على مدى أكثر من ثلاثة آلاف عام، ظل تمثال الملك رمسيس الثاني رمزًا خالدًا لعظمة الفراعنة، وشاهدًا صامتًا على حضارةٍ صنعت المجد وكتبت التاريخ بأحجارها. واليوم، يقف هذا الملك العظيم في بهو المتحف المصري الكبير ليستقبل العالم في موكب من الضوء والدهشة، بعد رحلة امتدت عبر القرون من أعماق الأرض إلى قلب النهضة المصرية الحديثة. إنها ليست مجرد حكاية حجر، بل قصة وطن يعيد كتابة تاريخه بيديه. اقرأ أيضًا| العمود الملكي.. رحلة «مرنبتاح» من ركام المطرية إلى مجد المتحف المصري الكبير اكتشاف الملك النائم في رمال منف في عام 1820، وأثناء تنقيب عالم الآثار الإيطالي جيوفاني باتيستا كافليليا في أطلال مدينة منف القديمة (ميت رهينة)، لاحت أمامه ملامح وجهٍ ملكي ضخم من الجرانيت الوردي. لم يكن يدرك وقتها أنه يقف أمام واحد من أعظم آثار مصر القديمة: تمثال رمسيس الثاني، الفرعون الذي حكم مصر أكثر من 66 عامًا، وقاد معركة قادش الشهيرة، وبنى المعابد والتماثيل من طيبة إلى أبو سمبل. كان التمثال المهيب الذي يبلغ وزنه نحو 60 طنًا وارتفاعه أكثر من 11 مترًا مقسمًا إلى أجزاء، فاقدًا لجزء من الرأس والتاج والقدمين، لكنه احتفظ بمهابته الملكية. وبالقرب منه، عُثر على تمثال آخر راقد من الحجر الجيري، بدا وكأنه ينتظر من يوقظه من سباته العميق. حين علم محمد علي باشا بالاكتشاف، فكر في إهداء التمثال إلى ملك بريطانيا، لكن استحال نقله بسبب حجمه الضخم، فبُني حوله مأوى خشبي لحمايته، ليبقى في ميت رهينة أكثر من قرن، شاهدًا على تقادم الزمن وصمود الحضارة. - من منف إلى قلب القاهرة – موكب القرن الأول مر أكثر من مئة عام، ومع بزوغ فجر الجمهورية، قرر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1955 نقل التمثال إلى قلب العاصمة ليكون رمزًا لعظمة مصر القديمة في حاضرها الحديث. بدأت عملية النقل من ميت رهينة إلى ميدان باب الحديد (الذي أُطلق عليه لاحقًا ميدان رمسيس)، واستغرقت عدة أيام وسط إجراءات هندسية دقيقة قادها المهندس مصطفى أمين، الأمين العام لهيئة الآثار حينها. اقرأ أيضًا| جعل رمسيس يمشي واقفًا.. حكاية «حارس المتحف الكبير» ومعجزة القرن وفي صباح يوم الموكب، خرجت القاهرة عن صمتها، واصطفت الجماهير على جانبي الطرق تلوّح بأعلام مصر، تشاهد الملك العظيم يعود من مملكة التاريخ إلى قلب العاصمة. كان المشهد مهيبًا: شاحنات ضخمة، رافعات، ومواكب عسكرية تحيط بالملك كأنه في موكب تتويج جديد. ومنذ ذلك اليوم، صار تمثال رمسيس الثاني أيقونة ميدان رمسيس، يرمق القطارات العابرة ويشهد على تحولات مصر الحديثة. - رمسيس الثاني في وجدان المصريين والعالم تحول التمثال إلى رمز وطني وثقافي، وارتبط اسمه بالهوية المصرية في الأدب والفن. كتب الشعراء عنه قصائد تمجد صموده، وغنّى الفنانون باسمه في الأعمال الدرامية، وظهر في اللوحات الإعلانية والأفلام الوثائقية كأحد أهم رموز الحضارة المصرية. حتى أن الزائرين الأجانب كانوا يحرصون على التقاط الصور بجواره قبل زيارة الأهرامات، كأنه "الملك الذي يستقبلهم باسم مصر". - قرار العودة إلى الغرب – حماية الأثر وإحياء التاريخ مع مرور العقود، بدأت الأصوات تتعالى لحماية التمثال من التلوث والاهتزازات الناتجة عن حركة القطارات والسيارات في ميدان رمسيس. وفي عام 2005، أُعلن رسميًا عن قرار نقله إلى المتحف المصري الكبير، بعد دراسات هندسية وأثرية مكثفة شارك فيها خبراء مصريون وأجانب. وفي 25 أغسطس 2006، شهدت مصر موكبًا أسطوريًا جديدًا، حين انطلق التمثال العملاق فجرًا في رحلة امتدت أكثر من 30 كيلومترًا من وسط القاهرة إلى موقع المتحف في الرماية بالجيزة. تم تأمين الموكب بآلاف الجنود والمهندسين، ورافقت التمثال عربات مخصصة لامتصاص الاهتزازات، بينما كانت الجماهير تصفق على طول الطريق، تودع رمزها التاريخي في رحلته الأخيرة نحو المجد. استغرقت الرحلة أكثر من 10 ساعات، وتابعها الملايين عبر شاشات التلفزيون، في مشهدٍ مهيب وصفه الإعلام الغربي بأنه "أحد أعظم مواكب النقل الأثري في التاريخ الحديث". - الملك في عرشه الجديد – فجر جديد للمتحف المصري الكبير اليوم، يقف رمسيس الثاني شامخًا في بهو المتحف المصري الكبير عند مدخل الواجهة الزجاجية الضخمة التي تطل على أهرامات الجيزة. يستقبل زوار العالم بابتسامته الهادئة وعينَيه اللتين تحملان ألف عام من الحكمة والخلود. اقرأ أيضًا| عظمة الحضارة المصرية.. تمثال رمسيس الثاني يتصدر مدخل المتحف المصري الكبير تحيط به عشرات القطع الأثرية التي تحكي قصص مصر القديمة، ويقابل الزوار كأول ما يرونه عند دخولهم المتحف، كأنه بوابة العبور إلى الحضارة الفرعونية. وقد خضع التمثال لعمليات ترميم دقيقة داخل المتحف للحفاظ على تفاصيله الأصلية من النقوش والملامح، واُستخدمت أحدث تقنيات الإضاءة لإبراز عظمته. - رمسيس الثاني.. من حجر إلى أسطورة لم يعد تمثال رمسيس الثاني مجرد قطعة من الجرانيت الوردي، بل صار رمزًا خالدًا لروح مصر التي لا تعرف الفناء. منذ أن أفاق من سباته في ميت رهينة إلى أن استقر في عرشه الجديد ببهو المتحف المصري الكبير، جسّد هذا التمثال قصة مصر نفسها: حضارة تُبعث من جديد، قوية، خالدة، تبهر العالم كل يوم من قلب المتحف الأكبر في التاريخ.