منذ أكثر من قرنٍ، خرجت من قلب القاهرة فكرة لم تكن مجرد بناءٍ من الحجارة، بل وعدًا بالخلود. هناك في ميدان التحرير، وقف المتحف المصري العريق كصندوقٍ يحرس أسرار الفراعنة ويمنح العالم دروسًا في الدهشة. واليوم، على ضفاف الجيزة حيث تعانق الشمس قمم الأهرامات، تولد الحكاية من جديد في المتحف المصري الكبير، أكبر متحف في التاريخ مخصص لحضارةٍ واحدة، ليعيد للعالم سؤالًا قديمًا: كيف استطاعت مصر أن تهزم الزمن؟ في حضن القاهرة، وبين جدران ميدان التحرير، يقف المتحف المصري القديم كأبٍ شامخٍ يروي قصة الزمن. أكثر من مئة وعشرين عامًا مرّت على افتتاحه، وما زال صمته العتيق يهمس بأصوات الملوك والملكات الذين حكّموا الأرض من فوق عروش من ذهب. ذلك الصرح الذي افتُتح عام 1902 لم يكن مجرد مبنى، بل وعدًا قطعته مصر على نفسها بأن تحفظ ذاكرة العالم داخل جدرانها. صممه المعماري الفرنسي مارسيل دورنون ليكون أول متحف في العالم يُقام خصيصًا لعرض الآثار. بناؤه الكلاسيكي الأنيق يشبه صفحات كتاب مفتوح على مجد الفراعنة، وجدرانه تحفظ بين طياتها أكثر من 150 ألف قطعة أثرية تروي أدق تفاصيل الحياة المصرية القديمة؛ من أدوات الفلاح البسيط إلى تاج الملوك، ومن أسرار التحنيط إلى برديات الطب والفلك والهندسة. وفي قلب المتحف، يتوّج الملك توت عنخ آمون المشهد بحضوره الذهبي الخالد، بينما تقف المومياوات الملكية كأنها تتأمل الزائر في صمت الحكمة والخلود. لكن مصر التي أنجبت الفراعنة، لا تعرف التوقف عند الماضي. فها هي تستعد لكتابة فصل جديد من الحكاية في الجيزة، على بُعد خطوات من الأهرامات، حيث يُطلّ المتحف المصري الكبير على العالم في أول نوفمبر المقبل، في مشهد يليق بحضارة لا تموت. اقرأ أيضًا| سيدي إبراهيم الدسوقي.. النور الذي يضيء دسوق كل عام ذلك المتحف، الذي صممه المكتب المعماري الإيرلندي Heneghan Peng Architects، يمتد على مساحة تقارب 500 ألف متر مربع، ليكون أضخم متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة. موقعه الفريد على هضبة الجيزة يمنح الزائر إحساسًا مهيبًا، إذ تتلاقى أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع مع واجهة المتحف الزجاجية العملاقة في مشهدٍ يختصر التاريخ كله في لحظة واحدة. يضم المتحف الجديد ما يقارب 100 ألف قطعة أثرية، من بينها نحو 50 ألف قطعة تُعرض لأول مرة. وقد جُهز بأساليب عرض تفاعلية حديثة تجعل التاريخ ينبض بالحياة، في رحلة بصرية تأخذ الزائر من أعماق المقابر الفرعونية إلى بهاء المعابد الكبرى. وفي قلب هذا الصرح الجديد، يقف تمثال الملك رمسيس الثاني مرحّبًا بالزائرين، كما لو أنه يعود ليحرس حضارته من جديد. أما مجموعة توت عنخ آمون الكاملة، فستُعرض لأول مرة في مكان واحد بعد ترميمها بأحدث تقنيات الحفظ في مركز الترميم العالمي داخل المتحف نفسه، وهو الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط. وبينما يفخر متحف اللوفر في باريس بلوحة الموناليزا، ويتباهى المتحف البريطاني بآثار من مختلف الحضارات، فإن المتحف المصري الكبير يتفرّد بعرض حضارةٍ كاملة لم تعرف الفناء. هنا تُعرض قصة الإنسان الأول الذي كتب التاريخ على جدران المعابد، وشاد الهرم ليصعد إلى السماء، وترك خلفه أسرارًا لم تفكّ رموزها بعد. ليس المتحف المصري الكبير مجرد بناء يضم آثارًا، بل بوابة نحو الخلود، تجسّد روح المصري القديم الذي آمن بأن الحياة لا تنتهي بالموت، وأن الحضارة لا تُدفن مهما مرّ الزمن. إنه امتدادٌ للمتحف القديم في التحرير، ولكنه في الوقت ذاته انطلاقة جديدة نحو المستقبل؛ حيث تتقاطع التكنولوجيا مع الفن، ويصبح الماضي حاضرًا في أدق تفاصيل الحاضر. وفي النهاية، يبقى المتحف المصري، بقديمه وجديده، سيرة وطنٍ لا يشيخ، وشاهدًا على أن مصر كانت — وستظل — منارة الحضارة التي علّمت العالم معنى البقاء. فمن "توت عنخ آمون" إلى الأهرامات، ومن جدران التحرير إلى هضبة الجيزة، تفتح مصر أبواب الخلود من جديد... وتدعونا لنقرأ على جدرانها أول وأجمل فصول التاريخ. وفي كل حجر من أحجار المتحف، وفي كل تمثال أو بردية، يتردد صدى روح المصري القديم الذي لم يعرف المستحيل. نفس اليد التي خطّت أسرار الحياة على جدران المعابد، هي التي تبني اليوم متحفًا يطل على الأهرامات ليقول للعالم: إن المصري لا يشيخ، بل يتجدد في كل عصر. فالحضارة التي وُلدت من ضوء الشمس والنيل، لا تعرف الغياب، بل تنهض كل مرة في صورة جديدة... شاهدةً على أن الخلود ليس وعدًا للفراعنة وحدهم، بل إرثٌ يسكن روح كل مصري يضع لبنة في طريق الوطن.