لن ننسي.. ولن ينسوا هم أيضا أشقاءنا الجزائريين يوم 17 أكتوبر عام 1961.. قبل شهور قليلة من الاستقلال.. «الليل الأسود» كما أطلق عليه.. عندما قررت منظمة التحرير الجزائرية أن تقوم بمظاهرة سلمية في العاصمة الفرنسية يشارك فيها كل الجزائريين تعبيرا عن رغبتهم وحقهم في الاستقلال.. وبالفعل نجح النداء وتجمع ثلاثون ألف جزائري استعدادا لهذه المظاهرة السلمية.. لكنهم تعرضوا لغدر الشرطة وحكمدار العاصمة «موريس بايون» الذي حصل علي «كارت بلانش» أي تفويض كامل من أعلي جهات في الدولة وللأسف الشديد من بينهم «الجنرال ديجول».. أن يتصدوا بعنف لهذه المظاهرة السلمية. وبالفعل فتحت الشرطة النيران علي المتظاهرين «العزل» من أي سلاح.. هاجمتهم في عربات المترو وأوقفتهم وقتلتهم.. وتم توقيف «أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثين جزائريا» أودعوا في السجون بعد التعرض للضرب بوحشية وإهانة لا حدود لها. أما عدد الموتي الحقيقي فلا يعرفه سوي الله.. لأن رجال الشرطة كانوا يلقون بالمتظاهرين بالجملة في «نهر السين» وتم انتشال مائة وخمسين جثمانا من أصل عدد لايعرف عنه شيء. هذه الجريمة البشعة ستظل عارا في جبين فرنسا.. وهي حتي اليوم لم تعترف بها رسميا.. وستظل مذكرة النائب البرلماني والصحفي اللامع في «فرانس أوبسرفاتور» شهادة حية ووثيقة علي العنف غير المحدود للشرطة والصمت التام من قبل الحكومة في ذلك الوقت.. لقد فضح «كلود بورديه» هذا الصحفي الشريف ماحدث وطلب استجواب «موريس بايون» حكمدار العاصمة. ليظل هذا اليوم وليله الحزين عارا في تاريخ بلد الحرية.. وأقسي من ذلك أن الحكومة الفرنسية التي لم تعترف بما حدث حتي اليوم لم تقدم أي اعتذار أو تعويضات لأهالي الضحايا من «الموتي» أو «الجرحي» وصل بها الأمر إلي منع فيلم وثائقي عما حدث ل «جاك باتيجل» الذي كان ينتمي للحزب الشيوعي.. الفيلم لم يعرض في صالات السينما ولن يعرض حيث إن بلد الحرية تفرض رقابة شديدة بمنعه بما تضمنه من صور حية التقطت أثناء المظاهرات والوحشية التي تعامل بها البوليس مع المتظاهرين فلم يفرق بين نساء حوامل انهال عليهن بالضرب علي بطونهن.. أو شيوخ عجائز أو أطفال صغار.. وظل «جاك باتيجل» حتي وفاته في العاشر من سبتمبر عام 2010 يأمل أن يري فيلمه النور.. والطريق الوحيد الذي كان أمامه أن يعطي من يشاء مقتطفات من هذا الفيلم للاستعانة بها في أفلام أخري. أما المخرجة الشابة «ياسمينا حاج» فقد قدمت عام 2011 فيلما وثائقيا بعنوان (هنا نغرق الجزائريين).. وهو حوارات وشهادات مع زوجات من سجن أو قتل.. بالإضافة بالطبع لمن تبقي علي قيد الحياة ومازال يعيش من المتظاهرين. أما المخرج القدير آلان تازما فقد قدم فيلما روائيا بعنوان «الليل الأسود».. 17 أكتوبر عام 1961 حاربته تقريبا كل الجهات الرسمية.. ولم يعرض سوي في عدد قليل من الصالات.. والجدير بالذكر أنه عرض في مهرجان القاهرة السينمائي لكنهم أرسلوا نسخة مخالفة للشروط في العرض.. فكان أن حرم من المشاركة في المسابقة الرسمية. وقد شارك الممثل المغربي «رشدي زيم» الذي يرأس لجنة التحكيم الدولية في مهرجان مونبيلييه في فيلم «خارج القانون» للمخرج القدير الجزائري «رشيد بوشارب» حيث استعرض «بوشارب» جزءا من تاريخ كفاح الجزائريين في مقاومتهم للاستعمار الفرنسي بداية من عام 1925، عندما تم طرد عائلة من بيتها الذي عاشت فيه سنوات طويلة والتي حرصت عند خروجها أن تحصل علي «رمال» من الأرض التي عاشوا عليها.. الأب.. والأم.. والابناء الثلاثة مع شقيقهم.. رحلوا لمدينة الجزائر ليبدأوا حياة جديدة بعيدا عن أرضهم وتنقل الأحداث لمدينة «ستيف» حيث يقيمون والتي شهدت مظاهرات سلمية في 8 مايو 1945.. وتصرف فيها الفرنسيون بنفس الوحشية والتجبر كما فعلوا في أكتوبر الحزين. الفيلم حكاية الجزائر شعبا.. والإخوة الثلاثة عبد القادر.. مسعود.. وسعيد «عبدالقادر» الذي أودع في سجون فرنسا لمدة ثماني سنوات.. يقوم بالدور «سامي بوعجيلة».. و«مسعود» الذي شارك في حرب الهند الصينية وفقد إحدي عينيه وعاد بعد غياب طويل ويقوم بدوره «رشدي زيم».. أما سعيد الشقيق الأصغر الذي اصطحب والدته إلي فرنسا بعد أن قتل بعد عشرين عاما من سطا علي منزلهم وأرضهم.. فقام بدوره الممثل العبقري الذي تحدي إعاقته «جمال ديبوز». إن هؤلاء الفنانين الثلاثة العرب هم مصدر فخر حقيقي لكل عربي.. وهم عناوين للنجاح العربي في السينما العالمية. رشيد بو شارب في فيلمه «خارج عن القانون» استعرض أيضا ماحدث في ليلة السابع عشر من أكتوبر عام 1691.. فبعد أن لاقي مسعود حتفه أثناء تهريبه السلاح لمنظمة التحرير.. سقط عبدالقادر قتيلا في محطة المترو يوم 17 أكتوبر برصاص حكمدار المدينة «موريس بايون». وسيظل التاريخ يذكر للسينما إنها كانت ذاكرته الزمنية. وفي الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان مونبيلييه السينمائي لدول حوض البحر الأبيض المتوسط.. يتم الاحتفال وتكريم المخرج الفرنسي «توني جالتيف» الذي عاش سنوات طويلة من حياته في مقره بالجزائر حيث ولد وهو يعد نموذج لإرادة التحدي في الحياة.. ومقياس لتحويل الفشل لنجاح والتغلب علي كل الصعوبات مادامت هناك إرادة حقيقية في الحياة. توني جالتيف الذي يبلغ من العمر سبعة وستين عاما.. «توني» واسمه الأول «ميشيل» ذهب إلي فرنسا عندما كان عمره 12 سنة وذلك في عام 1960، وكان الرحيل لفرنسا صدمة نفسية كبيرة.. ولذلك عاني كثيرا من الاضطرابات النفسية.. مما أوقعه في مشاكل كثيرة دخل علي إثرها الأحداث، هذه التجربة المريرة في حياته جعلته يستفيد منها كثيرا في فيلمه «الغضب في قبضة اليد». كان توني جالتيف يقضي وقته كله في صالات السينما.. فهي المكان الوحيد الذي كان يشعره بالراحة الشديدة.. وفي عام 1966 التقي المخرج «ميشيل سيمون» الذي أوصي به إلي وكيل أعماله.. وكان «توني» في ذلك الوقت يتابع دروسا في فن الدراما في «سان جيرمان». وقد بدأ توني يقوم بالتمثيل في بعض المسرحيات، قرر أن يخوض تجربة الإخراج عام 1975 بفيلم الرأس في الانقاض ثم «الأرض في المعدة» والذي كانت تدور في خلفية الأحداث الحرب الجزائرية من أجل التحرير والاستقلال. وفي بداية عام 1981 بدأ توني مرحلة جديدة من حياته حين قرر أن تكون أفلامه القادمة عن «الغجر» وحياتهم.. وليصور في أسبانيا Corre gitana وبعدها ثلاثيته الشهيرة عن الغجر.. وكان ذلك بمثابة عودة لجذوره الرومانية وأصبحت حياة «الغجر» الذين ينتمي إليهم قضيته سواء في الدفاع عنهم أو في تقديم صور عنهم وعن حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وقد حصل فيلمه «المنفي» علي جائزة مهرجان «كان» عام 2004 الذي شاركت في بطولته رومان درويس، وفي عام 2006 عاد ل «كان» مرة أخري بفيلمه «ترانسلفانيا» الذي عرض في ختام المهرجان. أما فيلمه «جيرونيمو» وهو فيلم موسيقي راقص عن الشباب الذي يبحث عن الحرية.. وكان يحمل الكثير من حكاياته الشخصية.. وماتركته الحياة من بصمات عليه. كانت هذه بعضا من ملامح مهرجان مونبيلييه السينمائي.. الذي في تكريمه لتوني جالتيف ورشدي زيم تكريم لشعب وبلد عريق دفع ثمنا كبيرا في حياة أبنائه ليحصل علي استقلاله وحريته.. فلتحيا الجزائر.. وليرحم الله شهداءها.