لم أكن أتخيل أن للزمن بوابة يمكن عبورها، منذ الخطوات الأولى تشعر أن التاريخ ينهض من سباته ليصافحك، وتحس أن الزمن يتراجع خطًى إلى الوراء، وأن الأرض تستعيد أنفاسها الأولى، منذ اللحظة الأولى التى تَعبُر فيها مدخل المتحف المصرى الكبير تدرك أنك لا تدخل بناءً من حجر، بل تخترق بوابة الزمن ذاته، تستقبلك الساحة الرحبة كصفحةٍ من ضوءٍ ورخام، وفى قلبها المسلة العظيمة تقف شامخة فى بهاءٍ يتجاوز القرون، وقد أُعيد ميلادها لتكون أول مسلّة معلّقة فى العالم. ومن بهو الملك رمسيس الثاني، تبدأ رحلة لا تشبه سواها، كل خطوة فى أروقة المتحف تُشبه عبورًا فى نهرٍ من الضوء والزمن معًا الجدران تُضيء بخفوتٍ ذهبيّ، كأنها تحفظ بين أحجارها أنفاس البنّائين الأوائل، والقاعات تتدرّج مثل فصول كتابٍ ضخمٍ كتبته يد الآلهة وسجّله المصريون فى ذاكرة الكون، كل زاوية فى المتحف كأنها نبضة من قلب مصر، وكل قطعة أثرية تشعّ بروحٍ خاصة، كأنها تتحدث بلغتها القديمة لتروى سيرة الخلود، أنشودة مصرية مكتوبة بالحجر، وليس مجرد صرحٍ أثريّ يربط بين الملوك الذين حكَموا، والأجيال التى وُلدت من بعدهم. اقر أيضًا | حضور ملكي ودولي رفيع المستوى.. تفاصيل افتتاح المتحف المصري الكبير مسلة الملك رمسيس الثانى تتصدر الفناء كأنها شعاعٌ من نور انبثق من قلب أسوان ليحط رحاله هنا، ترفع رأسها نحو السماء كأنها تنظر للشمس، أول مسلة معلّقة فى العالم، تستقر على قاعدةٍ زجاجية شفافة تُظهر أسفلها لأول مرة الخرطوش الملكى المحفور أسفلها، كأنها سرٌ انكشف بعد آلاف السنين. لم يره أحد من قبل، حالة فريدة أهداها القدر إلى متحف الخلود، ومنحة إلهية خبأتها الأيام لصرح عظيم يضم بين جنباته كنوز الأجداد، لم يكن أحد يعلم أن المسلة الحمراء التى ظلت آلاف السنين تعانى من تقلبات الزمن، تحمل فى باطنها بصمة تنفرد بها عن كل المسلات التى عرفها العالم، وزيّن بها ميادينه وشوارعه الشهيرة، ولم يتوقع أحد أن مسلة الفرعون العظيم رمسيس الثانى ستكون أول مسلة معلقة فى التاريخ القديم والحديث. وفى تكوين هرمى يحتضن المسلة، فإذا بأسماء مصر المتعددة تتلألأ كآياتٍ من نورٍ خالد، كتابات محفورة على رخام أسود يرمز إلى «كِميت» الأرض السوداء، مهد الحياة والخصوبة وأم الحضارات. التى وهبت مصر اسمها القديم، وحولها منقوشة أسماء مصر المتعددة، كأنها تتلو على الزائرين نشيد الهوية منذ فجر الخلق، أناشيد تتغنى بالخلود تقول للعالم: هنا بدأت الحضارة، وهنا سيبقى الإنسان خالدًا ما بقى الحلم فى عيون المصريين. قصة المسلة الحمراء يُطلق عليها المسلة الحمراء يبلغ ارتفاعها 16 مترا، ووزنها أكثر من 120 طنا، على جوانبها تمتد الكتابات الهيروغليفية فى أناقة، تتحدث بلسان الملك، تُعلن مجده بلغات الحجارة، وتروى على جانبيها أناشيد القوة والتجدد والخلود. كلمات على لسان الملك رمسيس الثانى يتحدث عن نفسه فى فخر واعتزاز، كما لو كان لا يزال يحكم العالم من عرشه، معلنًا مجده، إنجازاته، انتصاراته، كلماته المنقوشة فوق المسلة كانت تخرج من بين الحروف، كأن صوته لا يزال يتردد فى الصمت: «أنا ابن الشمس، ووارث السماء». فلم تكن المسلة حجرًا يُشير إلى السماء، بل نداءً يوقظ ما خمد فينا من مجدٍ وشموخ، نبض من ضوءٍ خالد؛ ورمز دينى وسياسى وهندسي، يربط الأرض بالسماء، ويُعلن أن مجد الإنسان يمكن أن يُصاغ من حجرٍ صاعد نحو السماء، وشاهد على أن الخلود فكرة مصرية قبل أن تكون أسطورة إنسانية، شعاع مقدس من أشعة الشمس، إهداءً إلى رع، وإشارةً إلى القوة الملكية، لتخليد الملوك وتكريم الآلهة، تشهد على أعمالهم وإنجازاتهم، وتعلن للكون أن مجد الإنسان يمكن أن يُصاغ من حجرٍ صاعد نحو السماء، وأن فى مصر وحدها الحجرُ يتكلّم والخلودُ يُكتب بالنقش. أسرار الأهرام السبعة حولت نظرى لأتأمل البوابة الهرمية الشاهقة، المُرصّعة بخراطيش ذهبية منقوش عليها أسماء الملوك، كأنها مفاتيح لعالمٍ من الأسرار، تتلألأ تحت ضوء الشمس، ينكسر الضوء على جدران الزجاج، فيغمر الممرات بهالةٍ من السكينة والجلال، ويعم السكون المهيب، ويغدو كل زائر، مهما كان، مجرد ظلٍّ يعبر أمام وجوهٍ من حجرٍ تراقبك بعيونٍ لا تعرف الموت، تصميمها يرتبط بحضارتنا العريقة برموزها الأبدية، وتضم الواجهة تكوينات معمارية مثلثة الشكل، ترمز إلى الأهرام تلك الصروح العظيمة التى تتحدى الزمن، كما تضم الواجهة سبعة أهرام؛ وهو رقم له دلالات عقدية وتراثية، ذات صلة بالحضارة المصرية. وقد قسمت الواجهة الشرقية للمتحف والتى يبلغ ارتفاعها 46 مترًا، وطولها أكثر من 800 متر إلى ثلاثة أجزاء، اثنان منها يحتوى كل جزء منها على ثلاثة أهرام مضيئة، تصل الأرض بالسماء من خلال الضوء، وهو البعد الرابع الذى استخدمه المصرى القديم، وتطل هذه الأهرام من داخل المتحف؛ لتظهر جزئيًّا من الواجهة فى حركة ديناميكية مستمرة، أما واجهة المتحف الشمالية (الجزء الثالث) فهى واجهة زجاجية، ذات الهرم السابع الشفاف؛ للتأكيد على استمرارية دور مصر الريادي، الذى بدأ من قديم الزمان فى بث إبداعات الحضارة علومًا وفنونًا وآدابًا إلى ربوع العالم أجمع، ومواصلة هذا الدور الريادى حديثًا، حيث نبعت وبزغت الحضارة من مصر (جنوبًا) وانتقلت وأثرت فى ثقافات العالم ( شمالًا). بوابة الزمان وما إن تعبر البوابة المصممة على هيئة هرمٍ مذهب الخراطيش حتى تشعر بأنك تعبر بوابة الزمان، وأن الضوء الذى انساب بين الأعمدة العتيقة صار أكثر نقاءً، لم يكن خيالًا، بل حضور طاغٍ يوقظ فى القلب رهبة الجلال، وحنين الحضارة، واعتزاز المصرى حين يقف وجهًا لوجه أمام تاريخه الحيّ. انفتح أمامى البهو العظيم، محرابًا من الضوء والدهشة حيث يقف الملك رمسيس الثانى فوق عرشه الحجرى شامخًا، فى صمتٍ تفيض من ملامحه المهابة والكبرياء والعظمة، كأنه لم يُغادر عرشه منذ آلاف السنين، ينظر بعينين من حجرٍ تحملان بريق الحياة، وكأن شرارة من الشمس قد اختبأت فيهما منذ آلاف السنين، يستقبل الجموع التى تدخل فى صمتٍ مهيب، يراقبهم بثبات الملوك الذين عبروا الزمن دون أن ينحنوا له. ينساب الصمت كأنفاس النيل فى منتصف الليل، الهواء من حوله يتهامس بلغاتٍ قديمةٍ لا يفهمها إلا الحجر والخلود، ينظر بعين تحمل بريق الحياة، يستقبل الجموع التى تدخل فى صمتٍ مهيب، كأنهم يدخلون حضرة العظمة ذاتها، الهدوء يلف المكان، لا يُسمع سوى أنفاس الزائرين، تختلط بدهشة وإجلال. توقفت أمام الملك الذى هزم الزمن، وصنع من الصخر حياةً أخرى لن تُطفئها القرون. تحيط به تماثيل من عصور مختلفة، كأن مجلس الملوك والآلهة والكهنة قد انعقد فى حضرته ليحتفى بعودته إلى عرشه الجديد، فيردّ التحية بعين الكبرياء، كأنه يقول فى صمتٍ مهيب: «ها أنا ذا عدتُ إلى بيتي، إلى مجدي، إلى شعبى الذى لم ينسَني». يتسلل الضوء المنبعث من الواجهة الزجاجية للمتحف، فيرسم على وجه الملك خطوطًا من النور تضيف إلى ملامحه بهاءً تصنعه يد القدر، ووقارًا، كأنها تحية من السماء لملكٍ ما زال حضوره يفرض هيبته على القرون، فى تلك اللحظة، تشعر أن الملك لم يكن حجرًا، بل مرآةٌ تعكس وجوهنا نحن. صوته المنقوش على التمثال يخرج من بين الحروف كأنفاسٍ حيّة: «أنا هنا.. فهل أنتم ما زلتم تتذكرون من أنتم؟».. كأن الحروف تضيء، تصعد من الحجر إلى السماء، ومن القلب إلى الذاكرة، حينها تدرك أن مصر ليست أرضًا نعيش فوقها، بل ذاكرةٌ تسكن فينا. هنا لا تُعرض الآثار كقطعٍ من الماضي، بل ككائناتٍ من حياةٍ أبدية، كل تمثالٍ يروى قصة، وكل برديةٍ تهمس بما لا يُقال. الفراغات المعمارية ليست مجرد تصميم، بل وعيٌ عميقٌ بفلسفة الضوء والمقدّس، حيث تتسلّل أشعة الشمس فى مساراتٍ محسوبة، لتُضيء الوجوه الملكية فى لحظاتٍ بعينها، كما لو أن الزمن ما زال يعمل بأوامر الفراعنة، تُشارك الحجارة والضوء والفراغ، لتقول جميعًا بلغةٍ لا تُترجم: «هذه مصر.. التى لا تموت». رحلة وطنٍ وفى صمتٍ عظيم يمتد الطريق، كأنه ممرّ بين زمنين، أو جسرٌ من نورٍ يعبر من التاريخ إلى الحاضر تتحرك الخطوات فوق أرضٍ مصقولة كالماء، ينعكس عليها وجه رمسيس وكأن ظله يرافقك فى كل خطوة، يراقبك لا بعين التمثال، بل بعين الوطن. الهواء هنا ليس هواءً عاديًا، بل عبير من زمنٍ آخر، يحمل رائحة البخور، وأصوات الطبول، ووقع المواكب التى كانت تسير تحت شمس طيبة قبل آلاف السنين، مشهدٌ يختصر رحلة وطنٍ بأكملها: مصر الحديثة تُكرّم ملوكها القدماء، والملوك يردون التحية بعين الكبرياء، كأن بين الماضى والحاضر عهدًا خفيًا لا ينكسر. فى تلك اللحظة، تدرك أن المشهد ليس أثريًا فحسب، بل رمزية وطنية مهيبة: فمصر الحديثة تُكرِّم ملوكها القدماء فى أبهى صرحٍ حضاري.. إنه ليس مجرد مبنى للحفاظ على الآثار، بل حوارٌ مفتوح بين الإنسان والزمن، ونشيدٌ مصريٌّ مكتوب بالحجر. الدرج العظيم أمام الزائر يمتد الدرج العظيم الذى لا يوجد له مثيل فى متاحف العالم، جدرانه تتلألأ بنقوشٍ ذهبية يحكى قصص الملوك والآلهة والجنود والكهنة، لوحاتٌ من الضوء تحوّل التاريخ إلى حياة نابضة، يُبحر الزائر فى رحلة صعود إلى الأبدية، يتدرّج فيها من الملكية المصرية، التى تضم فى بلاطها مجموعة من الملوك والملكات حكموا مصر وحققوا لها المجد والخلود عبر التاريخ، ثم ينتقل الزائر إلى البيوت المقدسة، ليشاهد أجزاءً من المعابد والمقاصير الفرعونية، بعدها يرتقى ليشهد صورا تجمع الآلهة والمعبودات مع فراعنة مصر، لوحاتٌ من الضوء تحوّل التاريخ إلى حياة نابضة. كل زاوية فى المتحف كأنها نبضة من قلب مصر، وكل قطعة أثرية تشعّ بروحٍ خاصة، كأنها تتحدث بلغتها القديمة لتروى سيرة الخلود، وعند نهاية الدرج الأعظم يصل الزائر إلى الأبدية، حيث تتجسد أهرامات مصر الخالدة، البانوراما المفتوحة، ليصبح جزءا من معروضات المتحف. الملك الصغير أيقونة المتحف الزائر لا يسير فى المتحف، بل المتحف هو الذى يسير داخله ينتقل من بهوٍ إلى آخر، من تمثالٍ إلى برديةٍ إلى تابوتٍ، حتى يصل فى نهاية الدرج الأعظم إلى قلب الحلم، حيث تلوح القاعة الكبرى التى يحتضنها النور.. قاعة الملك الصغير توت عنخ آمون ينتظر فى صمته المذهّب درة التاج وعنوان المتحف فى صرحٍ من النور. حيث تلتقى روح الجمال بروح المعرفة، ويتحوّل المتحف من مكانٍ للعرض إلى معبدٍ للوعي، هنا، تتغير ملامح الزمن مرةً أخرى، تدخلها كما يدخل المرء إلى حلمٍ ذهبيٍّ لا يشبه شيئًا مما رآه من قبل. فكل ما كان من ذهبٍ يسطع تحت الضوء، هنا تتلألأ كنوز الصبيّ الفرعون، الذى نام فى حضن الرمال ثلاثة آلاف عام، ثم استيقظ ليملأ الدنيا دهشةً وجمالًا. تبدو الأقنعة والتمائم والعجلات الحربية والتوابيت كأنها لم تُخلق من ذهبٍ فحسب، بل من نورٍ مجسّد، يفيض من العيون، ويتسلل إلى القلب بلا استئذان. حتى يخال الزائر أنه فى حضرة طفلٍ صار أسطورة، والملكٍ الذى حمل أسرار الأبدية فى تابوته، وأعاد للعالم دهشة الحضارة حين اكتُشفت مقبرته قبل أكثر من مائة عام. مراكب الشمس لا تكتمل الجولة داخل هذا الصرح الحضارى العظيم إلا حين تبحر الروح نحو معجزة أخرى، مراكب الشمس، تلك التى وُلدت عند سفح هرم خوفو، وعبرت آلاف السنين لتستقر فى قلب المتحف المصرى الكبير، شاهدةً على عبقرية الإنسان المصرى الذى لا يعرف المستحيل. إنها أقدم وأضخم أثر عضوى فى العالم، وأحد أكثر الاكتشافات إثارة فى تاريخ علم المصريات. فى القاعة الهادئة تتجسد الأسطورة بكامل أشرعتها؛ مركبٌ كاملٌ يقف فى جلالٍ مهيب، ينساب عليه الضوء برقةٍ كأنه يُوقظ الخشب العتيق من سباته، ومركبٌ آخر يُرمَّم أمام الزوار فى مشهدٍ يجمع بين العلم والسحر، بين أنفاس الحاضر وعبق الماضي. تمتد المقدمة مواجِهةً للضلع الشرقي، كأنها تبحر فى نيل الأبدية من الجنوب إلى الشمال، وهناك يخفق القلب كأنه يشارك الفراعنة حلم العبور إلى الضفة الأخرى من الحياة.. غادرتُ القاعة وقلبى ما زال يبحر فى ضوء الشمس. تركت المتحف وأنا أسمع صدى صوت التاريخ فى الجدران. مركز عالمى للترميم يُعد أكبر مركز عالمى لحفظ وترميم الآثار المصرية، ومعامل الحفريات والترميم.. كما أن تخصيص مساحات ضخمة للمومياوات والمواد العضوية يتيح دراسة أعمق للجوانب الجنائزية والدينية فى مصر القديمة. وأرى أن المشروع لا يهتم فقط بالعرض، بل بإحياء دور البحث العلمى والتوثيق، وأعتقد أن تجربة المتحف ستُحدث تغييرًا حقيقيًا فى تدريب الأجيال الجديدة من المتخصصين. ساليمة إكرام – باحثة باكستانية متخصصة فى المصريات حضارة حيّة يمثل إحياءً للذاكرة التاريخية المصرية عبر توظيف التكنولوجيا والهوية السردية فى آن واحد. وفى رأيى أن المشروع يعيد تقديم مصر ليس باعتبارها ماضيًا جامدًا، بل حضارة حيّة تتفاعل مع الحاضر.. وأؤكد هنا أن العرض المتحفى يسهم فى صياغة وعى ثقافى جديد لدى الجمهور المحلى والدولى. يان أسمن – مفكر ألمانى فى دراسات الحضارة 1.2 مليار دولار التكلفة الإجمالية لبناء المتحف وهى مزيج من القروض الميسرة ومساهمات من الحكومة المصرية وتبرعات محلية ودولية 7500 مترًا مساحة قاعة الملك «توت» مخصصة بالكامل لعرض المقتنيات 19 معملًا متخصصًا لترميم مختلف أنواع الآثار من الفخار والزجاج والمومياوات يضمها مركز الترميم 100 ألف قطعة أثرية يتم عرضها بالمتحف المصرى الجديد 50 ألف قطعة أثرية تم ترميمها للعرض بالمتحف المصرى الجديد