كان المسيحيون مدعومين من صربيا برئاسة »سلوبودان ميلوسوفيتش« في حين كان المسلمون مدعومين من ألبانيا، وبغض النظر عن تفاصيل السنتين والمجازر التي ارتكبها الصرب بحق المسلمين، لكن في النهاية وضعت الحرب أوزارها، في يونيو من عام 1999 بعد تدخل المجتمع الدولي بانحياز روسيا لصالح صربيا، بينما الولاياتالمتحدة ومعها الأوروبيون، انحازوا علي مضض، لصالح الكوسوفيين وألبانيا. المشهد الختامي كان علي شفا أن يتحول لكارثة فبعد قبول الأطراف المتصارعة وقف إطلاق النار، ذهبت قوات من حلف شمال الأطلنطي »الناتو« لتأمين مطار »برشتينا« المطار الرئيس في كوسوفو، وكان عددها 45 ألف جندي بقيادة الجنرال الإنجليزي "مايك جاكسون" الذي فوجئ بقوات صاعقة روسية سبقته واحتلت المطار بالفعل، فاتصل بالقيادة المركزية، ورد علية القائد العام الجنرال الأمريكي "ويسلي كلارك" وأصدر إليه أمراً مباشراً بالاشتباك مع القوات الروسية و»طربقة« المطار فوق رؤوسهم إن لزم الأمر، فرد علية جاكسون بحسم: "آسف لن أنفذ الأمر، فلست مستعداً لأن أكون سببا في نشوب حرب عالمية ثالثة"، وأغلق الخط في وجة محدثه، ثم تم التوافق مع الروس علي ترك قوات متعددة الجنسيات في المطار منعاً للصدام، وأحيل الجنرال العاقل »مايك جاكسون« للتقاعد. تفاصيل هذا المشهد عادت إلي الذاكرة عقب موافقة مجلس الشيوخ الروسي علي الطلب الذي تقدم به الرئيس »فلاديمير بوتين« علي استخدام القوة العسكرية في شبه جزيرة القرم الواقعة جنوبأوكرانيا، من أجل إرساء الأمن والاستقرار، وهنا يتبادر للذهن السؤال التالي: لماذا القرم تحديداً وما هي أهميتها؟ منذ عزل الرئيس الرئيس الأوكراني (فيكتور يانكوفيتش) في الثاني عشر من فبراير الماضي، توجهت كل الأنظار لذلك الإقليم البالغ تعداد سكانة 2 مليون نسمة متعددي القوميات والأعراق، وإن كان أغلبهم من أصول روسية ويتكلمون لغة موسكو ويحملون جوازات سفرها، لذا لم يكن غريباً أن تجتاح قوات من حرس الحدود الروسي الإقليم، وأن تفرض حصاراً علي ميناء مدينة سيفاستوبول، كما فرضت سيطرتها علي مدرج مطار المدينة العسكري، وأوقفت حركة إقلاع الطائرات وهبوطها، وفي الوقت نفسه أقام مسلحون بزي عسكري روسي حواجز تفتيش أمام مطار (سمافاروبول) عاصمة الإقليم، فيما سيطر مسلحون علي مبني البرلمان ورفعوا عليه العلم الروسي. يتمتع إقليم القرم بحكم ذاتي منذ استقلال أوكرانيا عقب انهيار الكتلة السوفيتية عام 1991 وإذا كان البرلمان لا يملك سلطة إصدار قوانين دون الرجوع للحكومة المركزية في كييف، فإن الإقليم يملك ميزانية مستقلة ودستوراً خاصاً، علماً بأن عمدة المدينة لا يُنتخب وإنما يتم تعيينه من قبل الحكومة في كييف، ولكن للمدينة طابع ثقافي روسي في المقام الأول ويعتمد جزء كبير من اقتصادها علي وجود قاعدة عسكرية روسية في ميناء مدينة (سيفاستوبول). امبراطوريات محتلة لم تلتحق القرم بأوكرانيا سوي من ستين عاماً فقط، وعاشت شبه الجزيرة الواقعة علي البحر الأسود في ظل عدة امبراطوريات محتلة، منها الإمبراطورية العثمانية، والاحتلال اليوناني والاحتلال التتاري و احتلال جمهوريتي جنوا وبولندا(جمهورية جنوا تأسست في القرن الحادي عشر وهي حالياً جزء من إيطاليا)، وفي عام1783 غزت روسيا القيصرية، بقيادة الإمبراطورة كاترينا الثانية، إقليم القرم واتخذت منه قاعدة لتوسيع نفوذها ورقعة أراضيها، لا سيما أن القرم تطل علي البحر الأسود وهو ما يوفر لها منفذاً علي البحر الأبيض من خلال مضيق البوسفور، وفي عام 1853 شعر السلطان العثماني عبدالحميد الثالث بأن قيصر روسيا نيقولا الأول يستعد للانقضاض علي ملكه فتحالف مع انجلتراوفرنسا لإجهاض أحلام روسيا الاستعمارية، من خلال المبادرة بمهاجمة إقليم القرم ، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس استمرت ثلاث سنوات كان أبرز ما فيها حصار مينا (سيفاستوبول) وسقوط 750000 جندي من الجانبين معظمهم من الروس ورغم خسارة روسيا الحرب فإنها لم تفقد السيطرة علي الإقليم. مشاركة مصرية ولما رأي السلطان عبدالحميد أن شبح الحرب يتهدد سلامة الدولة طلب من عباس باشا الأول والي مصر أن يرسل نجدة من الجنود المصريين. فامتثل الوالي وأمر بتعبئة أسطول مكون من اثنتي عشرة سفينة مزودة ب 642 مدفعا و6850 جنديا بحريا بقيادة أمير البحر المصري حسن باشا الإسكندراني، وتعبئة جيش بري عدده حوالي 20 ألفا و72 مدفعا بقيادة الفريق سليم فتحي باشا، إضافة إلي النجدات اللاحقة التي شملت عددا كبيرا من الجنود والسفن أيضا، وتبرع والي مصر عباس باشا وابنه بمبلغ كبير من المال إضافة إلي التبرعات من الموظفين وأهالي مصر. وبحسب ما ذكره الأمير عمر طوسون في كتابه »الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853 - 1855م« المطبوع في القاهرة والمنشور في جريدة "الأهرام" سنة 1932م، فإن الأسطول المصري وصل إلي الأستانة بعد ثلاثة أسابيع من مغادرته ميناء الإسكندرية في 14 أغسطس سنة 1853م، وقام السلطان عبدالحميد بزيارة الجيش المصري وتكريم قادته. وبعد استراحة الجيش لعدة أيام تم تقسيمه إلي 3 ألوية، ووزعها علي مناطق القتال علي نهر الدانوب، وقد قام كل لواء من الألوية الثلاثة بدوره في هذه الحرب وأبلي أحسن البلاء في جميع معاركها. وهكذا أعلنت الدولة العثمانية الحرب علي روسيا رسميا في 4 أكتوبر سنة 1853م، وفي 27 مارس سنة 1854م انضمت فرنساوانجلترا إلي تركيا في الحرب ضد روسيا (ويذكر هنا أن الجيش الفرنسي المشارك في حرب القرم ومعركة سفاستوبل كان يضم ثلاث كتائب جزائرية). ثم انتقلت الحرب إلي شبه جزيرة القرم، يقول الأمير عمر طوسون: "بدأ حصار سباستبول في 20 سبتمبر 1854م واستمر عاما، لأن الاستيلاء عليها تم في 8 سبتمبر سنة 1855م، وتم هزيمة الجيش الروسي بقيادة الجنرال منتشيكوف من قبل جنود الحلفاء (فرنساوانجلترا) وجنود الجيش المصري، وذلك في معركة نهير (ألما) في القرم، وبعد هذا النصر وفي طريق عودة الأسطول المصري من القرم إلي الأستانة في شهر أكتوبر من نفس العام غرقت بارجتين مصريتين في البحر الأسود وفقدت البحرية المصرية 1920 بحارا، ونجا130 رجلا فقط، وقد ورد نبأ هذه الفاجعة الأليمة في جريدة "ذي اللستريتد لندن نيوز" بعددها الصادر بتاريخ 2 ديسمبر 1854م وجاء فيه: وقد وقعت حوادث أخري مريعة غرق فيها كثير من السفن، ولكن ليس بينها ماهو أفظع من حادثة البارجتين المصريتين العائدتين من القرم. التتار يشكل التتار 12٪ من سكان شبه جزيرة القرم، يتمركزون فيها منذ القرن الثامن عشر وهم من أصول مغولية-عثمانية مشتركة، ويدينون بالإسلام وكانوا في مقدمة الجيش الذي هُزم من الإمبراطورة الروسية كاترينا الثانية، وفي عهد الرئيس جوزيف ستالين(1941-1953) كان التتار متهمين بتحدي السلطة الشيوعية المركزية في موسكو ومساعدة ألمانيا النازية وبموجب هذه التهم تم نفي الكثير منهم لسيبريا، ولم يتم السماح لهم بالعودة إلي ديارهم إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهم من أشد المعارضين للتواجد الروسي في القرم، وكانوا مؤيدين للثورة البرتقالية التي أطاحت بالرئيس (فيكتور يوتشينكو) الذي كان موالياً لموسكو، ولكنهم أصيبوا بخيبة الأمل حيث لم تعترف السلطة الأوكرانية الجديدة بلغتهم وبقوميتهم كجزء من نسيج الإقليم. في منتصف القرن التاسع عشر، ومع إطلالتها علي البحر ومناخها المعتدل تحولت القرم لمنتجع يقصده الأرستقراطيون الروس، وفي عام 1954 تنازل الرئيس الروسي (نيكيتا خروتشوف) (المنحدر من أصول أوكرانية) عن القرم لأوكرانيا، احتفالاً بمرور 300 عام علي توقيع اتفاقية (بيريسلاف) التي أعلنت بموجبها قومية »القوازق« العرق الغالب علي التركيبة السكانية الأوكرانية في هذا التوقيت، الولاء لروسيا، ومع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وضعف روسيا الاتحادية سياسياً واقتصادياً كان من السهل علي أوكرانيا أن تفرض وصايتها علي شبه جزيرة القرم. أهمية تاريخية في ميناء سيباستوبول يتمركز أسطول روسي، منذ أواخر القرن الثامن عشر، قوامه 25 بارجة مقاتلة و13ألف جندي، ومنذ تفكك الاتحاد السوفيتي يمثل هذا الأسطول مسمار جحا الروسي في الأراضي الأوكرانية، وكان من المفترض أن يظل الأسطول الروسي في سياستوبول حتي عام 2017 بموجب اتفاقية تحصل من خلالها أوكرانيا علي الغاز الطبيعي الروسي بخصومات خاصة، غير أن اتفاقية أخري توصلت لها موسكو مع أوكرانيا في عهد الرئيس المعزول (فيكتور يانكوفيتش) سيظل بموجبها الأسطول الروسي في سيباستوبول حتي عام2042. ورغم أن القرم لم تعد بالأهمية الاستراتيجية علي الصعيد العسكري بالنسبة لروسيا، لأن البحر الأسود نفسه لم يعد كذلك، حيث نقلت موسكو أهم قطعها البحرية لبحر الشمال والمحيط الهادي، هذا فضلاً عن القيود الإدارية التي تفرضها أوكرانيا علي تحركات الأسطول الروسي في سيباستوبول، وهو ما دفع موسكو لاستثمار ملايين الدولارات في ميناء (نوفوروسيسك) لاستخدامة كبديل، ولكن هذا لا يعني أن روسيا ستتخلي عن (سيباستوبول) بسهولة نظراً لأهميتة التاريخية حتي لو كان الثمن صداما عسكريا دمويا مع الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية.