في رحلة البحث عن الحياة.. يحاصرنا «الموت».. يطبق علينا بجوانحه.. أفرادا.. وشعوبا.. ينتزع من بين أحضاننا أزواجا.. وزوجات.. أولادا وبنات.. آباء.. وأمهات.. أصدقاء وأحباء.. ولا نملك كأحياء إلا أن نقف مكتوفي الأيدي.. تنهال أو تتحجر الدموع في أعيننا.. نبحث عن الصبر والسلوان بتقبل.. والاحتماء بمشيئة الله.. لأننا في رحلة الحياة.. نستطيع أن نهرب من كل وأي شيء إلا الموت.. لذا فالاستسلام لمشيئة القدر والنصيب هو أقصي مقاصدنا. ولعل أشد قوة من اللحظة الحاسمة التي ينتصر فيها «الموت» وينتزع الحياة.. هي عندما يحوم شبحه حولنا.. نشعر به قريبا ولا نراه.. نترقبه حزاني متسائلين عن موعد الرحيل عاجزين عن فعل أي شيء.. متطلعين فقط إلي رحمة الله.. وفي تقبل كل ما يصيبنا. والغريب أنه رغم الخوف من الموت إلا أن هناك من يسعون إليه بخطي واسعة وكأنهم يتسابقون إليه.. وحجتهم في ذلك أنه أفضل بكثير من الحياة التي يعيشونها وعلي رأس هؤلاء من يركبون «قوارب الموت» للهروب واللجوء إلي أوروبا.. وما أكثرهم.. قدمتهم السينما ولاتزال في عشرات الأفلام.. البعض منها كان وراء «سن» قوانين خاصة في إيطاليا.. كما كان وراء تحرك الاتحاد الأوروبي.. وإذا كانت أوروبا اليوم تعيد عشرات من هؤلاء اللاجئين إلا أنها توفر المأوي للمئات والآلاف حسب القوانين الجديدة.. وأصبح هؤلاء المهاجرون «الصداع» الأزلي في رأس أوروبا.. دون أن ننسي بالطبع معاناتها من المهاجرين الشرعيين.. وأنه حتي اليوم فإن اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد تشكل عائقا كبيرا.. مهما قيل عن تقبل الآخر.. والاندماج.. فرنسا تعاني من مهاجري شمال أفريقيا.. وألمانيا من المهاجرين الأتراك والأكراد.. وقد استطاع المخرج الفرنسي «توني جالتيف» الذي احتفل بعيد ميلاده السادس والستين منذ أيام قليلة أن يقدم في أحدث أفلامه «جيرينيمو» صورة من حياة المهاجرين الأتراك في فرنسا وفي الجنوب بالتحديد.. وذلك عن قصة حقيقية نشرتها الصحف الفرنسية من فترة. وقبل الحديث عن الفيلم يبدو الحديث عن «توني» نفسه يصلح في حد ذاته كقصة فيلم.. فهذا الفتي الذي ولد بالجزائر واسمه الحقيقي «ميشيل داهماني».. وظل حتي سن الثانية عشرة يعتبر ابنا للشوارع.. حيث لم يرتد مدرسة ولم يعرف القراءة والكتابة.. وهو ينتمي لعائلة من «الغجر».. وعندما وضعت الحكومة الجزائرية في ذلك الوقت قوانين تشجع علي التعليم وتنص صراحة بأن أي طفل لا يرتاد المدرسة لن تحصل أسرته علي إعانات من الدقيق والسكر والسولار.. فما كان علي «توني» إلا أن قبل مرغما الذهاب إلي المدرسة.. ويودع «أميته».. وعندما بلغ الرابعة عشرة استقل مركبا وسافر إلي فرنسا وبالتحديد «مارسيليا» ليعيش حياة الشوارع.. ومن ثم تم إلحاقه بإحدي دور الرعاية الاجتماعية لأطفال الشوارع.. ومن حسن الحظ أن معلمه كان يعشق السينما.. فأحضر «كاميرا» «وبروجتكور» ليعلم الأطفال الحكايات المصورة والسينما.. ولهذا عشق «توني» السينما.. وساعده طبيب يعمل في المؤسسة علي الالتحاق بدورة دراسية لتلقي فنون الدراما.. فكان ذلك بمثابة الإنقاذ له من حياة الشوارع التي يرتادها.. ليصبح بعدها واحدا من أفضل مخرجي العالم.. وعن هذه الفترة من حياته يقول «توني جالتيف» إنني ومعي خمسمائة طفل من أبناء الشوارع ندين لمعلمنا الذي ابتكر وجعل من السينما وسيلته التربوية والتعليمية فوفر لنا الحماية نحن وأسرنا الفقيرة.. كما يعترف أنه عندما كان في مارسيليا ومن بعدها باريس كان يدخل السينما بحثا عن المتعة البصرية من خلال الأفلام والراحة الجسدية بالجلوس علي كرسي مريح.. وعندما كان يشاهد الفيلم للمرة الثانية أو الثالثة كان يغط في النوم.. وبفضل الفنان المسرحي الكبير «ميشيل سيمون» عرف توني الطريق الحقيقي للمسرح ومن بعده السينما.. أما أول فيلم أعلن فيه صراحة عن هويته وانتسابه للغجر فكان ذلك «أنا غجري» ولا يجب أن ينسي أحد ذلك.. فأنا غجري من الأندلس عشت طفولتي في الجزائر وبعدها حواري مارسيليا.. وسأظل أفتخر «بغجرية» أمي.. «وعروبة» أبي.. وفي فيلمه الأخير «جيرينيمو» عن سيناريو له.. وبطولة كل من «سيلني سالتين» «رشيديوس» «نائلة» «هر زون».. قدم «توني» كوميديا راقصة.. نابعة من مأساة، الفيلم يروي باختصار مجموعة قصص ومشاهد حقيقية عاشها «توني» في «الإصلاحية ومعه آخرون.. تجارب انعكست عليه طيلة حياته ومازالت محفورة في ذاكرته.. في الفيلم بحث «توني» عن المعلم والموجه الذي ساعده كثيرا هو وآخرين في دور الإصلاح.. ومشهد العروس التي تقفز من سيارة تسير بسرعة تزيد علي المائة كيلومتر.. مشهد عاشه «توني جالتيف» عندما حاولت إحدي الفتيات الانتحار وأنقذها بأعجوبة «المعلم».. عموما الفيلم في إطار ممتع يروي قصة فتاة تركية يريد أهلها تزويجها بالأمر.. دون أن يكون لها رأي.. فتهرب ليلة عرسها.. تنقذها معلمة من أصل «غجري» كلتاهما تتحديان التقاليد في بلدان القرية.. تقاليد ليست في عادات «الغجر».. أو في تعاليم «دين».. إنها الحرية المسئولة التي تبحث عنها النساء.. والمساواة في الإنسانية.. بعيدا عن كلمات جوفاء «العار».. «والعيب».. إن الأحياء الفقيرة في كل البلدان الأوروبية تموج بالشباب الذي يبحث له عن هوية حقيقية وضائع ما بين الآباء.. ونظيره من الشباب.. فإلي أي مستقبل حقيقي يتطلع.. «استراليا» تلك القارة البعيدة التي يحلم البعض منا بالذهاب إليها.. حيث الحياة فيها أيسر.. وأسهل من وجهة نظر البعض عن أمريكا ودول أوروبية أخري.. هذه القارة البعيدة لن تكون أبدا ملكا للمهاجرين الجدد.. لأنها ستظل موصومة بجريمتها وعارها تجاه السكان الأصليين.. «Aborigemes» أبورجيني».. إنهم مثل الهنود الحمر في أمريكا تماما.. أصبحوا يضيقون عليهم الخناق.. يجعلونهم يستقرون في مناطق خاصة بهم.. لم تنصفهم الحكومات بقدر ما أنصفتهم السينما وقدمت أفلاما عنهم.. تزيح الستار عن الجرائم التي ترتكب بحقهم والحياة الشاقة التي يعيشونها.. حيث تم تجميعهم في «شمال شرق» استراليا في منطقة تزيد مساحتها علي مائة ألف كيلومتر مربع أي أكبر من مساحة هولندا وبلجيكا مجتمعتين وذلك في مدينة «رامينجنيح» أو «أرض أرنيم» كما يطلق عليها.. حيث تم تجميع السكان في هذه المنطقة شديدة الحرارة.. وحيث يعيش السكان تقريبا في العراء.. وحيث أكبر نسبة تحرش جسدي للأطفال من قبل عائلاتهم.. بالإضافة للعنف الجسدي علي هؤلاء الأطفال من قبل ذويهم.. أفلام كثيرة.. أصحابها من ذوي الضمائر الحية قدموا أفلاما عن هؤلاء السكان وأسلوبهم في الحياة حيث يعيشون علي الفطرة والبدائية الشديدة.. والجدير بالذكر أن هذه المنطقة تتحول في الصيف إلي قطعة من النار وتعتبر أكبر مساحة مائية تعيش فيها التماسيح.. الفيلم من إخراج «رولف دي هير» هولندي الأصل الذي هاجر إلي سيدنيباستراليا مع عائلته عندما كان في الثامنة من عمره.. وهو من مواليد سنة 1951.. عمل في بداية حياته بالإذاعة الاسترالية.. وقدم أول أفلامه الروائية سنة 1984.. وهو فيلم للأطفال حقق نجاحا كبيرا، وعلي مدي ثلاثين عاما عمل «رولف» في العديد من الأفلام ذات الميزانيات المحدودة.. لكنه انتهي من أربعة عشر فيلما لتبقي الأخري دون انتهاء لسبب أو لآخر.. وكل الأفلام التي يفخر بأنه قدمها تحمل في طياتها رسائل إنسانية.. وقد حققت الأفلام التي انتهي منها نجاحا كبيرا.. سواء في مهرجان كان.. فينيسيا.. وبرلين.. وتورنتو.. ولندن.. وآخر أفلامه «مدينة شارليز» والذي قدمه مع صديقه «دافيد جولبيل» الذي قام ببطولة الفيلم.. وتكاد شخصيته في الفيلم تكون مطابقة إلي حياته.. حيث ينتمي أيضا لقبائل «الأبورجين» سكان أستراليا الأصليين الذين يعيشون علي سجيتهم وعلي الفطرة.. إن الموت الذي يعرف طريقه للبشر.. يعرف نفس الطريق لبعض الشعوب التي يقضي عليها نتيجة الحروب العنصرية، الاضطهاد.. الاحتلال.. كلمات طويلة لدلالات تعني الحرمان من الحياة ببساطة شديدة.. «شارلي» أو «دافيد» حيث تتشابك الشخصية بين الواقع والحياة.. عاشها «دافيد» رافضا الانغماس في المجتمع «المصطنع» الذي جمعوا فيه سكان البلاد وكأنها حديقة للحيوان.. ليهرب من الحياة المدنية.. وينتقل للطبيعة ويكاد يموت من قسوة المناخ.. إلا أنه يتم إنقاذه في اللحظات الأخيرة.. ويسجن وبعد الخروج.. يدرك أن دوره الحقيقي في الحياة الحفاظ علي تراث شعبه وأن يعلم الصغار الفنون والرقصات الخاصة بقومه.. وحقيقي في الفن والحياة.. ٭٭٭ ويبقي الأمل.. هو كل ما نتمسك به.. حتي لو كانت «حباله دايبة» علي رأي المثل.. لكن الأمل هو ما يبقينا علي الحياة.. ويعيننا مع الصبر علي تحمل الصعوبات.. هذا الأمل هو الذي دفع الفيلسوف «بورس لوجكين» إلي عالم السينما بعد أن عاش سنوات طويلة وسط الكتب والأحبار.. وذلك بعدما سافر إلي فيتنام وعاش هناك فترة من الزمن جعلته يتجه إلي السينما ليقدم فيلمين تسجيليين «الباقون» سنة 2001 «وأرواح هائمة» سنة 2005.. «وأمل» هو أول فيلم روائي طويل.. يودع به حكايات الموت وأشباحه.. وأحزانه ليروي حكاية «أمل الشابة الكاميرونية التي تقرر الفرار بطفلها عبر الصحراء الشاسعة لتصل إلي أوروبا.. رحلة محفوفة بالموت في كل خطوة.. وعندما «تلتقي «ليونار» تشعر بالمشاركة.. وبالقوة علي الوصول إلي هدفها وبأنها لن تكون أبدا «جثة» ملقاة في الصحراء وتلتهمها الطيور الجارحة.. إن الحلم بالهجرة والابتعاد عن الفقر المدقع قد يكون الطريق إلي الموت لكن أبدا لا أحد يستطيع التنازل عن أحلامه أو الاستسلام.