بدت نتائج انتخابات مجلس الشعب التي جرت خلال الأيام الماضية وكأنها مفاجأة للبعض من أحزاب المعارضة والمستقلين الذين خاضوها تحت مسمي جماعة الإخوان المسلمين، لكن من يستطيع قراءة مقدمات الانتخابات لن يفاجأ بالنتائج . لقد غاص الحزب الوطني في أعماق الدوائر علي مستوي الجمهورية وتعرف علي تفاصيل التفاصيل بشكل غير مسبوق معتمدا علي آليات حديثة في هذا الشأن وقام بتحليل ممتاز لطبيعة هذه الدوائر وخرائطها وتركيبتها السكانية . ما حدث في الجولة الأولي للانتخابات أكد أن طريقة الحزب والتكتيك المستخدم في انتخابات 2010 أسفر عن إزاحة مرشحي جماعة الإخوان المسلمين غير الشرعية والذين كانوا قد حصلوا علي 88 مقعدا في انتخابات 2005 بدون أن يكون لديهم الكتلة التصويتية الحقيقية المعبرة عن الواقع داخل الدوائر التي فازوا فيها. وكان من نتائج تكنيك الحزب الوطني أن حصد الحزب أصواته التي شردت منه عام 2005 مما أضاف للحزب 113 مقعدا جديدا كان من المتوقع عودتها مرة أخري أو حصول أحزاب المعارضة الشرعية علي نسبة منها. لقد انسحب مرشحو الجماعة غير الشرعية بعد أن وجدوا أنهم خاسرون لا محالة، فالمؤشرات في المرحلة الأولي أكدت أن لا مجال أمامهم للحصول علي مقاعد، ليس كما في عام 2005 فحسب ولكن حتي بنسبة ضعيفة. لقد اكتشف الرأي العام أن نواب الجماعة غير الشرعية ليسوا علي ما اعتقد في انتخابات 2005 ، ولذلك أشاح عنهم وأعطي أصواته لمن رأي أنهم بجانبه وأنهم يمارسون العمل السياسي الحقيقي وليس العمل الاجتماعي أو الخدمي فحسب كما يفعل البعض ويعتقد أنه بذلك يخدع الجميع . لقد انسحب المرشحون الذين رشحوا أنفسهم تحت مسمي الجماعة غير الشرعية وهو انسحاب لقي صدي سلبيا لدي الشارع المصري، فالمواطن المصري لديه حساسية أو لديه فوبيا من كلمة انسحاب، فالانسحاب عنده يعني الهزيمة والتفسير البسيط لتصرف مرشد الجماعة غير الشرعية عندما أمر تابعيه بالانسحاب أن التنظيم غير المشروع أدرك مدي الخسارة الفادحة التي يتعرض لها خاصة في حالة استمرار هؤلاء المرشحين في المشاركة، فالانسحاب ربما يغطي علي هزيمة ثقيلة من المؤكد أنها كانت ستحدث في حالة خوضهم جولة الإعادة . سلوك الجماعة منهجي، فهم في حالة القدرة علي تحقيق المكاسب، يظهرون بكثافة، أما في حالة الهزيمة فهم يتوارون ملقين بالتهمة علي النظام _ ليس الحزب الوطني فحسب _ فهم دائما في حالة صراع وليس منافسة مع النظام، سواء كان هذا النظام في عهد الملك فاروق أو في عهود ما بعد ثورة يوليو التي طمعوا في اقتناصها معتقدين أن الضباط الشبان " عضمهم طري "، ولكن جمال عبد الناصر استطاع تحجيم الجماعة التي زرعت الإرهاب في مصر وتولد من رحمها الجماعات التي روعت الآمنين علي مدي عهود طويلة. لقد طمعت الجماعة دائما في أن تتولي السلطة، منذ البداية كان هذا الهدف هو الأسمي أمام أعضائها، وغلفت هدفها بغلاف ديني لجذب البسطاء خادعة إياهم بإمكانية عودة الخلافة الإسلامية بعدما أنهاها مصطفي كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي . لقد جذب هذا الهدف السامي الكثير من المواطنين الذين لم يتطرق إلي ذهنهم وجود أهداف دنيوية مستترة في ثوب ديني، ولطالما تساءل الناس : إذا كان قادة الجماعة يهدفون إلي ممارسة السلطة، فلماذا لا يؤسسون حزبا مدنيا يتنافسون من خلاله مع أقرانهم من الأحزاب الأخري لتولي السلطة ! . الإجابة بسيطة، فوجود هؤلاء الناس من قادة الجماعة غير الشرعية في حالة تنافس دنيوي علي السلطة وبين آخرين، يؤدي إلي كشف قدراتهم وكشف أهدافهم ومصالحهم، بينما وجودهم في رداء ديني، يخدع البسطاء ممن يحترمون رجال الدين وأصحاب اللحي المدلاة علي الصدور واستخدام العبارات الموحية بالتقوي والصلاح . لقد كشفت انتخابات 2010 الكثير بشأن هؤلاء، كما كشفت مدي ضعف الأحزاب التي يعتقد البعض أنها كبيرة مثل الوفد والناصري اللذين انسحبا من الجولة الثانية من الانتخابات، وكما قلت من قبل إن لفظ انسحاب يثير حفيظة المصريين فهو يذكرهم بلحظات مريرة في تاريخهم عندما انسحب الجيش المصري من سيناء عام 1967، لذلك يكرهون هذه الكلمة التي تدل علي التخاذل . لقد اعتمد البعض علي شائعات ترددت في بعض وسائل الإعلام بشأن وجود صفقة بين الحزب الوطني وهذه الأحزاب وأن الحزب الوطني سيرشح بعض الضعفاء في دوائر معينة من أجل أن يفوز بعض مرشحي المعارضة . ترددت هذه الشائعات كثيرا للدرجة التي اضطر معها صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني إلي التأكيد من خلال وسائل الإعلام علي نبذ مثل هذا القول وأن الحزب الوطني يعتمد علي إنجازاته التي يثق في تقدير الناخبين لها وأنه إذا كان يرحب بوجود الأحزاب الشرعية داخل البرلمان، إلا أنه لا يعقد صفقات من وراء ستار . لقد بالغت بعض الأحزاب في قوتها معتقدة أن الضجيج الإعلامي يعني شعبية كبيرة علي أرض الواقع وفي الشارع السياسي وهو ما ثبت أنه غير صحيح بالدليل العملي وهو انتخابات مجلس الشعب . اعتقد قادة حزب الوفد أن فوز السيد البدوي في انتخابات داخلية بالحزب يعني قدرته وحرصه علي التخطيط والتنظيم لكسب الانتخابات وهو ما جاء أيضا علي غير الحقيقة . لقد استعان الوفد بنوابه القدامي الذين أمضوا في المجلس دورة أو أكثر لترشيحهم باعتبارهم أصحاب خبرة، بينما نسي أن هؤلاء بعيدون عن الجماهير وعن قضايا المواطنين وليس لديهم الشعبية الكافية التي تجعلهم يفوزون في انتخابات قوية أعد لها الحزب الوطني واستعد منذ زمن . كما استعان الحزب ببعض النابهين الذين يعتقد أنهم قادرون علي حسم الانتخابات كما خصص الحزب مبالغ مالية كبيرة لهذا الغرض . كل ذلك لم يمنح الحزب فوزا ربما حلم قادته به وبتحقيق نصر سياسي يحقق لرئيسه استقرارا داخليا يتيح له إعادة ترتيب الحزب من الداخل علي طريقته الخاصة . لقد صرخ قادة الوفد أن الحزب الوطني زوّر الانتخابات بينما هذه الصرخات تتردد كلما أجريت انتخابات في أي مكان في العالم سواء كان هذا العالم ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، فالمهزوم يصرخ دائما، بينما الفائز يجني ثمار تعبه وجهده علي مدي سنوات، وهل سمعتم من قبل فائزا يصرخ أو مهزوما يشيد بالنهج الذي جرت عليه الانتخابات !. لقد شهدت الساحة السياسية مؤخرا تشنجات من بعض المعارضة ومنها الحزب الناصري الذي حاول أن يظهر بمظهر الضحية للحزب الوطني، فالحزب الوطني هو الذي ذبح المعارضة والحزب الوطني هو الذي يضيق علي الأحزاب الأخري في تحركاتها بين الجماهير في الشارع السياسي، المهم أنه لم يترك نقيصة إلا وألصقها بالحزب الوطني بينما لم يعترف ولو جزئيا بمسئوليته عن انحسار تأثير الحزب في الشارع السياسي ومسئوليته عن ابتعاد الناس عن حزبه ونفورهم من تسجيل عضوية به، ويمكننا أن نسأل قادة الحزب الناصري : كم حجم عضوية حزبكم ؟ وكم من مرشحيكم كنتم تأملون أن يدخلوا البرلمان حاملين لواء الحزب الناصري ؟ !. لقد أظهرت انتخابات 2010 نقاط الضعف في الأحزاب المعارضة وهو ما جعلها تتفجر من الداخل وتتبادل الاتهامات فيما بينها وفيما بين أعضائها وبعضهم البعض، فقد شهد حزب التجمع انقسامات واستقال بعض أعضائه وهاجم آخرون رفعت السعيد رئيس الحزب، بينما الواقع أن الانتخابات لم تكن قد انتهت بعد، وربما كان لحزب التجمع نصيب من الفوز في الدوائر الباقية التي تجري فيها الإعادة . لقد نظر السعيد للأمر نظرة واقعية وفي الوقت الذي استمر فيه التجمع في الانتخابات، استمر أيضا مرشحو الوفد الذين وجدوا أن لديهم الفرصة للفوز ضاربين بقرار الحزب بالانسحاب عرض الحائط مما يدل علي أن الالتزام الحزبي لديهم في منتهي الضعف، فقد فضلوا مجلس الشعب علي عضويتهم بالحزب، رغم الكلام عن الانتماء الحزبي وغير ذلك. لقد فاجأت نتائج الانتخابات البعض، لكنها لم تفاجئ الذين تابعوا تحركات وتخطيط الحزب الوطني والتنظيم الحزبي به، فقد كان الأداء عالي المستوي وانتخب الناس الحزب الذي رسخ مبدأ المواطنة، انتخبوا الحزب الذي يتمسك بالدولة المدنية والذي يرفض الدولة الدينية . لقد وثق الحزب الوطني في أداء مرشحيه والتزامهم القانون وعدم الخروج عن التعاليم الحزبية وعدم الاستدراج من جانب البعض لجرهم لافتعال المشاكل، بل دعا الحزب المجتمع المدني إلي ممارسة دوره في المراقبة والمتابعة ولكن أيضا طالب بألا تكون الصحافة هي مكان نشر الشكاوي من العملية الانتخابية أو القنوات الفضائية، بل مكانها هو اللجنة العليا للانتخابات المختصة قانونا بهذا الشأن وكذلك النائب العام. لقد أظهرت الانتخابات أن البعض من الأحزاب أو من الأشخاص أو التيارات المختلفة قد يملكون الحناجر والأصوات العالية التي تجعلهم كما العادة يشكون من التزوير ومن جبروت الحزب الوطني، بينما الواقع يؤكد أنهم لا يملكون شيئا علي الأرض وبين الجماهير التي تدرك تماما الجانب الذي يساندها ويدعمها ويحقق مصالحها.