أنقذ كثيرا منها، مما كانت مخطوطاته قد تسربت إلى غيره فإنه يبرر عمله قائلا: «كيف أتركها لأناس جاورتهم تسعين عاما فما صح لى من أحدهم وداد، ولا ظهر لى من إنسان منهم حفاظ. ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة فى أوقات كثيرة، إلى أكل العشب فى الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطى الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح فى قلب صاحبه الألم». وهنا نجد أن فائض الثورة على الحرية والكرامة لديه إذا تعرضتا للإهدار، ورغبته فى هجاء عصره ومجتمعه، قادته لمحاولة الانتحار الأدبى الذى لم تتم، وإن كان يعدد من سبقه من العلماء والأدباء إلى ذلك، فيشعرنا بما خسرناه من إبداعهم العلمى والأدبى. منهم أبوعمرو بن العلاء، وداوود الطائى، ويوسف بن أسباط، وأبوسليمان الدارانى، وسفيان الثورى، وأبوسعيد السيرافى وغيرهم كثير. ولعل فى قراءة هذه الأسماء من مختلف النحل والطوائف ما يشير إلى أن أزمة هذا العصر الفكرية لم تكن فردية. بل كانت شبه ظاهرة عامة فى فترة نعتبرها من أزهر فترات الإنتاج المعرفى والأدبى فى الثقافة العربية، لعلها أزمة نمو، تتعدد أسبابها لتعود فى نهاية المطاف إلى ضيق أفق الحرية من جانب وعدم قدرة العلماء والأدباء على فرض سلطتهم وتدبير كفايتهم من جانب آخر. وهذا ما يدعونا إلى تناول علاقة السلطة بالخطاب الأدبى فى مقال لاحق.