بعد أكثر من قرن من الزمان تغلق قاعة الملك توت عنخ آمون أبوابها في المتحف المصري بالتحرير، ذلك المكان الذي ظل لعقود طويلة شاهدًا على انبهار العالم بكنوز الفرعون الذهبي. فمنذ أن كشف هوارد كارتر مقبرة الملك الشاب عام 1922 أصبحت القاعة بمثابة قبلة للزائرين من كل القارات، حيث يتوقفون أمام القناع الذهبى والنعوش والأثاث الجنائزي، يتأملون سر الملك الذى خطف الأضواء بعد ثلاثة آلاف عام من رحيله. ◄ وداع مهيب واستقبال تاريخي من قلب القاهرة إلى حضن الأهرامات اليوم، وبعد أكثر من 103 أعوام على الاكتشاف تنطفئ أنوار القاعة إلى الأبد، وفى 20 أكتوبر 2025 سيُغلق الباب الذى حمل بين جدرانه آلاف الهمسات والدهشات والعيون المتعطشة للدهور القديمة، القاعة التى كانت شاهدة على دهشة الأطفال أمام بريق الذهب، وانحناء الباحثين أمام أسرار الماضي، وضجيج الزوار بلغاتهم المختلفة، تستعد لأن تصمت إلى الأبد. إن إغلاقها فى 20 أكتوبر 2025 ليس مجرد قرار إداري، بل مشهد وداع تراجيدى يختزن تاريخ أجيال عاشت حلم الفرعون الصغير من خلف زجاج العرض، يختصر علاقة المصريين والعالم بأيقونة الخلود، إنه مشهد يحمل مزيجًا من الحزن والفخر. المجموعة المعروضة حاليًا لا تتجاوز 26 قطعة من كنوز توت، من بينها القناع الذهبى وتابوتان مذهبان، إلى جانب النعش الداخلي، وخنجر من الذهب، وصندوق لمستحضرات التجميل، وتوابيت مصغرة، والإكليل الملكى والصدرية. ◄ رحلة الوداع القناع الذهبي الذى أسر أنظار العالم لعقود، يتهيأ لرحلة الوداع، تاركًا خلفه ذاكرة ثقيلة على جدران التحرير العتيقة. بجواره، تابوتان مهيبان، وخنجر من الذهب، والإكليل الملكي، وصدرية مذهلة من الأحجار الكريمة، جميعها ستغادر مع سيدها الشاب إلى موطن جديد. إنها ليست مجرد قطع أثرية تُنقل، بل أرواح من الماضى تتحرك فى موكب صامت إلى المتحف المصرى الكبير عند سفح الأهرامات. منذ تسجيلها بالمتحف 1934 كانت مُقتنيات توت عنخ آمون تُعد «جواهر التاج» التى تجذب ملايين الزوار، غير أن مبنى التحرير الكلاسيكي، بواجهته العريقة، بات يعانى من ضعف فى البنية التحتية وغياب تقنيات العرض الحديثة، مقارنة بما سيقدمه المتحف الجديد من قاعات مجهزة بأحدث أنظمة العرض والحفظ. لكن هذا الوداع ليس نهاية، بل بداية جديدة، فالمتحف المصري الكبير يقف على بُعد خطوات من الأهرامات ليعيد صياغة القصة بشكل أكثر إبهارًا. ولأول مرة فى التاريخ، ستُعرض المجموعة الكاملة لمقتنيات الملك توت عنخ آمون فى قاعة واحدة مهيبة، تضم أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية، من القناع الذهبى والنعوش الثلاثة، إلى الكراسى الملكية والمجوهرات ومسند القدم المزخرف، وصولًا إلى أدق تفاصيل الأثاث الجنائزى التى تعكس حياة الملك ومماته. ◄ اقرأ أيضًا | أصل الحكاية| سرقة الأسورة الملكية من المتحف المصري جريمة تهز الذاكرة الأثرية ◄ كتاب جديد إنها لحظة تختلط فيها التراجيديا بالفرحة، فبينما يطوى المتحف المصرى بالتحرير صفحة خالدة من تاريخه، يستعد المتحف المصرى الكبير لفتح كتاب جديد يُكتب بحروف من ذهب، وفى الأول من نوفمبر 2025، سيشهد العالم افتتاحًا تاريخيًا يُعيد لمصر صدارة المشهد الثقافى والإنساني، قبل أن يستقبل المتحف جمهوره ابتداءً من 4 نوفمبر، فى ذكرى اكتشاف المقبرة نفسها. ويقول الدكتور محمد إسماعيل خالد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار إن عرض مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملة لأول مرة فى قاعة واحدة بالمتحف المصري الكبير يُعد حدثًا استثنائيًا فى تاريخ علم الآثار والمتاحف عالميًا، إذ ستتاح الفرصة للزائرين من مصر والعالم لمشاهدة أكثر من خمسة آلاف قطعة فى سياق عرض متكامل يعكس ثراء مقتنيات الملك الشاب. الاهتمام لم يقتصر على مصر وحدها، فصحف ومواقع عالمية تابعت الحدث عن قرب فقد ذكرت The Art Newspaper أن أكثر من 160 قطعة من كنوز توت وصلت بالفعل إلى المتحف المصرى الكبير، فى خطوة تُقرّب العالم من أول عرض كامل لمقتنيات الملك أما Arab News فنقلت أن القناع الذهبى والنعوش لا تزال بين آخر القطع الباقية فى التحرير، لكنها ستُنقل قريبًا لتأخذ مكانها فى القاعة الجديدة، وأشارت Artnet News إلى أن هذا الانتقال «يُقرّب مصر من لحظة فارقة، حيث ستُعرض كنوز الملك الشاب لأول مرة مكتملة فى مكان واحد». ◄ تجربة فريدة ورغم أن المومياء نفسها ستبقى في مقبرتها الأصلية بوادى الملوك في الأقصر، حفاظًا على الموقع الأثري، فإن العرض المرتقب فى المتحف الكبير سيمنح الزوار تجربة لا مثيل لها، تمزج فيها تقنيات العرض الحديثة بسحر التاريخ. إنه وداع مؤلم بلا شك، لكنه وداع يليق بالملوك، فبينما تطوى قاعة التحرير صفحاتها الأخيرة، يفتح المتحف المصري الكبير فجرًا جديدًا يليق بالفرعون الذهبي. وفي الأول من نوفمبر موعد الافتتاح الرسمي، سيشهد العالم لحظة يُعاد فيها تقديم أعظم كنز أثرى فى التاريخ بعيون جديدة، قبل أن يبدأ المتحف فى استقبال زائريه من الرابع من الشهر نفسه، فى ذكرى اكتشاف المقبرة ذاتها.. هكذا يرحل توت عنخ آمون من قلب القاهرة إلى حضن الأهرامات، لا كغائب، بل كخالد يولد من جديد فى عرض أبدي، عنوانه المجد الذى لا يشيخ. الوداع مؤلم، لكنه ضرورى كى يولد المجد من جديد. فكما خرج توت عنخ آمون من ظلمة المقبرة ليضيء العالم قبل قرن، يرحل الآن من التحرير ليُشرق فى أحضان المتحف الكبير، فى عرض أبدى يليق بملك لم يعرفه العالم إلا بعد موته.