الأيام القليلة الماضية نشاطًا مكثفًا للدبلوماسية المصرية علي الساحة الأفريقية، بما يعيدنا إلي القارة السوداء بعد عقود من الفتور، فالرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، زار كلا من السودان وأثيوبيا، فيما زار المهندس إبراهيم محلب دولة كوت ديفوار (ساحل العاج) لافتتاح عدة مشاريع مشتركة، ما يعزز من الانفتاح علي أفريقيا، باعتبارها إحدي أهم الفرص الواعدة لتحقيق مكاسب اقتصادية للطرفين، ليضيف إلي قدرة مصر ووضعها علي الساحة الدولية، في ظل إعادة ترتيب القاهرة لأولوياتها السياسية علي الصعيد الدولي. وقد توجه الرئيس السيسي إلي العاصمة السودانية الخرطوم الاثنين الماضي، حيث التقي بنظيره السوداني عمر البشير، ورئيس الوزراء الأثيوبي هايلي ماريام ديسالين، في قمة ثلاثية ما يفتح الباب لتحسن تدريجي في ملف تسبب في توتر العلاقات بين مصر وأثيوبيا في السنوات القليلة الماضية. وتوجه الرئيس السيسي بعد قمة الخرطوم إلي أديس أبابا، في زيارة رسمية لأثيوبيا، تعد الأولي لرئيس منذ 1995، باستثناء مشاركة السيسي نفسه في فعاليات القمة الأفريقية التي استضافتها أديس أبابا يناير الماضي، وجاءت الزيارة تاريخية لتدشن مرحلة جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية بين أكبر دولتين في شرق القارة الأفريقية، إذ اصطحب السيسي معه مجموعة من رجال الأعمال للاتفاق علي مجموعة من المشروعات المشتركة بين الجانبين. التحركات علي أكثر من صعيد أفريقي جاء بالتزامن مع حجم المشاركة الأفريقية في المؤتمر الدولي لدعم الاقتصاد المصري الذي استضافته مدينة شرم الشيخ منتصف الشهر الجاري، وقدمت عدة دول أفريقية من ضمنها مالي والصومال وأثيوبيا والسنغال وغامبيا وزامبيا دعمها للمؤتمر، بما يكشف الرغبة الواضحة في إعلان التأييد الكامل لمصر الجديدة، والحرص علي تدعيم أواصر العلاقات الاقتصادية مع القاهرة، ما عززه الرئيس السيسي بدعوته خلال جلسات المؤتمر ذاته إلي استضافة مصر لقمة التكتلات الأفريقية الكوميسا (السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا)، والسادك (مجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية)، وتجمع دول شرق أفريقيا، تمهيدًا لإطلاق منطقة تجارة حرة تضم 26 دولة أفريقية، بما يعزز من التبادل التجاري داخل القارة. وحلل الدكتور أيمن شبانة، المتخصص في الشؤون الأفريقية أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الحراك المصري علي صعيد القارة السوداء قائلا ل"آخر ساعة" إن نظام ما بعد ثورة "30 يونيو" يمتلك رؤية ويعلم ما هي أهدافه وأين هي مصلحة البلاد العليا، فبات يدرك أن أفريقيا هي المستقبل لمصر، وأن القاهرة بعيدًا عن القارة الأفريقية تفقد الكثير من قوتها، فالتحرك في إطار الدائرة الأفريقية من دوائر الأمن القومي المصري، جاء لينهي طغيان الاهتمام بدائرة علي حساب باقي الدوائر، فالزعيم جمال عبدالناصر وضع اعتبارات الأمن المصري في الدائرة العربية ثم الأفريقية ثم الإسلامية، لكن في عهد حسني مبارك طغت الدائرة الأولي علي ما عداها. وأشار شبانة إلي أن السيسي استطاع التخلص من هذا الطغيان بإعطاء اهتمام كاف بملف العلاقات الأفريقية، في إطار تحرير القرار السياسي وإقامة علاقات ثنائية قائمة علي المصلحة المشتركة، وهو ما تجلي في زيارة الرئيس السيسي لكل من السودان وأثيوبيا، خاصة أن زيارته للأخيرة تعد الأولي من نوعها لرئيس مصري منذ عبدالناصر علي مستوي العلاقات الثنائية، لأن مبارك كان يزور أديس أبابا في القمم الأفريقية فقط. وأكد شبانة أن زيارة محلب لكوت ديفوار تأتي في إطار استعادة حيوية علاقاتنا مع الأفارقة، فلا ننسي أن ساحل العاج كان بها أكبر فروع شركة النصر للاستيراد والتصدير في القارة بأكلمها، وهو مبني ضخم كان رمزًا للنفوذ المصري في أفريقيا، والآن تضطلع شركة المقاولون العرب بدور قريب مما كانت تلعبه شركة النصر في مد جسور التعاون مع الشعوب الأفريقية، وأشار إلي أن استثمارات المقاولون بلغت 50 مليون دولار في ساحل العاج. وطالب شبانة بضرورة رفع مستوي العلاقات مع أثيوبيا إلي مستوي الشراكة الاستراتيجية، خاصة بعد توقيع إعلان التوقيع علي وثيقة المبادئ التي تهدف للتنسيق بين دول حوض النيل الشرقي، معتبرًا أديس أبابا إحدي أهم العواصم الأفريقية كونها مقر الاتحاد الأفريقي، وهي إحدي أهم الدول الأكثر تأثيرًا علي مستوي القارة، فضلا عن أنها عضو في منظمة الكوميسا (السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا) كما أن أديس أبابا تعمل علي أن يكون دخل المواطن الأثيوبي في إطار المتوسط في عام 2025 لتودع مستوي دائرة الفقر والجهل. في السياق، قالت الدكتورة أماني الطويل، مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ل"آخر ساعة"، إن التحركات الأخيرة علي صعيد الساحة الأفريقية بمثابة إعادة الاعتبار المطلوب في السياسة الخارجية المصرية للشأن الأفريقي، علي اعتبار الأخير أحد مكونات الأمن القومي، وتصحيح للسياسات الخاطئة التي أهملت القارة علي مدار عقود، فالنظام السياسي الحالي حقق نجاحات كبيرة في مسار استعادة زخم العلاقات مع دول غرب أفريقيا، وأن الأمور تحتاج إلي بعض الوقت لكشف مدي النجاح الذي تحقق في ملف أزمة مياه النيل. علي الصعيد ذاته، أكد الدكتور عادل عامر، مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية، أن مصر لن تفرط في حقوقها المائية، ونجحت بحنكة الرئيس السيسي، بالتوصل إلي اتفاق يرضي جميع الأطراف ويمنع تحول دول مجري نهر النيل إلي ميدان للصراعات والحروب، وذلك عبر العودة إلي القانون الدولي، الذي يضمن لمصر حقوقها التاريخية في مياه النيل والمقدرة بنحو 55.5 مليار متر مكعب. وطالب عامر بضرورة تكثيف المشروعات الاستراتيجية التي تربط مصر بالقارة، داعيًا لتبني مشروع الربط الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط يتم في إطار تطوير سبل التعاون بين دول حوض النيل، والاستغلال الأمثل لمياه النهر وتعظيم الفوائد لجميع الدول، مشيرًا إلي أن الربط الملاحي مشروع استراتيجي طموح، له العديد من الأهداف علي المدي البعيد، التي تعمل علي تعظيم القيمة الاقتصادية والسياسية لنهر النيل، وإحداث نهضة في التعاون والتبادل التجاري بين دول حوض النيل. اقتصاديًا، اعتبرت الدكتورة عالية المهدي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، في تصريحات ل"آخر ساعة"، أن العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول أفريقيا باتت ضرورة لإعطاء الاقتصاد المصري بدائل تصديرية، خاصة أن الأسواق الأفريقية تحتاج إلي المنتجات المصرية، كما أنها مصدرة للمواد الخام، ما يجعل إمكانية التكامل بين الاقتصاد المصري والاقتصادات الأفريقية ممكنًا، كما أن العديد من دول القارة تحتاج إلي مشروعات تتعلق بالبنية التحتية وهو ما يمكن توفيره من خلال الخبرة المصرية في هذا المجال. وذهبت المهدي إلي أن التعاون المصري الأفريقي في المجال الاقتصادي يمضي قدمًا في الفترة الأخيرة، خاصة أن النظام السياسي القائم وضع استراتيجة واضحة قائمة علي التعاون والمشاركة دون استعلاء في إطار من المصالح المشتركة القائمة علي ضمان المكاسب لجميع الأطراف، وهو ما ظهر بوضوح في المؤتمر الاقتصادي الذي عكس رغبة أفريقية في أن تكون مصر المعبر الرئيسي للاستثمارات الأجنبية إلي القارة الأفريقية.