أثار إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، السماح بتصدير رقائق ذكاء اصطناعي متقدمة إلى الصين، مقابل عمولة مالية ضخمة لصالح الحكومة الأمريكية، عاصفة من الجدل داخل الأوساط السياسية والأمنية والتكنولوجية في واشنطن. فبينما تروّج الإدارة الأمريكية للخطوة باعتبارها صفقة اقتصادية رابحة تعزز الشركات الأمريكية العملاقة، وتحذّر تقارير وتحليلات، أبرزها ما نشرته مجلة «فورين بوليسي»، من أن القرار قد يتحول إلى واحدة من أخطر الثغرات في منظومة الأمن القومي الأمريكي، ويقوّض التفوق الاستراتيجي للولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، خاصة في مواجهة الصين. «صفقة إنفيديا».. من فرصة اقتصادية لأزمة أمن قومي كشفت مجلة «فورين بوليسي»، أن أحدث مقترح تبناه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسمح لشركة إنفيديا التكنولوجية الأمريكية الرائدة بتصدير رقائق ذكاء اصطناعي متطورة للغاية إلى الصين، مقابل عمولة تصل إلى 25% تذهب مباشرة إلى الحكومة الأمريكية. وتُعد هذه الخطوة تصعيدًا لاقتراح سابق كان ينص على عمولة 15% فقط، ما يعكس إصرار الإدارة الأمريكية تمرير الصفقة رغم التحذيرات المتصاعدة. تصريحات «جنسن هوانج» تشعل الجدل في سبتمبر الماضي، هاجم جنسن هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا الأمريكية، بشدة الأصوات المتشددة تجاه الصين، واعتبر أن القيود المفروضة على تصدير التكنولوجيا "تدمّر الحلم الأمريكي"، واصفًا هذا النهج بأنه "عار" ولا يمت للوطنية بصلة. وجاءت تصريحاته ردًا على انتقادات وُجهت لاتفاق محتمل مع إدارة ترامب يسمح بتصدير أشباه موصلات متقدمة إلى الصين مقابل عمولة حكومية. وبعد أسابيع، أعلن ترامب رسميًا موافقته على تصدير رقائق تفوق جيلًا كاملًا أحدث ما تمتلكه الصين من تقنيات محلية، مقابل عمولة تصل إلى 25%، في خطوة اعتبرها مراقبون غير مسبوقة في تاريخ السياسات التجارية الأمريكية. السوق الصيني.. إغراء ال50 مليار دولار من منظور إنفيديا، تبدو الصفقة مغرية إلى حد بعيد، إذ تمثل الصين سوقًا شبه مغلقة أمام الشركة بقيمة تُقدّر بنحو 50 مليار دولار، ويُنظر إلى هذا السوق باعتباره عنصرًا حاسمًا لتحقيق معدلات النمو المرتفعة التي يتوقعها المستثمرون، خاصة في ظل المنافسة الشرسة في قطاع الرقائق عالميًا. لكن في المقابل، ترى «فورين بوليسي» أن بيع هذه التقنيات المتقدمة لأكبر خصم استراتيجي للولايات المتحدة يشبه، من حيث الخطورة، ونقل تكنولوجيا نووية إلى الاتحاد السوفيتي عقب الحرب العالمية الثانية. شبهات دستورية وقانونية تحيط بالصفقة أشارت المجلة، إلى أن الصفقة المقترحة قد تكون غير قانونية بموجب بند التصدير في الدستور الأمريكي، الذي يحظر صراحة فرض ضرائب أو رسوم على الصادرات إلى الدول الأجنبية. ولهذا السبب، تواجه الإدارة الأمريكية صعوبات حقيقية في إيجاد آلية قانونية تتيح تنفيذ الصفقة، خاصة فيما يتعلق بصفقة رقائق H2O التي سبق أن وافق عليها ترامب في وقت سابق من العام. ورغم هذه التعقيدات، تبدو إنفيديا، وهي الجهة الوحيدة التي يمكنها الطعن قانونيًا، غير معترضة على منح الحكومة الأمريكية حصة كبيرة من أرباحها المحتملة في السوق الصينية. تفريط في التفوق الاستراتيجي الأمريكي اعتبرت «فورين بوليسي»، أن ترامب وهوانج يبالجان في افتراض أن الصين ستظل معتمدة على الولاياتالمتحدة في مجال يُعيد تشكيل موازين القوى العالمية بسرعة غير مسبوقة. فالسماح للصين بالحصول على أحدث المعدات الأمريكية يعني عمليًا التخلي الطوعي عن تفوق استراتيجي متزايد في الذكاء الاصطناعي، ومنح بكين قوة حوسبية قد تكون لها عواقب وخيمة على الأمن القومي الأمريكي. الرقائق.. قلب الثورة التكنولوجية الحديثة تلعب أشباه الموصلات دورًا محوريًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمومية، وهي مجالات تؤثر بشكل مباشر في الأمن القومي والقدرات العسكرية. وتنظر الصين إلى اعتمادها على الرقائق المتقدمة باعتباره "قيدًا خانقًا"، وتسعى لتحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70% بحلول نهاية العام. ورغم استثمارات ضخمة بلغت نحو 48 مليار دولار في صندوقها الوطني لصناعة الدوائر المتكاملة، ودعم واسع ضمن برنامج "صُنع في الصين 2025"، تشير التقديرات إلى أن بكين لن تتجاوز هذا العام نسبة اكتفاء ذاتي عند حدود 30% فقط، معظمها من رقائق أقل تطورًا بكثير من رقائق Nvidia المتقدمة مثل H200 وBlackwell. فجوة تكنولوجية.. ومحاولات تهريب قدّر خبراء سياسات التكنولوجيا أن الصين لا تزال متأخرة بنحو 18 شهرًا على الأقل عن تطوير بديل محلي مكافئ لرقائق Nvidia H200، وتكمن أهمية الصفقة بالنسبة لبكين في سد هذه الفجوة مؤقتًا، إلى حين استكمال قدراتها المحلية. وفي هذا السياق، كشفت وزارة العدل الأمريكية في وقت سابق عن محاولات صينية لتهريب هذه الرقائق المتقدمة بطرق غير مشروعة، في اليوم نفسه تقريبًا الذي أتاح فيه اقتراح ترامب الجديد وصولًا شبه مباشر للعملاء الصينيين إلى هذه التكنولوجيا من داخل الولاياتالمتحدة. رهان ترامب على "الهيمنة العالمية للذكاء الاصطناعي" يعتمد فريق ترامب المعني بالسياسات التكنولوجية على رؤية تقوم على تخفيف القيود التنظيمية ودفع الشركات الأمريكية للتوسع عالميًا بأي ثمن، بهدف فرض "حزمة ذكاء اصطناعي" أمريكية تجعل بقية العالم معتمدًا على التكنولوجيا الأمريكية. هذا النهج، المستوحى من استراتيجيات رأس المال الاستثماري في قطاع البرمجيات، قد ينجح اقتصاديًا، لكنه بحسب المجلة يتجاهل تعقيدات إدارة موازين القوى العالمية، ويدفع خصومًا مثل الصين إلى تسريع خطواتهم لتحقيق الاستقلال التكنولوجي. تجربة سابقة تُنذر بالفشل عندما سُمح سابقًا بتصدير رقائق H20 الأقل تطورًا، ردّت الصين بتوجيه شركاتها لوقف شراء منتجات إنفيديا، ما أدى إلى تباطؤ ملحوظ في نمو مبيعات الشركة. وتشير التجارب السابقة، مثل حالة شركة سيسكو التكنولوجية العملاقة في الصين، إلى أن بكين غالبًا ما تستنسخ التكنولوجيا الأجنبية ثم تُقصي الشركات الأمريكية لصالح بدائل محلية. مخاطر أمنية تتجاوز الاقتصاد حذّرت «فورين بوليسي»، من أن تقدم الصين في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، حتى بفارق عامين فقط، قد يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة، تشمل تصعيد الهجمات السيبرانية، وتطوير أسلحة بيولوجية، وتعزيز القدرات العسكرية الصينية في مجالات مثل التخفي والسرعات الفائقة. وترى المجلة، أن أي مكاسب مالية قصيرة الأجل لا تبرر تمكين خصوم الولاياتالمتحدة من أدوات قد يصعب احتواؤها لاحقًا. تحرك الكونجرس.. محاولة لوقف الصفقة في مواجهة هذه المخاطر، تحرك الكونجرس بسرعة، حيث تم تقديم مشروع قانون "SAFE Chips" (المشروع الذي يهدف لتعزيز القدرة التنافسية التكنولوجية للولايات المتحدة) بدعم من الحزبين لتجميد أي تخفيف إضافي على ضوابط تصدير الرقائق. ويسعى المشرعون لتمرير القانون بأغلبية ساحقة تُمكنهم من تجاوز أي فيتو رئاسي محتمل. كما لم تستبعد المجلة لجوء شركات منافسة أو جماعات معنية بالأمن القومي ودافعي الضرائب إلى القضاء لوقف الصفقة، رغم الغموض القانوني حول أحقية هذه الدعاوى. إنفيديا بين النجاح التجاري والجدل الوطني تُعد إنفيديا واحدة من أنجح الشركات الأمريكية، وتوظف عشرات الآلاف، وأسهمت بشكل كبير في نمو مدخرات التقاعد الأمريكية خلال العام الماضي. غير أن قرارها المحتمل ببيع رقائق متقدمة للصين، بحسب «فورين بوليسي»، يضع أرباح الشركة في مواجهة مباشرة مع الدستور الأمريكي ومتطلبات الأمن القومي، في صفقة قد تُغيّر قواعد اللعبة عالميًا، ولكن بثمن استراتيجي باهظ.