لقطة من الفيلم الفلسطينى القطرى الفرنسى المشترك «بالتدريج» للمخرجين «عرب ونارزان ناصر» «مونبيلييه».. مدينة العلم.. والنور .. والمستقبل.. قبلة الشباب من جميع أنحاء العالم الذين يسعون وراء جامعاتها العريقة للدراسة.. لذا ليس بغريب أن يحتل الشباب المقدمة في هذه المدينة الغارقة في القدم بتراثها القديم وعماراتها المذهلة وشوارعها الضيقة ذات البلاط الزجاجي الملون وبيوتها الأثرية.. هذه المدينة التي تحافظ بشدة علي تراثها وكل قديم فيها فتقيم يوما عالميا «للأنتيكات» حيث يجتمع في الميدان الرئيسي الكبير المواجه للأوبرا.. كل سكانها يعرضون مقتنياتهم الشخصية من التحف والأنتيكات في معرض مفتوح بالشارع غير مسبوق في أي عاصمة من عواصم العالم. هذه المدينة التي تغري الشباب بعلمها للقدوم إليها.. فتقدم كل التسهيلات للدراسة خاصة في مجال الأدب والطب، لها وجه آخر عابث من خلال شواطئها المتحررة التي عرفت بشواطئ العراة فسبقت بذلك الكوت دازور الفرنسية من شواطئ نيس وكان. شباب مونبيلييه هم رهانها الكسبان.. ولذلك فإن كل الأنشطة الثقافية والفنية تري الشباب يتابعونها بشغف شديد ويحرصون علي المشاركة بصورة إيجابية فيها.. ومن أقدم هذه الأنشطة الثقافية والفنية مهرجانها السينمائي لدول البحر المتوسط الذي يحتفل بدورته السابعة والثلاثين هذا العام في الفترة من الرابع والعشرين من أكتوبر إلي الواحد والثلاثين منه.. تأتي هذه الدورة في إطار متغيرات كثيرة تشهدها المدينة بوجود عمدة جديد تولي منصبه منذ عامين.. وهو صاحب رؤية ثقافية فنية.. مما أضفي الكثير من التغييرات علي ملامح المهرجان هذا العام.. حيث طالب بتغيير المدير الفني للمهرجان.. وإن أبقي علي رئيس المهرجان «هنري تالافاها» وهو أيضا مؤسسة مع الراحل السينمائي (بيير بيتيو). في مقابل هذه التغييرات ضاعف العمدة «فيليب سورال» ميزانية المهرجان وهو العمدة رقم (16) في تاريخ هذه المدينة التي حملت طويلا لقب مدينة (العلم والفنون)، حيث تتنوع مهرجاناتها في العديد من المجالات موسيقي.. مسرح .. سينما رقص.. ألخ.
في هذه الدورة السابعة والثلاثين يرأس لجنة التحكيم الدولية الممثل المغربي الأصل «رشدي زيم» أحد أبطال الفيلم الشهير «بلديون» للمخرج القدير «رشيد بوشارب».. وكان زيم هو وزملاؤه أبطال الفيلم الثلاثة الآخرون ومن بينهم «جمال ديبوز» قد حصلوا علي جائزة أحسن ممثل من مهرجان «كان» عندما عرض الفيلم الذي أثار ضجة كبري.. وبسببه تم تغيير العديد من قوانين المعاشات في فرنسا.. حيث كان الجنود الذين حرروا أوروبا من الاحتلال النازي.. ومن أصول عربية يحصلون علي معاشات ضئيلة للغاية.. لكن بعد عرض الفيلم تمت مساواتهم بالجنود الفرنسيين.. لتتحسن أوضاعهم المعيشية هم ومن تبقي من أسرهم.. وهكذا أسهمت السينما والفن الراقي الصادق في تغيير المجتمعات.
منذ عدة سنوات التقيت «رشدي زيم» في مهرجان دبي السينمائي وكان حواره لمجلة «آخر ساعة».. هو أول حوار له لمجلة مصرية.. يومها كان يخوض تجربته الإخراجية عن تجربة ذاتية.. عن زوجين كل منهما ينتمي لدين مختلف هو مسلم وهي يهودية.. وتعرضهما للعديد من المشاكل ليس بسبب اختلاف الأديان التي تشارك في الجوهر.. لكن من الظلال التي تلقيها السياسة بكل سيئاتها علي البشر بالإضافة للكثير من العادات والتقاليد التي يضعها البشر عائقا للآخرين تحت مسميات الدين. ويشارك «رشدي زيم» في لجنة التحكيم الدولية كل من الفنانة «ماريان دنيكور».. والكاتبة «ليلي سليماني».. والممثلة «أليس دي لينكسينج».. والسيناريست والمخرج «جاك فيش». ويشارك في المسابقة الرسمية عشرة أفلام من خمس عشرة دولة.. ليس من بينها مصر.. وإن شاركت «فلسطين» والجزائر كل منهما بفيلم.. الأولي إنتاج مشترك مع فرنسا وقطر بفيلم «تصاعد».. إخراج عرب ونارزان ناصر.. والثاني «الآن يستطيعون الحضور» وهو أيضا إنتاج فرنسي.. من إخراج سالم براهيمي.
أما لجنة تحكيم الصحافة الدولية فترأسها كاتبة هذه السطور «نعمة الله حسين» وتضم الناقد الفرنسي الكبير «آلان ماسون» شيخ نقاد فرنسا.. «وفرانشيسكو فيراري» البرتغال.. و«إيزابيل شوني» مديرة إذاعة فرانس كيلتور.. راديو فرنسا.. والناقدة بريجيت بارونيه من مجلة آلو سينما. هذا بالإضافة لجائزة الجمهور.. وقيمة جائزتها تعادل جائزة لجنة التحكيم.. وجائزة لجنة التحكيم من الشباب.
وفي إطار مسابقة الفيلم القصير التي يعرض بها عشرون فيلما من أربع وعشرين دولة.. حظ الدول العربية فيها ليس بالقليل بل أفضل من المسابقة الرسمية.. حيث تشارك كل من مصر ولبنان والمغرب وفلسطين. من مصر يشارك المخرج الشاب «أحمد إبراهيم» بفيلم «الموتور» ومن لبنان فيلم «أمواج» للمخرج «إيلي داغر».. وهو الفيلم الذي حصل علي جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان «كان» الأخير.. والفيلم الفلسطيني «ماريا» لباسل خليل. وتتكون لجنة التحكيم الدولية من المنتج «نوموا موريم» والممثل والمخرج شاد شينواج.. والمنتج سعيد هاميش .. وإليس كورابي مديرة برنامج الفيلم القصير في كان .. والمخرجة ماري فيميبار.
ويكرم المهرجان في هذه الدورة المخرج الفرنسي الجزائري المولد «توني جالتيف».. ويعرض له مجموعة من أفضل أفلامه.. وكذلك المخرج الأسباني كارلوس ساورا الذي يعد واحدا من عمالقة السينما الأسبانية والأوروبية.. أما السينما البرتغالية الجديدة فهي ضيف شرف ويتم تكريم واحد من شباب مخرجيها ميجل كومين.
أما فيلم الافتتاح فهو من إخراج جيوسبي جودينو وإنتاج آن دومنيك توسان.. وبطولة الممثلة الإيطالية فاليريا جولينو التي نشأت مابين اليونان وإيطاليا وهجرت الدراسة في سن الرابعة عشرة لتعمل عارضة أزياء.. ثم اتجهت بعد ذلك للتمثيل.. وعرفت الشهرة الحقيقية عندما شاركت داستن هوفمان وتوم كروز بطولة فيلم «رجل المطر».. فيلم الافتتاح «من أجل حبك» الذي عرض في مهرجان فينيسيا الماضي وحصلت بطلته فاليريا علي جائزة أحسن ممثلة.
إن مهرجان مونبيلييه في دورته السابعة والثلاثين مازال كعادته مشغولا ومهموما بتقديم أفلام هي مد للجسور الثقافية بين البلاد.. كما يهتم بشكل صريح بمشاكل الإنسان وهمومه.. واضعا في الاعتبار أن هذا البحر الذي تلتقي الدول الواقعة حوله.. إنما هو في بعض الأحيان ليس رابطا بين هذه الدول.. لكنه يتحول في بعض الفترات إلي مقبرة عميقة تدفن فيها الأحلام بجوار البشر الذين يسافرون بطرق غير شرعية من الجنوب للشمال متوهمين أن الحياة في هذا الجزء من الشاطئ أجمل بينما هي «وهم» وخدعة كبري.